الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 12
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الإشارَةُ بـ "كَذَلِكَ" إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ السَّابِقُ مِنْ إِلْقاءِ الوَحْيِ مَقْرونًا بالاسْتِهْزاءِ، وصِيغَةُ المُضارِعِ "نَسْلُكُهُ" لِكَوْنِ المُشَبَّهِ بِهِ مُقَدَّرًا في الوُجُودِ، وَهُوَ السَّلْكُ الوَاقِعُ في الأُمَمِ السَّالِفَةِ، أَوْ للدَلالَةِ عَلى اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، و "نَسْلُكُهُ" نُدْخِلُهُ، وسَلَكَ الشيْءَ في الشيْءِ أَدْخَلَهُ فيهِ، قالَ تعالى في الآية: 42، مِنْ سورةِ المُدَّثِرِ: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ}، أَي: مَا أَدْخلَكمْ فِيها؟. ومِنْهُ قولُ الشَّاعِرِ الجاهليِّ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ العبادي، مُخَاطِبًا المَلِكَ النُّعْمَانَ بْنَ المنذِرِ:
وكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ ............ وَقَدْ سَلَكوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ
اللِّزازُ: مَا يُتَرَّسُ بِهِ البابُ، والعَرْدُ: الشَّديدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، والصُّلْبُ المُنْتَصِبُ، وعَرَّدَ الرَّجُلُ تَعْريدًا، أَيْ فَرَّ أَيْضًا، والمَعْنَى: كُنْتُ صلبًا شديدًا إِلَى جانِبِكَ أَمْنَعُ عَنْكَ وأُدافِعُ عَنْكَ فِي الأَوْقاتِ العَصِيبَةِ، وَلَمْ أُحْجِمْ وَلَمْ أَتَراجَعْ.
يُقَالُ: سَلَكَهُ يَسْلُكُهُ سَلْكًا وسُلُوكًا، وأَسْلَكَهُ إِسْلَاكًا. وَسَلَكَ الطَّرِيقَ سُلُوكًا وَسَلْكًا وَأَسْلَكَهُ دَخَلَهُ، وَسلَكَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِهِ أَدخَلَهُ فيهِ، وَالرُّمْحَ فِي الْمَطْعُونِ، وَالْخَيْطَ في المِخْيَطِ كَذَلِكَ، كُلُّهُ فَعَلَ وَأَفْعَلَ. والسِّلْكُ (بِالْكَسْرِ) الْخَيْطُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَذَلِك نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ" قَالَ: الشِّرْكُ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ" قَالَ: الشِّرْكُ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "كَذَلِكِ نَسْلُكُهُ" قَالَ: هُمْ كَمَا قَالَ: هُوَ مَنْ أَضَلَّهمْ وَهو الذي مَنَعَهُمْ الْإِيمَانَ.
ويُقالُ: سَلَكَ الخَيْطَ فِي الإِبْرَةِ وَأَسْلَكَهُ، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِيها، فهُمَا بِمَعْنًى واحِدٍ، وَمِنِ استعمالِهمْ الفعلَ (أَسْلَكَهُ) قَوْلُ سَاعِدَةَ بْنِ العَجْلانِ:
وهُمْ مَنَعُوا الطَّرِيقَ وأَسْلَكُوهُم ................. عَلَى شَمَّاءَ مَهْواها بَعِيدُ
فإنَّ مَعْنَى الآيةِ: كَمَا سَلَكْنَا الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالرُّسُلِ فِي قُلُوبِ شِيَعِ الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ نُدْخِلُهُ، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ قَوْمَكَ، يا مُحَمَّدُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و "المُجْرِمينَ" هُمُ الكافِرونَ لأَنَّ كُفْرَهمْ بِمَوْلاهُمْ وتَكَذيبَهم رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَفْظَعُ الجُرْمِ وأَعْظَمُ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى. والمعنى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُدْخِلُ القُرْآنَ الكَريمَ فِي قُلُوبِ المُجْرِمينِ، فَيَكْشِفُ ما فِيها مِنْ زِيفٍ وتَكَبُّرٍ عَلَى الحَقِّ وَكُرْهٍ شديدٍ لَهُ، واسْتِهْزاءٍ بِهِ، فَتَنْطِقُ بِذَلِكَ أَلْسِنَتُهم، لأَنَّهُم لَيْسَ فِي نُفُوسِهِمْ اسْتِعْدَادٌ لِتَلَقِّي الحَقِّ، واسْتِقْبالِ نُورِهِ لِتُضِيءُ نُفُوسُهُمْ بِمَصَابِيحِ هِدَايَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ، فهُمْ كَالذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ مِنَ الكَفَرَةِ في الأُمَمِ السَّالِفَةِ، فِي مُعَامَلَتِهم لأَنْبِيَائهم ـ عَلَيْهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ، ولِذَلِكَ فَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وأَنتَ يَا مُحَمَّدُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لَكَ أُسْوَةٌ بِمَنْ سَبَقَكَ مِنَ أُولئك الرُّسُلِ.
