الموسوعة القرآنية فيض العليم ... سورة إبراهيم، الآية: 37
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} دُعَاءٌ ثَانٍ بَعْدَ الدُّعَاءِ الأَوَّلِ الذي دَعَا بِهِ إبراهيمُ ـ عليهِ السَّلامُ، رَبَّهُ عَنْدَمَا وَلَّى عَنْ هَاجَرَ وَوَلَدِهَا، وَقَدْ كَانَ الدُّعاءُ الأَوَّلُ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ، أَمَّا هَذَا الدعاءُ فقد كَانَ بَعْدَ بِنَائِهِ لِقَوْلِهِ: "عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ". و "مِنْ ذُرِّيَّتِي" قَالَ الفَرَّاءُ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: بَعْضِ ذُرِّيَّتِي. يعني بذلك ابنَهُ إسماعيلَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ، أَوْ صِلَةٌ، أَيْ: أَسْكَنْتُ ذُرِّيَّتِي، وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ لِلتَوْكِيدِ، كَمَا قالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تَبَسَّمْنَ عَنْ نَوْرِ الأَقَاحيِّ في الضُّحَى ... وفَتَّرْنَ مِنْ أَبْصَارِ مضْرُوجةٍ نُجْلِ
والْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ هَاجَرَ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ" قَالَ: أَسْكَنَ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ. وذَلِكَ لأنَّ زوجَهُ سَارةَ كانَتْ قدْ وهبتْ لَهُ جاريتَهَا هَاجَرَ أُمَّ إِسْمَعِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمَّا وَلَدَتْ لَهُ إِسْمَعيلَ، غَارَتْ مِنْهِمَا، فَنَاشَدَتْهُ أَنْ يُخْرِجَهُمَا مِنْ عَنْدِهَا، فَأَخْرَجَهُمَا إِلَى أَرْضِ مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، والنَصُّ لَهُ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ والجِنْدِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِل عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ" حَتَّى بَلَغَ "يَشْكُرُونَ"، وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا)) فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ صَهٍ ـ تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ)) أَوْ قَالَ: ((لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا))، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَهُنَا بَيْتَ اللهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ)) فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ اللَّحْمُ، قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ المَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ)). قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَهُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} الآية: 127، مِنْ سورةِ البقرة، قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}.
قولُهُ: {بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} أَيْ: لا أَمَلَ في زِراعَتِها بِمَجْهودٍ إِنْسانِيٍّ، ولَا يَصْلُحُ لِلنَّبْتِ لِأَنَّهُ حِجَارَةٌ، وَليسَ إِلَّا العَطَاءُ الرَبَّانيُّ للحُصُولِ عَلَى الرِزْقِ فِي هَذَا المَكانِ. فَإِنَّ كَلِمَةَ ذُو تَدُلُّ عَلَى صَاحِبِ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: ذُو مَالٍ، فَالْمَالُ ثَابَتٌ لَهُ، وَإِذَا أُرِيدَ ضِدُّ ذَلِكَ قِيلَ غَيْرُ ذِي كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سُورَة الزُّمَرِ: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} الآية: 28، أَيْ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِوَجِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَقُلْ بِوَادٍ لَا يُزْرَعُ أَوْ لَا زَرْعَ بِهِ. وَلَمْ يَكُنِ اخْتِيارُ المَكانِ نَتيجَةَ بَحْثٍ مِنْ إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ وإِنَّما كانَ بِتَكْليفٍ إِلَهِيٍّ، فهو سُبْحانَهُ مَنْ أَمَرَهُ بِإِقامَةِ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ الحرامِ. والوادي هُوَ مَكَّةُ؛ لِأَنَّها وَادٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وسَمَّاهُ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ مَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَأخرج ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرازيُّ، عَن قَتَادَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ" قَالَ: مَكَّةُ. لَمْ يَكُنْ بِهَا زَرْعٌ يَوْمئِذٍ.
