إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(22)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ مَعْبُودَكُمُ الذي يَسْتَحِقُّ مِنْكُمُ الطاعَةَ، وإِفرادَهُ بالعِبادَةَ، دُونَ سائِرِ الأَشْيَاءِ: هُوَ واحِدٌ في ذاتِهِ، واحدٌ في صِفاتِهِ، واحِدٌ في أَفْعَالِهِ، فلَا تَصْلُحُ العِبَادَةُ إِلَّا لَهُ ـ سُبحانَهَ وتَعَالَى، فأَفِرِدُوا لَهُ الطاعَةَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا سِواه شَريكًا مَعَهُ. وقَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ في الآيَةِ السَّابقَةِ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، لِذَلِكَ فِإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ ـ سُبْحانَه، اسْتِحَالَةَ الْإِشْرَاكِ بِاللهِ ـ تَعَالَى، بَيَّنَ هُنَا أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ. فَقد ثَبَتَ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ وهوَ اللهُ تَعَالَى. وجاءَ هَذا الاسْتِئْنَافُ كَنَتِيجَةٍ لِحَاصِلِ الْمُحَاجَّةِ الْمَاضِيَةِ. وَلِكَوْنِ مَا مَضَى مِنْ أَدِلَّةٍ كَافِيًا فِي إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةَ للهِ تَعَالَى، عَرِيَتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْمُؤَكِّدِ، وذلك تَنْزِيلًا لِحَالِ الْمُشْركينَ ـ بَعدَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ، مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيةِ: 4، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}، لِأَنَّهُ جاءَ هناكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ ولَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَلِيلٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ في الآيةِ: 163، مِنْ سُورَة الْبَقَرَةِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} كانَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ.
قولُهُ: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} أَيْ: فالذينَ لا يُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بالمَعَادِ إِلَيْهِ تَعَالَى بَعْدَ الموتِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ: أَيْ جَاحِدَةٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ، لا تَقْبَلُ الوَعْظَ وَلا يَنْفَعُ فِيهَا الذِّكْرُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. وقَدِ اسْتُعْمِلَ الْإِنْكَارُ فِي جَحْدِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ. فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْكِرَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْكِرَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ. وَهُوَ تَفْريعٌ عَلَى الْإِخْبَارِ المُتَقَدِّمِ بإِخْبَارٍ آخَرَ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ مُنْكِرَةٌ، أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْقَاطِعَةِ في مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ على وحدانيَّةِ اللهِ تَعَالَى، يَتَفَرَّعُ عَنْها أَنَّ قُلُوبَكُمْ مُنْكِرَةٌ، وَأَنْتُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَأَنَّ ذَلِكَ كلَّهُ ناشِئٌ عَنْ عَدَمِ إِيمَانِكُمْ بِالْآخِرَةِ.
وَقد عبَّرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْصُولِ "الَّذِينَ" وَصِلَتِهِ وَهِيَ جُمْلَةُ "لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ" لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مَنْ هُمْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ، وَاشْتُهِرُوا بِهَا اشْتِهَارَ لَمْزٍ وَتَنْقِيصٍ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَة الْفرْقَان: {وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا} الآيَةَ: 21، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّلَةِ ارْتِبَاطًا بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْعِنَادِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ظِهْرِيًّا، فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا مُؤَاخَذَةً عَلَى نَبْذِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حَقٌّ فَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ أَحَقِّيَّتِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ أَعَدَّ لِلنَّاسِ يَوْمَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَجاءَ هُنَا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ "قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ" لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهم ثَابِتٌ دَائِمٌ لا يَتَحَوَّلُ ولا يَتَغَيَّرُ، لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْكَارَ صَارَ لَهُمْ طَبْعًا، وَتَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهِ وابْتُلوا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَاعْتَادُوا عَدَمَ التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ.
قولُهُ: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أَيْ: مُتَكَبِّرُونَ مُتَعَظِّمُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. فقَدْ جاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ كَذَلِكَ اِسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ مِنْهُمْ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي الآيَةِ لْفُرْقَانِ: 21، مِنْ سُورَةِ الفُرْقانِ: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِثْلُ الدَّلَائِلِ التي ذُكِرَتْ قبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إِلَهُكُمْ: مرفوعٌ بالابْتِداءِ مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّر. و "إِلَهٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، و "وَاحِدٌ" صِفَةٌ لازِمَةٌ لَهُ مرفوعةٌ مثلهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} فَالَّذِينَ: الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، مُبْتَدَأٌ أَوَّل. و "لَا" نافيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا، وَ "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "بِالْآخِرَةِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُونَ"، وَ "الْآخِرَةِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "قُلُوبُهُمْ" مُبْتَدأٌ ثانٍ مرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "مُنْكِرَةٌ" خَبَرٌ لَهُ مرفوعٌ، وهذهِ الجُمْلَةُ مِنَ المبتَدَأِ الثاني وخَبَرِهِ، خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ الأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ المُبْتَدَأِ الأَوَّلِ مَع خَبَرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} الوَاوُ: واوُ الحالِ، و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "مُسْتَكْبِرُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، و "مُسْتَكْبِرُونَ"، جَمْعُ "مُسْتَكْبِرٍ"، وهو اسْمُ فاعِلٍ مِنِ "اسْتَكْبَرَ" السُداسِيِّ، وَزْنُهُ "مُسْتَفْعِلٌ" بِضَمِّ المِيمِ وكَسْرِ العَيْنِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَمِيرِ في "قُلُوبُهُمْ"؛ لأَنَّ المُضافَ جُزْءٌ مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ.