فيضُ العليم .... سورة الرعد، الآية: 43
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} المعني بـ "الذينَ كفروا" هم رُؤَساءُ اليَهُودِ والنَّصَارى، قالوا: "لَسْتَ مُرْسَلًا" ولَمْ نَجِدْ لَكَ ذِكْرًا في كِتَابِنَا، ولا مَا يَشْهَدُ لَكَ عِنْدَنَا. وقيلَ: همْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الذينَ قالوا: "لَسْتَ مُرْسَلًا". وجاءَ الفعلُ بِصيغَةِ الاسْتِقْبالِ "يقولُ" لاسْتِحْضارِ صُورَةِ قولِهم الشنيعَ تَعْجيبًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ للدَلالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ القولِ منهم واسْتِمْرَارِهِ وتكرارِهِ.
قولُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} شهيدًا: أَيْ شاهِدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الآياتِ عَلَى رِسَالَتِي، وبِمَا أَبَانَ مِنَ الدَّلالاتِ عَلَى نُبُوَّتي، مَا يُغْنِي عَنِ شَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلى ذَلِكَ مِنْكمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ.
وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ "كَفى" فِي الْمَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: كَفَى اللهُ. وشَهِيدًا حَالٌ لَازِمَةٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، أَيْ كَفَى اللهُ مِنْ جِهَةِ الشَّاهِدِ.
قولُهُ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ. والمَعْنَى: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا فإنَّ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ، والمُؤْمِنُونَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. أيْ: ويَشْهَدُ لِي أَيْضًا "مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ" الأَوَّلُ؛ العِلْمُ الحَقِيقيُّ، كَعبْدِ اللهِ بْنِ سَلام، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ اليَهودِ والنَّصَارَى الذينَ عَلِمُوا صِفَتَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ التَوراةِ والإنْجيلِ، وعُلَماءِ المَؤْمِنينَ الذينَ عِنْدَهم عِلْمُ القُرآنِ، ومَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ النَّظْمِ المُعْجِزِ، والعُلومِ الغَيْبِيَّةِ الدالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ. وَإِشْهَادُ اللهِ تعالى فِي مَعْنَى الْحَلِفِ عَلَى الصِّدْقِ كَقَوْلِ هُودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ} الآية: 54، مِنْ سورة هود.
وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ـ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، فِي التَّفَاسِيرِ. وَقِيلَ: كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَاطِعَةً لِقَوْلِ الْخُصُومِ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَالنَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهمْ أَجْمَعينَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قومٌ يَشْهدُونَ بِالْحَقِّ ويَعْرِفونَهُ مِنْهُم عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ، والجارودُ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وسَلْمانُ الْفَارِسِيُّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "وَمن عِنْده علم الْكتاب" قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا أُرِيدَ قَتْلُ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ عُثْمَانَ بْنِ عفَّانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ فِي نُصْرَتِكَ، قَالَ: اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَاطْرُدْهُمْ عَنِّي، فإِنَّكَ خَارِجٌ خَيْرٌ لِي مِنْ دَاخِلٍ، قَالَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ، فسَمَّاني رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَبْدَ اللهِ، وَنَزَلَتْ فِيَّ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَنَزَلَتْ فِيَّ {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الآية: 10، منْ سورةِ الأَحْقافِ، وَنَزَلَتْ فِيَّ "قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ أَبُو عِيسَى الترِمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حُصَيْنٌ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَبْدُ اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جُنْدُب ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حَتَّى أَخَذَ بِعَضَادَتَيْ بَابِ الْمَسْجِدِ ثمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ أَتَعْلَمونَ أَنِّي أَنا الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ "وَمن عِنْده علم الْكتاب" قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عِبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَقِي الَّذين أَرَادوا قَتْلَ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَنَاشَدَهم فِيمَنْ تَعْلَمُونَ نَزَلَ: "قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْني وَبَيْنكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابَ". قَالُوا: فِيكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ "وَمن عِنْده علم الْكتاب" قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيَّ الْقُرْآنُ الكريمُ: "قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْني وَبَيْنكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابَ".
وأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْقُفٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَجِدُني فِي الإِنْجيلِ رَسُولًا قَالَ: لَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْني وَبَيْنكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابَ" يَقُولُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ.
