الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 39
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} أَغْوَيْتَني: أَضْلَلْتني، فالْغَوَايَةُ ـ بِفَتْحِ الْغَيْنِ: الضَّلَالُ. وَقَسَمُهُ في الآيةِ: 82، مِنْ سُورةِ (ص) حيثُ قالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين} فَأَقْسَمَ بِعِزَّةِ اللهِ المُفَسَّرةِ بِسُلْطانِهِ وَقَهْرِهِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ الإلهيَّةِ، وهوَ لا يُنَافي قَسَمَهُ هُنَا بَإغواءِ اللهِ لَهُ، فَإِنَهُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ عِزَّتِهِ ـ سُبْحانَهُ، وسُلْطانِهِ وقَهْرِهِ، وأَثَرٌ مِنْ آثارِهَا. وَلَعَلَّ إِبليسَ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا فَحَكَى اللهُ تَعَالَى قَسَمَهُ بِهَذَا تَارَةً، وبِذَاكَ أُخْرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مُرادُهُ القَوْلَ: رَبِّ بِسَبَبِ مَا أَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي، وَأَضْلَلْتَنِي، لَأُزَيِّنَنَّ لِذُرِّيَّةِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعْصِيَتَكَ فِي الْأَرْضِ، وأُحَبِّبْها إِلَيْهِمُ، وَأُرَغِّبْهُمْ فِيهَا، وأُزْعِجْهم إِلَيْها إِزْعاجًا، وأَؤُزُّهم عَلَيْها أَزًّا. فَقدْ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أَنَّهم قالُوا: الباءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ كَوْنِي غَاوِيًا لَأُزَيِّنَنَّ، وهو كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَقْسَمَ فُلَانٌ لَيَدْخُلَنَّ النَّارَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَلَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِطَاعَتِهِ. إِذًا فَقَدْ أَقْسَمَ إِبليسُ بِإِغْوَاءِ اللهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: الْقَسَمُ بِصِفَاتِ الذَّاتِ صَحِيحٌ، أَمَّا بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ في قَوْلِهِ "بِما أَغْوَيْتَنِي" إِشَارَةٌ إِلَى غَوَايَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ تعالى، وَهِيَ الَّتِي جَبَلَهُ عَلَيْهَا، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ لِحِكَايَتِهَا طَرِيقَةُ الْمَوْصُولِيَّةِ "ما"، وَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ الشَّيْطَانِ هَذَا طَفْحٌ بِمَا فِي جِبِلَّتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ تَشَفِّيًا، أَوْ إِغَاظَةً، لِأَنَّ الْعَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ.
قولُهُ: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} لأزيننَّ" جَوابُ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، والمَعْنَى بِسَبَبِ تَسَبُّبِكَ لإغْوائي، أُقْسِمُ لأَفْعَلَنَّ بِهم مِثْلَ مَا فَعَلْتَ بِي مِنَ التَسَبُّبِ لإِغْوائهم بِتَزيِينِ المَعَاصِي لهم، وتَسْويلِ الأَباطِيلِ. وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا، أَيْ حَسَنًا. وَقد حُذِفَ مَفْعُولُ "لَأُزَيِّنَنَّ" لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمُ الشَّرَّ، وَالسَّيِّئَاتِ، فَيَرَوْنَهَا حَسَنَةً، وَأُزَيِّنُ لَهُمُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْمَلَاذِّ الَّتِي تَشْغَلُهُمْ عَنِ الْوَاجِبَاتِ. وقولُهُ: "فِي الْأَرْضِ" أَي: لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ المَعَاصيَ في الدُّنْيا التي هِيَ دَارُ الغُرُورِ، وَتَزْيِينُهُ إِنَّما يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلِ الْمَعَاصِي، وَإِمَّا بِشَغْلِهِمْ بِزِينَةِ الدُنْيا عَنْ فِعْلِ الطاعَاتِ. وَزِيَادَةُ "فِي الْأَرْضِ" لِأَنَّ الأَرْضَ أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ عِنْدَما تَخْطُرُ لَهُ الْغَوَايَةُ، لِاقْتِرَانِ الْغَوَايَةِ بِالنُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ، وقدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 34، السابقةِ مِنْ هذه السورةِ الكريمةِ: {فَاخْرُجْ مِنْها}، أَيِ: اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ سُورَة الْبَقَرَة قولُهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} الآية: 36، وَلِأَنَّ جَعْلَ التَّزْيِينِ فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ انْتِشَارَهُ فِي جَمِيعِ مَا عَلَيْها مِنَ المَخْلوقاتِ وَأَحْوَالِ هَذِهِ المَخْلوقاتِ.
قَوْلُهُ: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ: ولَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى والصَّلاحِ والاسْتِقامَةِ. وَالْإِغْوَاءُ: أَنْ جَعْلُهُمْ غَاوِينَ. وَإِغْوَاءُ النَّاسِ كُلِّهِمْ هُوَ أَشَدُّ أَحْوَالِ غَايَةِ الْمُغْوِي، إِذْ كَانَتْ غَوَايَتُهُ مُتَعَدِّيَةً إِلَى إِيجَادِ غَوَايَةِ غَيْرِهِ. لكنَّ اللهَ تعالى بِمَحْضِ كَرَمِهِ وفَضْلِهِ تعهَّدَ لِبَني آدَمَ بالعفوِ والمَغْفِرةِ، مهما كَثُرَتْ ذُنوبُهم وخطاياهم، فقالَ في كتابِهِ العزيز: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} الآية: 82، منْ سورةِ طه، وآياتُ المغفرةِ كثيرةٌ في كتابِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وكذلكَ الأحاديثُ القدسيَّةُ والنبويَّةُ، مِنْ ذلك ما رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَبْدُ اللهِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ إِبْلِيس قَالَ يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَامِهِمْ. فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَروني)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (3/29، رقم: 11255)، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (ص: 290، رقم: 932)، وأَبُو يَعْلَى: (2/530، رقم: 1399)، والحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ: (4/290، رقم: 7672) وَقالَ: صَحيحُ الإِسْنَادِ على شرطيهِما ولم يُخرِّجاهُ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الطَبَرانيُّ في الأَوْسَطِ: (8/333، رقم: 8788). ورَوَاهُ البَغَوِيُّ في تَفْسِيرِهِ بِزِيادَةِ: ((وَارْتِفَاعِ مَكَانِي)). وقالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيْثَمِيُّ: (10/207): رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ، والطَبَرانِيُّ في الأَوْسَطِ، وأَحَدُ إِسْنَادَيْ أَحْمَدٍ وأَبي يَعْلَى المَوْصِلِيِّ رِجَالُهُ رِجالُ الصَحيحِ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} قَالَ: فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى {إِبْليس}، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "رَبِّ" مُنَادَى مُضافٌ مَحْذوفٌ مِنْهُ أَدَاةُ النِّداءِ، مَنْصُوبٌ، وَعَلامَةُ النَّصْبِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ الياءِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفِيفِ، وهو مُضافٌ، والياءُ المَحذوفَةُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وجُمْلَةُ النِّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ". و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ وَقَسَمٍ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: أَقْسَمْتُ بِإِغْوائكَ إِيَّايَ، لأَنَّ الإِغْواءَ يُقْسَمُ بِهِ عندَ بعضِ المُفَسِّرينَ باعْتِبارِهِ مِنْ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى، و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ أَنَّ الباءَ للسَّبَبِيَّةِ، و "ما" مَوْصُولَةٌ عِنْدَ بعْضٍ آخَرَ مِنْ المُفَسِّرينَ، لأَنَّ القَسَمَ بالإِغْواءِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ في التَفْسِيرِ تَفْصِيلُ بَيَانِهِ، و "أَغْوَيْتَنِي" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وَهِيَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، فاعِلُهُ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والنُونُ للوِقايَةِ، وهذه الجملةُ الفِعْلِيَّةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِبَاءِ القَسَمِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذوفِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قولُهُ: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} اللَّامُ: هيَ المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، و "أُزَيِّنَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكِيدِ الثقيلةِ، في مَحَلِّ الرَّفْعِ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعودُ عَلَى الشَّيْطانِ الرَّجيمِ، والنونُ الثقيلةُ للتوكيدِ. و "لَهُمْ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ "أُزَيِّن"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بحالٍ مِنَ الضَميرِ في "لَهُمْ"، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلةُ الفِعْليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ عَلَى كَوْنِها جَوابَ القَسَمِ.
قولُهُ: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الواوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، و "لَأُغْوِيَنَّ" مثلُ "لَأُزَيِّنَنَّ" معطوفةٌ عَلَيْها، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ النَّصْبِ، مفعولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "أَجْمَعِينَ" تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ المَفْعولِ بِهِ.