وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ
(35)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} هذا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ في الآيةَ: 28، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا} فَقد أَهْمَلُوا الشُّكْرَ عَلَى مَا بَوَّأَهُمُ اللهُ تعالى مِنَ النِّعَمِ بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، وَبَدَّلُوا اقْتِدَاءَهُمْ بِأَسَلافِهِمُ مِنْ أهلِ الصَّلاحِ اقْتِدَاءً بِأَسْلَافِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَبَدَّلُوا دُعَاءَ سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ لَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، كُفْرًا بِمنْ أفاضَ تِلْكَ النِّعَمِ عليهم. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ في الآيةِ: 32، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} بِأَنِ انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِ النِّعَمِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ جميعًا الَّتِي يَدْخُلُ تَحْتَ مِنَّتِهَا أَهْلُ مَكَّةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّ اللهُ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ دونَ غيرِهم. وَالْبَلَدُ: الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرْيَةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبَلَدَ هنا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَعْهُود الْحُضُورِ.
قولُهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} اجْنُبْني: أَصْلُهُ مِنَ الجَانِبِ، أَيْ: بَعِّدْني واجْعَلْنِي مِنْها عَلَى جانِبٍ بَعِيدٍ. يُقَالُ: جَنَبْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَجْنَبْتُهُ إِيَّاهُ إِجْنابًا، وَجَنَّبْتُهُ تَجْنيبًا، بِمَعْنَى فَتَجَانَبَهُ وَاجْتَنَبَهُ، أَيْ تَرَكَهُ. وأَجْنَبَهُ إِذا مَنَعَهُ مِنَ الأَمْرِ وحَمَاهُ مِنْهُ. أَهْلُ الحِجَازِ تَقُولُ: جَنَبَنِي يَجْنُبُنِي خَفيفَةً، وأَهْلُ نَجْدٍ تَقُولُ: أَجْنَبَنِي شَرَّهُ، وجَنَّبَنِي شَرَّهُ، قالَ أُمَيَّةُ بْنُ الأَسْكرِ اللَّيْثِيِّ مِنْ أَهْلِ الحِجازِ:
وتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقًا عَلَيْهِ ..................... وتَجْنُبُهُ قلائِصُنَا الصِّعابا
وقيل: هُوَ مِنْ جَنَبْتُ الفَرَسَ، إذا قُدْتُها، فكأَنَّما أَرَادَ سيِّدُنا إِبراهيمُ خَليلُ اللهِ تَعَالى ـ عليهِ السَّلامُ، أَنْ يقودَهُ ربُّهُ عَنْ جانِبِ الشِّرْكِ بِأَلْطافِهِ الخفيَّةِ، وأسبابِهِ المَخْفِيَّةِ.
والأَصْنَامُ جَمْعُ صَنَمٍ، وهوَ التِمْثالُ المُصَوَّرُ على هيئةِ البَشَرِ، قالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ في صِفَةِ امْرَأَةٍ:
وَهْنانَةٌ كالزُّونِ يُجْلَى صَنَمُهْ ........... تَضْحَكُ عن أشْنَبَ عَذْبٍ مَلْثَمُهْ
كالبرق يجلو بَرَدًا تَبَسُّمُهْ
ومَا لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا على هيئةِ البَشَرِ فَهُوَ وَثَنٌ. قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "اجْنُبْنِي" بَنِيهِ مِنْ صُلْبِهِ وَكَانُوا ثَمَانِيَةً، فَمَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ صَنَمًا. وأَمَّا باقي نَسْلِهِ، فَمِنْهمْ مَنْ عَبَدَ الأَصْنَامَ، وسَبَبُ هَذَا الدُّعاءِ مِنَ أَبِينَا إِبْراهيمَ الخَلَيلِ ـ عَلَيهِ السَّلامُ، إِفْراطُ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ ووَلَدِهِ، فَكَيْفَ يَخَافُ خليلُ اللهِ أَنْ يَعْبُدَ صَنَمًا، فالمُرادُ: ثبِّتْنِي على اجْتِنابِ عِبادِتِها؛ فيَنْبَغي أَنْ يُقْتَدَى بِهَذِهِ الآيَةَ فِي الخَوْفِ، وطَلَبِ حُسْنِ الخاتمةِ، وقدِ اسْتَجابَ اللهُ لخليلِهِ فعصَمَهُ وولَدَهُ. وأَخْرَجَ الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ (جامِعِ البَيانِ): (13/687) عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ في تَفْسِيرِ الآيَةِ: فَاسْتَجَابَ اللهُ لِإِبْرَاهِيمَ دَعْوَتَهُ فِي وَلَدِهِ، قَالَ: فَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ صَنَمًا بَعْدَ دَعْوَتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ لِمَنْ أَرَادَ اللهَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ إبراهيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: مَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ بَعْدَ الْخَلِيلِ حِينَ يَقُولُ: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ" كَمَا عَبَدَهَا أَبِي وَقَوْمِي.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} الواوُ: للاسْتِئْنافِ. و "إذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَمَانَ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ، مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مَحذوفٍ والتَقديرُ: واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ ـ صلَّىَ اللهُ عليهِ وسلَّمَ، إِذْ قالَ إبراهيمُ ..؛ أَيْ: اذْكُرْ قِصَّةَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ. و "قَالَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "إِبْرَاهِيمُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وقد مُنِعَ مِنَ التَنْوينِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، والجُملةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "إذْ" إليها. و "رَبِّ" مُنَادَى أَصْلُهُ (رَبِّي)، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ الياءِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفيفِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى الْيَاءِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ، أَوِ النِسْبَةِ المَحْذوفَةِ ضَميرٌ مَجرورٌ بالإضافَةِ إليه، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ". و "اجْعَلْ" فعلُ دُعاءٍ مبنيٌّ على السكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلى اللهِ تعالى. و "هَذَا" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ أَوَّل. وهذهِ الجملةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قَالَ" كَونَها جوابَ النِّداءِ. و "الْبَلَدَ" منصوبٌ على البَدَلِ مِنِ اسْمِ الإشارةِ، أَوْ عَطفُ بَيانٍ مِنْهُ. و "آمِنًا" مَفعولٌ بِهِ ثانٍ.
قولُهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "اجْنُبْنِي" فعلُ دُعاءٍ معطوفٌ على "اجعلْ" مبنيٌّ على السُّكونِ مثلُهُ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلى اللهِ تعالى. وياءُ المُتَكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ، والنونُ للوِقايةِ، و "وَبَنِيَّ" الواوُ: للعطْفِ، و "بنيَّ" مَفعولٌ بِهِ عَطْفًا عَلى ضَميرِ المُتَكَلِّم، مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السَّالِمِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالنِداءِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "اجْعَلْ". و "أَنْ" حرفٌ مَصْدَرِيٌّ ناصِبٌ، و "نَعْبُدَ" فعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ بها، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلى إِبراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ، وذُرَّيَّتِهِ، و "الْأَصْنَامَ" مَفعولٌ بهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ والتقديرُ: مِنْ عِبَادَتِنا الأَصْنَامَ، الجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اجْنُبْنِي".
قرأ العامَّةُ: {واجْنُبْنِي}، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى "وَأَجْنِبْنِي" بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وقدْ تقدَّمَ توجيهُ القراءتَيْنِ في تفسيرِ بما يُغني عنِ الإعادةِ هنا.