وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} وقالَ في الآيةِ الثانيةِ مِنْ سُورةِ المُلْكِ: {الذي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ}. يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى بَدْءِ الخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الذِي أَحْيَا الخَلْقَ مِنَ العَدَمِ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ كُلَّهُمْ لِيَومِ الجَمْعِ. اسْتِدْلَالٌ جديدٌ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَوَحْدانيَّتِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِبني آدمَ والْحَيَوَانَاتِ والنباتاتِ، وقُدِّمَ الضميرُ "إنَّا" لإفادةِ حصرِ الإحياءِ والإماتةِ بذاتِهِ العليَّةِ، أَيْ: لَا قُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَلَا عَلَى الْإِمَاتَةِ إِلَّا لَنَا. و "نُحْيِي" بإيجادِ الحياةِ في بَعْضِ الأَجْسامِ القابِلَةِ لَها، وَ "نُمِيتُ" بحَجْبِها عَنْها. فالحياةُ صِفَةٌ وُجوديَّةٍ، وهيَ صِفَةٌ تَقتَضِي الحِسَّ والحَرَكَة الإرادِيَّةَ والمَوْتُ يَعْني زَوالَ هذِهِ الصِفَةِ عنها، وقيلَ: إِنَّ المَوْتَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ مُضادَّةٌ لِصِفَةِ الحياةِ وهاتانِ الصفاتانِ تَعُمَّانِ الإحْياءَ والإماتَةَ بِحَيْثُ تَشْمُلانِ الحيَوانَ والنَبَاتَ.
قولُهُ: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَيْضًا أَنَّه يَرِثُ الأَرْضَ وَمَا عَلَيهَا، لأَنَّهُ لاَ يَبْقَى فِي الوُجُودِ حَيٌّ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ. أَيْ: إِنَّهُ إِذَا مَاتَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مُلْكُ الكُلِّ عِنْدَ مَوْتِهِم، وَيَكُونُ اللهُ هُوَ الْبَاقِي الْحَقُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ الْمَمْلُوكَاتِ وَحْدَهُ، فَشَبَّهَهُ بِالْإِرْثِ لأَنَّهُ يَكونُ وَارِثًا مِنْ هَذَا الوَجْهِ. أَيْ: ونَحْنُ الباقونَ بَعدَ فَنَاءِ الخَلْقِ قاطِبَةً المالكونَ للمُلْكِ عِنْدَ انْقِضاءِ زَمَانِ المُلْكِ المَجَازِي، فهو سُبْحانَهُ الحاكِمُ في الكُلِّ أَوَّلًا وآخِرًا وَما تَصَرُّفُ الخَلْقِ إِلَّا صُورِيًّا ومُلْكُهم مَجَازِيٌّ. وقدْ فُسِّرَ الوارثُ بالباقي، رُوِيَ ذلكَ عَنْ سُفْيانَ وغَيْرِهِ، كما فُسِّرَ بِذَلِكَ في قولِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، في دُعائهِ: ((اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْماعِنَا وَأَبْصارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا)). وهوَ مِنْ بابِ الاسْتِعارَةِ. وهذا جزءٌ من حديثٍ أَخرجهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ، من حديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: ((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا)). سُنَن التِرْمِذِيِّ: (5/528، رقم: 3502) وقال: حَسَنٌ غَريبٌ. وأَخْرَجَهُ ابْنُ المُبَارَكِ في الزُهْدِ: (1/144، رقم: 431)، والحاكمُ في مُسْتَدْرَكِهِ: (1/709، رقم: 1934) وقال: صَحيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَاري. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائيُ في السُنَنِ الكُبْرى: (6/106، رقم: 10234)، والدَّيْلَمِي: (1/485، رقم: 1981).
قولُهُ تَعَالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "إِنَّا" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "لَنَحْنُ" اللامُ: المُزحلَقَةُ للتَوكيدِ أو (حَرْفُ ابتِداءٍ)، و "نحن" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. و "نُحْيِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ. وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، و "وَنُمِيتُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ مَعْطوفٌ عَلى "نُحْيِي"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وهذه الجُمْلةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ".
قولُهُ: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} الواوُ: للعطفِ، و "نَحْنُ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "الْوَارِثُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ وعلامةُ الرفعِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذَهَ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ قَبْلَها، عَلى كَوْنِها خَبَرًا لِـ "إنَّ".