وَفِي هِذِهِ الآيةِ الكريمةِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. كما هُيَ حُجَّةٌ عَلَى المُعْتَزِلَةِ في الأَصْلَحِ وَخَلْقِ الأَفْعَالِ. ذَلِكَ لأَنَّ قَوْلَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" يعني أَنَّهُ يَخْلُقُ الْبَاطِلَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، أَيْ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، فقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَمْ يَجْرِ لِلضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ذِكْرٌ فِيمَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ في الآية التي قبلَها: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} وقولُهُ: {يَسْتَهْزِؤُنَ} يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" عَائِدٌ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، فَثَبَتَ صِحَّةُ قَوْلِنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ" هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بعدَ ذَلِكَ: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية: 13، من هذه السورةِ، عَائِدًا أَيْضًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ، لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ تَعَاقَبَا وَتَلَاصَقَا، فَوَجَبَ عَوْدُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِكُفْرِهِ، وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الْمُسْلِمُ الْعَالِمُ بِبُطْلَانِ الْكُفْرِ فَلَا يُصَدِّقُ بِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسَلُكُ الْكُفْرَ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَيَخْلُقُهُ فِيهِ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَلَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذُمَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الوجْهِ، فَنَقُولُ: التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} وَقَالَ بَعْدَهُ: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" أَيْ هَكَذَا نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّلْكِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ، وَيَخْلُقُ فِي قُلُوبِهِمْ حِفْظَ هَذَا الْقُرْآنِ، وَيَخْلُقُ فِيهَا الْعِلْمَ بِمَعَانِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ـ لِجَهْلِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِنَادًا وَجَهْلًا، فَكَانَ هَذَا مُوجِبًا لِلُحُوقِ الذَّمِّ الشَّدِيدِ بِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" عَائِدًا إِلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ مُتَعَاقِبَانِ، فَيَجِبُ عُودُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: "كَذلِكَ" مَعْنَاهُ: مِثْلَ مَا عَمِلْنَا كَذَا وَكَذَا نَعْمَلُ هَذَا السَّلْكَ، فَيَكُونُ هَذَا تَشْبِيهًا لِهَذَا السَّلْكِ بِعَمَلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْرِ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ اللهِ ذِكْرٌ فِي سَابِقَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمُشَبَّهًا بِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "نَسْلُكُهُ" عَائِدًا إِلَى الذِّكْرِ وَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ الْقَوْمِ مِنَ المعتزلةِ.
وَالْجَوَابُ عَلَى تَأْويلِ المُعْتَزِلَةِ هَذَا: أَنَّه لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "نَسْلُكُهُ" عَائِدًا عَلَى الذِّكْرِ، مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَّلُها: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ مَذْكُورٌ بِحَرْفِ النُّونِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِظْهَارُ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ كَامِلٌ بِحَيْثُ صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ لَهُ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا. فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ غَالِبًا قَاهِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِنِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالْأَمْرُ هَهُنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَكَ إِسْمَاعَ الْقُرْآنِ وَتَحْفِيظَهُ وَتَعْلِيمَهُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ لِأَجْلِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، فَصَارَ فِعْلُ اللهِ تَعَالَى كَالْهَدْرِ الضَّائِعِ، وَصَارَ الْكَافِرُ وَالشَّيْطَانُ كَالْغَالِبِ الدَّافِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ النُّونِ الْمُشْعِرِ بالعَظَمَةِ والجَلالةِ في قولِهِ: "نَسْلُكُهُ" غَيْرَ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَقَامِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدٌ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، أَيْ وَمَعَ هَذَا السَّعْيِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَمَّا لِمَ يَذْكُرِ الْوَاوَ فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ كَالتَّفْسِيرِ، وَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّا نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} الآية: 9، من سورة الحِجْر بعيدٌ، وقولَهُ: {يَسْتَهْزِؤُونَ} قَرِيبٌ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ هُوَ الْوَاجِبُ. أَمَّا قولُه: لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "نَسْلُكُهُ" عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ، {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} عَائِدًا إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ.