قولُهُ: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} هُوَ بَيْتُ اللهِ، سُمِيَ بِهِ لأَنَّ اللهَ تَعَالى حَرَّمَ التَعَرُّضَ لَهْ، والتَهَاوُنَ بِهِ، وجَعَلَ مَا حَوْلَهُ حَرَمًا لِمَكانِهِ، أَوْ لأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُمَنَّعًا يَهَابُهُ كُلُّ جَبَّارٍ، أَوْ لأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ عَظِيمُ الحُرْمَةِ لا يَحِلُّ انْتِهاكُها، أَوْ لأَنَّهُ حُرِّمَ عَلَى الطُوفانِ، أَيْ مُنِعَ مِنْهُ، كَمَا سُمِيَ عَتيقًا لأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْهُ. وَالْمُحَرَّمُ: الْمُمَنَّعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَيْدِي إِيَّاهُ بِمَا يُفْسِدُهُ أَوْ يَضُرُّ أَهْلَهُ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهُ فِي نُفُوسِ الْأُمَمِ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ هَلَكَةِ مَنْ يُرِيدُ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. وَمَا أَصْحَابُ الْفِيلِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ" وَأَنَّهُ بَيْتٌ طَهَّرَهُ اللهُ مِنَ السُّوءِ، وَجَعَلَهُ قِبْلَةً، وَجَعَلَهُ حَرَمَهُ، اخْتَارَهُ نَبِيُّ اللهِ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِوَلَدِهِ. وذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَهُ نَاسٌ مِنْ (طَسَمٍ) فعَصُوا فِيهِ، واسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ، وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَهُ، فأَهْلَكَهُمُ اللهُ، ثُمَّ وَلِيَهُ نَاسٌ مِنْ جُرْهُمٍ، فعَصُوا فِيهِ، واسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ، وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَهُ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ، ثُمَّ وَلِيتُمُوهُ مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، فَلَا تَعْصُوا، وَلَا تَسْتَخِفُّوا بِحَقِّهِ، وَلَا تَسْتَحِلُّوا حُرْمَتَهُ، وَصَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ صَلَاةٍ بِغَيْرِهِ، والمَعَاصِي فِيهِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ.
قولُهُ: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: "الْمُحَرَّمِ" أَيْ: إِنَّمَا جَعَلْتَهُ مُحَرَّمًا لِيَتَمَكَّنَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ. فاللامُ مُتَعَلِّقةٌ بِـ "أَسْكَنْتُ" أَيْ: مَا أَسْكَنْتُهمْ بِهَذَا الوادي البَلْقَعِ إِلَّا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ عَنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ، ويَعْمُروهُ بِذِكْرِكَ وعِبادَتِكَ. وَتَوْسِيطُ النِّدَاءِ "رَبَّنا" لِلِاهْتِمَامِ بِمُقَدِّمَةِ الدُّعَاءِ زِيَادَةٌ فِي الضَّرَاعَةِ. وقد تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِهَا، لِأَنَّ مَعْنَى "رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ" أَيْ أَسْكَنْتُهُمْ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ أَوْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. فَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الأَثَرِ إِلَى أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَلامُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ صَلاَةٍ فِي هَذَا)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/5، رقم: 16216). وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ برقم: (521).
قولُهُ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أَيْ: فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَهْوُونَ إِلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَهْوُونَ إِلَيْهِمْ. فَأَقْحَمَ لَفْظَ الْأَفْئِدَةِ لِإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ مَسِيرُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ عَنْ شَوْقٍ وَمَحَبَّةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمُسْرِعَ هُوَ الْفُؤَادُ لَا الْجَسَدُ. أَيْ: فَاجْعَلْ أُنَاسًا يَقْصِدُونَهُمْ بِحَبَّاتِ قُلُوبِهِمْ.
وَ "أَفْئِدَةُ" جَمْعُ فُؤَادٍ، وَهُوَ الْقَلْبُ، عُبِّرَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ عُضْوٍ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا النَّفْسُ وَالْعَقْلُ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ وَفْدٍ وَالْأَصْلُ أَوْفِدَةٌ فَقُدِّمَتِ الْفَاءُ، وَقْلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلَ وُفُودًا مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ. وَ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَحُجَّ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ لَفْظِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ تَوْجِيهُ قُلُوبِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ لِلسُّكُونِ مَعَهُمْ وَالْجَلْبِ إِلَيْهِمْ لَا تَوْجِيهُهَا إِلَى الْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُرادًا لَقَالَ: لِتَهْوِي إِلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنْ لِلِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِكَ: الْقَلْبُ مِنِّي سَقِيمٌ، يُرِيدُ قَلْبِي. وَمَعْنَى تَهْوِي إِلَيْهِمْ: تَنْزِعُ، يُقَالُ: هَوَى نَحْوَهُ إِذَا مَالَ بِقوَّةٍ، وَيقالُ: هَوَتِ النَّاقَةُ تَهْوِي هَوْيًا فَهِيَ هَاوِيَةٌ، إِذَا عَدَتْ عَدْوًا شَدِيدًا كَأَنَّهَا تَهْوِي فِي بِئْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَجِيءُ إِلَيْهِمْ، أَوْ تُسْرِعُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم" يَقُولُ: خُذْ بِقُلوبِ النَّاسِ إِلَيْهِم فَإِنَّهُ حَيْثُ يَهْوِي الْقلْبُ يَذْهَبَ الْجَسَدُ، فَلذَلِك لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِحُبِّ الْكَعْبَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الحَكَمِ، قَالَ: سَأَلت عِكْرِمَةَ، وَطاووسًا، وَعَطَاءَ بْنِ أَبي رَبَاحٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْبَيْتُ تَهوي إِلَيْهِ قُلُوبُهم يَأْتُونَهُ، وَفِي لَفْظٍ، قَالُوا: هَواهُم إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَحِجُّوا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، فِي قَوْلِهِ: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم" قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ، سَأَلَ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ أُنَاسًا مِنَ النَّاسِ يَهْوون سُكْنَى مَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْله: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ" قَالَ: تَنْزِعُ إِلَيْهِم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: لَو كَانَ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَة النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لَحَجَّهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالنَّاسُ كُلُّهمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: "أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ" فَخَصَّ بِهِ الْمُؤمنِينَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ" قَالَ: لَوْ قَالَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ فارِسُ والرُّومُ.
وَأخرجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم" لَوْ قَالَ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَة النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم لَغَلَبَتْكُمْ عَلَيْهِ التُّرْكُ وَالرُّومُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَهْلِ الْمَدِينَةِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ ومُدِّهِمْ، وَاجْعَلْ أَفْئِدَةً النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ.
قولُهُ: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أَيِ: ارْزُقْ ذُرِّيَّتِي الَّذِينَ أَسْكَنْتَهُمْ هُنَالِكَ، أَوْ هُمْ وَمَنْ يُسَاكِنُهُمْ مِنَ النَّاسِ، مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهِ، أَوْ تُجْلَبُ إِلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ ذَلِكَ فقَالَ في سورةِ القَصَصِ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} الْآية: 57، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، مَكَّةَ أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ، بَلْ تُجْبَى إِلَيْهَا ثَمَرَاتُ مَا حَوْلَها اسْتِجابَةً لِدُعاءِ الخَليلِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى نَقَلَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الشَّامِ فَوَضَعَها بِالطَّائِفِ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، أَنَّ إِبْرَاهِيم ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا دَعَا للحَرَمِ "وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَمَراتِ"، نَقَلَ اللهُ الطَّائِفَ مِنْ فِلَسْطِينَ.
قولُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} رَجَاءُ شُكْرِهِمْ دَاخِلٌ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ جُعِلَ تَكْمِلَةً لَهُ تَعَرُّضًا لِلْإِجَابَةِ، وَزِيَادَةً فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَالْمَقْصُودُ: تَوَفُّرُ أَسْبَابِ الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَانْتِفَاءِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا مِنْ فِتْنَةِ الكَدْحِ للاكْتِسابِ.
هذا ولَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَذَا فِي طَرْحِ وَلَدِهِ وَعِيَالِهِ بِأَرْضٍ مَضْيَعَةٍ اتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ لِقَوْلِ هاجَرَ فِي الْحَدِيثِ المتقدِّمِ: آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قولُهُ تَعَالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} رَبَّنَا: مُنَادَى مُضافٌ مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قَالَ". و "إِنِّي" إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، للتوكيدِ، و ياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اِسْمُهُ، والنونُ الثانيةُ للوقايةِ. و "أَسْكَنْتُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ للتبعيضِ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ للمَفْعولِ المَحْذوفِ، و "ذُرِّيَّتي" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، ويجوزُ أنْ تكونَ زائدةً كما تقدَّمَ بيانُهُ في التفسيرِ، فيكونُ "ذُرِّيَّتي" مفعولًا بِهِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، و "بِوَادٍ" الباءُ: حرفُ جرٍّ بمعنى (في) مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْكَنْتُ"، و "وادٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "غَيْرِ" صِفَةٌ لـ "وادٍ" مجرورةٌ مثلهُ، وهو مُضافٌ، و "ذِي" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مِنَ الأسْماءِ الخمسةِ، وهو مضافُ، و "زَرْعٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ "قَالَ". عَلى كَوْنِهَا جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} عِنْدَ: منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْكَنْتُ"، وهو مُضافٌ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِـ "وادٍ". وقالَ أَبو البَقاءِ العُكْبُريُّ: (ويَجوزُ أَنْ يَكونَ بَدَلًا مِنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَكونُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لأَنَّ الوادِيَ أَعَمُّ مِنْ حَضْرَةِ البَيْتِ). وَفي كلامِهِ نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ "عِنْدَ" لا تَتَصَرَّفُ. و "بَيْتِكَ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "الْمُحَرَّمِ" صِفَةٌ للبَيْتِ مجرورةٌ مثلهُ.