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، والنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" أَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟، قَالَ: وَكَيْفَ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عن أَبي بِشْرٍ ابْنُ عُلَيَّةَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مِقْسَمٍ الأَسَدِي قالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ"؟. قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ. قُلْتُ: وَكَيْفَ يَكُونُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَابْنُ سَلَامٍ مَا أَسْلَمَ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ؟!
وَأَخْرَجَ ابْنْ الْمُنْذِرِ عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا نَزَلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَابْنُ سَلَامٍ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ابْنِ سَلَامٍ، فَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ جِبْرِيلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَكَانُوا يَقْرَءُونَ "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا بِالْمَدِينَةِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَرَأَ "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" وَإِنْ كَانَ فِي الرِّوَايَةِ ضَعْفٌ، وَرَوَى ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى مَحْبُوبٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ "وَمِنْ عِنْدِهِ" بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَالدَّالِ "عُلِمَ الْكِتَابُ" بِضَمِّ الْعَيْنِ وَرَفْعِ الْكِتَابِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَطَاءٍ: قُلْتُ، لِأَبِي جَعْفَرِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. فَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا هُوَ الْقُرْآنُ. وَيَعْضُدُهُ مِنَ النِّظَامِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي قُرَيْشًا، فَالَّذِينَ عِنْدَهُمْ عِلْمُ الْكِتَابِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ هُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ أَقْرَبُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ.
قالَ سَهْلُ بْنُ عبدِ اللهِ التَسْتُريُّ: الكِتَابُ عَزيزٌ، وعِلْمُ الكِتَابِ أَعَزُّ، والعَمَلُ بِهِ أَعَزُّ، والعَمَلُ عَزيزٌ، والإخلاصُ فيه أَعَزُّ، والإخلاصُ عزيزٌ، والمُشَاهَدَةُ فيهِ أَعَزُّ، والمُرافَقَةُ عَزيزَةٌ، والأُنْسُ في المُرافَقَةِ أَعَزُّ، والأُنْسُ عَزيزٌ، وآدَابِ مَحَلِّ الأُنْسِ أَعَزُّ، واللهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: "وَمن عِنْده علم الْكتاب" هُوَ اللهُ ـ عزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى المَوصِليُّ، وَابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَدَيٍّ، بِسَنَد ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرَأَ: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" قَالَ: ((مِنْ عِنْدِ اللهِ عِلْمُ الْكِتَابِ)).
وَأخرج أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأً: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" يَقُول: وَمِنْ عِنْدِ اللهِ عِلْمُ الْكِتابِ.
وَأَخْرَجَ أبو القاسِمِ البَجَليُّ تَمامُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي فَوَائدِهِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرَأَ: "وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ" قَالَ: ((مِنْ عِنْدِ اللهِ عِلْمُ الْكِتَابِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمن عِنْده علم الْكتاب" قَالَ: جِبْرِيلُ ـ عليهِ السَّلامُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، شَدِيدًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ، فَانْطَلَقَ يَوْمًا حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ المُبْطِلونَ} حَتَّى بَلَغَ: {الظَّالِمُونَ} الآيَتانِ: (48 و 49) مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ، وسَمِعَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: "وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا" إِلَى قَوْلِهِ: "عِلْمُ الْكِتَابِ" الآية، فانْتَظَرَهُ حَتَّى سَلَّمَ فأَسْرَعَ فِي أَثَرِهِ فَأَسْلَمَ.
قولُهُ تَعَالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "يقولُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "الذينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "كَفَرُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ للتفريق، والجملةُ صِلَةُ المَوْصولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. "لَسْتَ" فِعْلٌ ناقصٌ جامِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وتاءُ الفاعلِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ رفعِ اسْمِهِ، و "مُرْسَلًا" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ "يَقُولُ".