قالَ الرازيُّ والجَوَابُ عَنْ هذا مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اعْتِبَارِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ وَحَصَلَ الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي الضَّمِيرِ الثَّانِي فَلَا جَرَمَ قُلْنَا: الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ الْمُتَعَاقِبَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْسَ بِقَلِيلٍ فِي الْقُرْآنِ، أَلَيْسَ أَنَّ الْجُبَّائِيَّ وَالْكَعْبِيَّ وَالْقَاضِيَ قَالُوا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآيتان: 189، 190، منْ سُورةِ الْأَعْرَافِ، فَقَالُوا هَذِهِ الضَّمَائِرُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ} عَائِدَةٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: {جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} عَائِدَةٌ إِلَى غَيْرِهِمَا، فَهَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَاقُبِ الضَّمَائِرِ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلى الدليلِ فَكَذَا هاهُنا، واللهُ أَعْلَمُ.
الوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ تَفْسِيرٌ لِلْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: "نَسْلُكُهُ" وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ نَسْلُكُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ وَالْمَعْنَى نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَالوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا بَيَّنَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالصِّدْقَ، وَالْعِلْمَ وَالْحَقَّ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْحَقَّ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْبَاطِلُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ: فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنَّمَا رَضِيَ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ سَابِقٍ عَلَيْهِ فَيَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِلَّا وَجَبَ انْتِهَاءُ كُلِّ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ سَابِقٍ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ لَا بِتَحْصِيلِهِ بَلْ بِتَخْلِيقِ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَأَيْضًا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِذَتِهِ أَطْبَقُوا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَكَانَ مَرْدُودًا، وَرَوَى الْقَاضِي عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، ثم قال الْقَاضِي: إِنَّ الْقَسْوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُعَانِدَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَيُقَالُ لِلْقَاضِي: إِنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ وَنَبْوَةً عَظِيمَةً عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ كُلَّمَا رَآهُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، وَرُبَّمَا ارْتَعَدَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ لِقَوْلِهِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ؟
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ فَنَقُولُ هَذَا مُغَالَطَةٌ مَحْضَةٌ، لِأَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالنَبْوَةِ الْعَظِيمَةِ فِي النَّفْسِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ وَالرِّضَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ يُمْكِنُهُ الْعَوْدُ إِلَى الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَهَذَا حَقٌّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ عَنِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ لَافْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ إِلَى دَوَاعِي سَابِقَةٍ عَلَيْهَا وَلَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ اللهُ، تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ فِي الْقُلُوبِ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. تفسير الرازي (مفاتيح الغيب) أو (التفسير الكبير) (19/127).
قولُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمينَ} كَذَلكَ: الكافُ: حرفُ جَرٍّ وتشبيهٌ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ هو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عامِلُهُ "نَسْلُكُ"، ويَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الكافُ مَرْفُوعَةَ المحلِّ عَلَى أَنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: الأَمْرُ كَذَلِكَ. "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ والإشارةُ إلى الاسْتِهْزاءِ والتَكْذِيبِ، والكافُ الثانيَةُ: للخِطابِ. و "نَسْلُكُهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ "نَحْنُ" يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، والهَاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. والظاهِرُ عَوْدُ هَذِهِ الهاءِ لِلْذِّكْرِ، وقِيلَ: يَعُودُ للاسْتِهْزاءِ. وقيلَ: عَلَى الشِّرك! و "فِي" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَسْلُكُ"، و "قُلُوبِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "الْمُجْرِمِينَ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جرٍّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ عَنِ التَنْوِينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ مَنْصُوبَةَ المَحَلِّ: إِمَّا نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: مِثْل ذَلِكَ السَّلْكِ ونَحْوِهِ نَسْلُكُهُ، أَيْ: نَسْلُكُ الذِّكْرَ، وإِمَّا حَالًا مِنَ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ.
الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 1