قولُهُ: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} رَبَّنَا: مُنَادَى مُضافٌ مُؤَكِّدٌ للنِّداءِ الأَوَّلِ، وَقدْ تَقَدَّمَ إِعْرابُهُ. وَ "لِيُقِيمُوا" اللامُ: لامُ (كي) حرفُ جَرٍّ للتعليلِ، وهوَ الظاهرُ، وعَلَيْهِ فالنِّداءُ مُعْتَرِضٌ. وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِـ {اجْنُبْني}، أَيْ: اجْنُبْهم الأَصْنَامَ لِيُقِيموا، وَفِيهِ بُعْدٌ. ويَجوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللّامُ لامَ أَمْرٍ، و "يُقِيمُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ (كي)، وعلامةُ نَصْبِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرفعِ فاعِلٌ بِهِ، والأَلِفُ للتفريقِ، و "الصلاةَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِاللَّامِ والتَقْديرُ: لإِقامَتِهِمُ الصَّلاةَ.
قولُهُ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَفْريعِ. و "اجْعَلْ" فعْلُ دُعاءٍ مبنيٌّ على السكونِ الظاهِرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "أَفْئِدَةً" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلٌ للجَعْلِ منصوبٌ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "أَفْئِدَةً"، فهيَ للتَبْعيضِ، وقدْ تقدَّمَ في التَفْسيرِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ "مِنَ النَّاسِ" لَحَجَّ النَّاسُ كُلُّهمْ. ويجوز أن تكونَ "مِنْ" لابتداءِ الغايَةِ كَقولِكَ: القَلْبُ مِنِّي سَقيمٌ، تُريدُ: قلبي سقيمٌ، كأَنَّما قيلَ: أفئدةُ نَاسٍ، وإِنَّما نُكِّرَ المُضافُ في هَذا التَمْثيلِ لِتَنْكِيرِ "أَفْئدةً" لأَنَّها في الآيَةِ نَكِرَةٌ، لِيَتَنَاوَلَ بَعْضَ الأَفْئِدَةِ. قالَهُ الزَمَخشَريُّ، وردَّهُ الشيخُ أَبو حيَّانٍ الأندلُسِيُّ فقالَ: ولا يَظْهَرُ كونُها للغايةِ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا فِعْلٌ يُبْتَدَأُ فِيهِ بِغَايَةٍ يَنْتَهي إِلَيْها، إذْ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابْتِداءِ الأَفْئِدَةِ مِنَ النَّاسِ. و "النَّاسِ" مجرورٌ بِحَرفِ الجَرِّ، و "تَهْوِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلى "أَفْئِدَةً". و "إِلَيْهِمْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَهْوِي" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّرِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ ثانٍ لِلجَعْلِ، وجُمْلَةُ "اجْعَلْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُملَةِ "إنَّ" في قولِهِ: "إِنِّي أَسْكَنْتُ" عَلى كَونِها مَقولَ "قَالَ" مَع كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الواوُ: للعطْفِ، وَ "ارْزُقْهُمْ" فِعْلُ دُعاءٍ مبنيٌّ على السكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "الثَّمَرَاتِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "اجْعَلْ".
قولُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} لَعَلَّهُمْ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للترجِّي، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "يَشْكُرونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرفعِ فاعِلٌ بِهِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لعلَّ"، وجُمْلَةُ "لعلَّ" في مَحَلِّ النِّصْبِ بالقولِ لِـ "قَالَ" عَلى كونِها مَسوقَةً لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها.