قولُهُ: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ وَقَدْ حُذِفَتْ عَيْنُهُ لالتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعودُ على سيِّدِنا مُحمَّدٍ ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "كَفَى" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها عَلَى الأَلِفِ. و "بِاللهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ زائدٌ، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجْرورٌ لَفْظًا بحرفِ الجرِّ، مَرْفوعٌ مَحَلًّا على أنَّهُ فاعِلُ "كَفَى". و "شَهِيدًا" يجوزُ نَصْبها على التَمييزِ لِفَاعِلِ "كَفَى" أَو على الحالِ منهُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لـ "قُلْ". و "بَيْنِي" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَهِيدًا" وعلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ ياءِ المتكلِّمِ لانْشِغَالِ المكانِ بالحركةِ المناسبةِ للياءِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضَميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "وَبَيْنَكُمْ" الواوُ حرفُ عطفٍ، و "بينَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ متعلِّقٌ بـ "شهيدًا" وهو مُضافٌ وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ بمعنى "الذي" مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْوفًا عَلى فَاعِلِ "كَفَى"، ويجوزُ أَنْ تكونَ في محلِّ الجَرِّ نَسَقًا عَلَى لَفْظِ الجَلالَةِ، أَيْ: بِاللهِ وبِمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ ونَحْوِهِ. ويجوزُ أَنْ يَكُونَ محلُّها الرَّفعَ بالابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذوفٌ، أَيْ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ أَعْدَلُ وأَمْضى قولًا. و "عِنْدَهُ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرَّ بالإضافةِ إليْهِ. و "عِلْمُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وهو مُضافٌ، و "الْكِتَابِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهْ.: وقد اعْتَرَضَ ابْنُ عَطِيَّةَ بأنَّ هذا القولَ فِيهِ عَطْفُ الصِفَةِ عَلى المَوْصوفِ، ولا يَجوزُ، وإِنَّما تُعْطَفُ الصِفاتُ. ورَدَّ عَلَيْهِ الشيخُ أبو حيَّان الأندلُسيُّ بِأَنَّ "مَنْ" لا يُوصَفُ بِها ولا بِغَيْرِها مِنَ المَوْصولاتِ إِلاَّ ما اسْتُثْنِي، وبِأَنَّ عَطْفَ الصِفاتِ بَعْضِها عَلَى بَعْضٍ لا يَجوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الاخْتِلافِ. قالَ السَّمينُ الحلبيُّ: إِنَّما عَنَى ابْنُ عَطِيَّةَ الوَصْفَ المَعْنَوِيَّ لا الصِنَاعِيَّ، وأَمَّا شَرْطُ الاخْتِلافِ فَمَعْلومٌ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ الظَرْفُ صِلَةً، و "عِلْمُ" فاعِلٌ بِهِ. والجُمْلةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصولَةِ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قرَأ العامَّةُ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، وقرأَ عليٌّ وأُبَيٌّ وابْنُ عَبَّاسٍ وعِكْرِمَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ وعَبْدُ الرَحْمنِ ابْنُ أَبي بَكْرَةَ، والضَحَّاكُ، وابْنُ أبي إِسْحاقَ، ومُجَاهِدٌ في خَلْقٍ كثيرٍ "وَمِنْ عِندِهِ عِلْمُ الكِتابِ" جَعَلوا "مِنْ" حَرْفَ جَرٍّ، و "عندِ" مَجرورٌ بِها، وهذا الجارُّ هوَ خبرٌ مُقدَّمٌ، و "عِلْمُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. وقَرَأَ عَلِيٌّ أَيْضًا، والحَسَنُ، وابْنُ السَّمَيْفعِ: وَمِنْ عِندِهُ عُلِمَ الكِتابُ" يَجْعَلونَ "مِنْ" جارَّةً، و "عُلِمَ" مَبْنِيًّا للمَجهولِ، و "الكتابُ" رفعٌ بِهِ على أَنَّهُ نائبُ فاعلِهِ. وقُرِئ كَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ بِتَشْديدِ "عُلِّمَ". والضَميرُ في "عنده" عَلى هَذِهِ القِراءاتِ للهِ تَعَالى فَقَطْ. وقُرئَ أَيْضًا "وبَمَنْ" بإعادَةِ الباءِ الداخلةِ على اسْمِ الجَلالَةِ.
بحمدِ اللهِ ومِنَّتِهِ وفَضْلِهِ تمَّتْ في بلدة (كفرزبد) البقاعيَّة اللبنانيَّةِ وفي ضِيافةِ أَخينا الأديب الفاضل الأستاذ محمد عُمر بْنِ الشيخِ يوسفِ الحُشيمي سُورةُ الرَّعْدِ صبيحَةَ الخميس السّادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ لِعَامِ: أَلْفٍ وثلاثِمِئةٍ وثمانيةٍ وثلاثينَ لِهِجْرةِ الحبيبِ الأَعْظمِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، المَوافِق للسَّابعِ منْ أَيلولَ للعامِ السَّابِع عَشَرَ بَعْدَ الأَلْفَيْنِ مِنْ مِيلادِ سَيِّدِنا عِيس ـ عَلَيْهِ السلامُ، وَيَليها بعونِ اللهِ وتوفيقِهِ سُورَةُ إِبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