قَرَأَ العامَّةُ: {أفْئِدةً} جمع (فُؤاد) كغُرابٍ وأَغْربة. وقَرَأَ هشامٌ عَنِ ابْنِ عامرٍ بياءٍ بعد الهمزة، فقيلَ: إِشباعٌ، كَقولِهِ:
يُحِبُّكَ قَلْبي مَا حَيِيتُ فإِنْ أَمُتْ .......... يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ
أَيْ: تَرِبُ، وكَقَوْلِهِ:
أَعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ ....................... الشائلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ
وقَدْ طَعَنَ جَمَاعَةٌ عَلَى هَذِهِ القِراءَةِ وَقالوا: الإِشْبَاعُ مِنْ ضَرائرِ الشِّعْرِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ في أَفْصَحِ كَلامٍ؟ وَزَعَمَ بَعْضُهمْ أَنَّ هِشَامًا إِنَّما قَرَأَ بِتَسْهيلِ الهَمْزَةِ بَيْنَ بَيْنٍ، فَظَنَّها الرَّاوي زِيادَةَ ياءٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ، قالَ: كَمَا تُوُهِّمَ عَنْ أَبي عَمْرٍو واخْتَلاسُهُ في "بارِئكم" و "يَأْمُركم" أَنَّهُ سَكَّنَ. وهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فإنَّ الرُّواةَ أَجَلُّ مِنْ هَذَا. وَقَرَأَ زَيْدٌ بْنُ عَلِيٍّ "إِفادَة" بِزِنَةِ "رِفادَة"، وَفِيها وَجْهانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا لـ "أِفادِ" ك "أَقامَ إِقامةً"، أَيْ: ذَوي إِفادَةٍ، وَهُمُ النَّاسُ الذين يُنْتَفَعُ بِهم. والثاني: أَنْ يَكونَ أَصْلُها "وِفادة" فَأُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً نَحْوَ: "إِشاحَ" و "إعاء". وَقَرَأَتْ أُمُّ الهَيْثَمِ "أَفْوِدَة" بِواوٍ مَكْسُورَةٍ، وَفِيها وَجْهانِ، أَحَدُهُما: أَنْ يَكونَ جَمْعَ «فُوَاد» المُسَهًّل: وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَلْبُها واوًا نحو: جُوَنَ، ففُعِل في "فُؤاد" المُفرد ذلك، فأُقِرَّت في الجمع على حالها. وقيلَ بأنَّها جمعُ "وَفْد". وفيه نظَرٌ حيثُ كانَ يَنْبَغي أن يكونَ اللفظ "أَوْفِدة" بتقديم الواو، إلا أن يُقال: إنه جَمَعَ "وَفْدًا" على "أَوْفِدَة" ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة، كقولهم: آرام في أرْآم وبابِه، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أَفْعِلة نحو: نَجْد وأَنْجدة، وَوَهْي وأَوْهِيَة. وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ مِنَ اللُّغةِ. وقُرِئَ "آفِدَة" بزِنَةِ ضارِبة، وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفًا، فوزنها أَعْفِلة كآرام في أرْآم. والثاني: أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ، أي: قَرُب ودَنا، والمعنى: جماعة آفِدَة، أو جماعات آفِدة. وقُرِئ "آفِدَة" بالقَصْرِ، وفيها وجهان أيضًا، أحدُهما: أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح. والثاني: أن تكونَ محففةً من "أَفْئِدة". بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها، وحَذْفِ الهمزةِ.
وقرأَ العامَّةُ: "تَهْوِي" بكسرِ العين بمعنى: تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقًا إليهم. قال أبو كبير الهذلي يصف تأبط شرا:
وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه .............. يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ
وأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى باللامِ، كَقَوْلِ زُهيرِ بْنِ أبي سُلمى:
حَتَّى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيدِ لَهَا ....... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بَتَكُ
وإنَّما عُدِّيَ بـ "إلى" لأنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى "تَمِيلُ"، كَقَوْلِهِ:
تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى .................. ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها
وقرَأَ أَميرُ المؤمنينَ عَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ومُجاهِدٌ، بفتح الواو، وفيهِ قَوْلانِ، أَحَدُهُما: أَنَّ "إلى" زائدةٌ، أيْ: تَهْواهم. والثاني: أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى تَنْزِعُ وَتَميلُ، ومَصْدَرُ الأَوَّلِ عَلَى "هُوِيّ"، كَقَوْلِ لأَبِي كَبيرٍ الهُذَلي، يَصِفُ تَأَبَّطَ شَرًّا بالتَيَقُّظِ والشَّجَاعَةِ:
وإذا رَمَيْتَ بِهِ الفِجاجَ رَأَيْتَهُ............... يَهْوي مَخارِمَها هُوِيَّ الأَجْدَلِ
والثاني علىَ "هَوَى". وقالَ العُكْبُريُّ: مَعناهُما مُتَقاربانِ إِلاَّ أَنَّ هَوَى بِفَتْحِ الواوِ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، وإِنَّما عُدِّيَ ب "إلى" حَمْلًا عَلَى "تَميل". وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: "تُهْوَى" بِضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الواوِ مَبْنِيًّا للمَفعولِ مِنْ "أَهْوَى" المَنْقولِ مِنْ "هَوِيَ" اللازِمِ، أَيْ: يُسْرَعُ بِها إِلى إِلَيْهم.
الموسوعة القرآنية فيض العليم ... سورة إبراهيم، الآية: