وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. (23)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} وَرَاوَدَتْهُ: تَمَلَّحَتْ لَهُ وطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُواقِعَهَا. وكأَنَّها خادَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ فَعَلَتْ فِعْلَ المُخادِعِ لِصاحِبِهِ عَنِ الشَّيْءِ الذي لا يُريدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ، يَحْتَالُ أَنْ يَغْلِبَهُ عَلَيْهِ ويَأْخُذُهُ مِنْهُ، وهو رُجُوعٌ إِلَى شَرْحِ مَا جَرَى لِيُوسُفَ في مَنْزِلِ العَزيزِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ امْرَأَتَهُ بإِكْرامِ مَثَواهُ، وما كانَ مِنْ حَالِ تِلْكَ المَرْأَةِ مَعَ يُوسُفَ ـ عليه السلامُ، وكَيْفَ أَنَّها نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِعَيْنٍ تُخالِفُ العَيْنَ التي نَظَرَ بِها إِلَيْهِ زَوْجُها. وَأَرَادَتْ مِنْهُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ هُوَ، وَمَا أَرَادَهُ اللهُ مِنْ فَوْقِهِمَا. هُوَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَهْرَمَانًا أَوْ وَلَدًا لَهُمَا، وَاللهُ أَرَادَ أَنْ يُمَكِّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلَهُ سَيِّدَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَهِيَ أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ عَشِيقًا لَهَا.
والمُراوُدَةُ: المُلاطَفَةُ في السَّوْقِ إِلى غَرَضٍ مَا، والمُطالَبَةُ بِرِفْقٍ، والتَعْبيرُ عَنْ حالِها مَعَهُ بالمُراوَدَةِ المُقْتَضِيَةِ تَكْرارَ المُحاوَلَةِ، للإِشْعارِ بِأَنَّها كانَ مِنْها الطَلَبُ المُسْتَمِرُّ، المَصْحُوبِ بالإِغْراءِ والتَرَفُّقِ والتَحَايُلِ عَلَى ما تَشْتَهِيهِ مِنْهُ بِشَتَّى الوَسائِلِ والحِيَلِ. وكانَ مِنْهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، الإِباءُ والامْتِنَاعُ عَمَّا تُريدُهُ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالى. والمُراوَدَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَادَ الشَّيْءَ يَرودُ إذا ذَهَبَ وجاءَ لِطَلَبِهِ، ومِنْهُ يُقالُ لِطالِبِ الكَلَأِ والمَاءِ رائدٌ، ورَادَتِ الإبِلُ والمَرْأَةُ في مِشْيَتِها تَرُودُ رَوَدانًا إذا مَشَتْ بِرِفْقٍ، ومِنْهُ: المِرْوَدُ: آلَةُ الكُحْلِ، والرِّيادَةُ أَيْضًا: طَلَبُ النِّكاحِ، والإرادَةُ مَنقولَةٌ مِنْ رادَ يَرودُ، وهِيَ "مُفَاعَلَةٌ" مِنْ واحِدٍ، نَحْوَ مُطالَبَةِ الدائِنِ ومُماطَلَةِ المَدينِ. ومُداوَاةِ الطَبيبِ. وغيرِهِ ممَّا يَكونُ الفعلُ مِنْ أَحَدِ الطَرَفَيْنِ وسَبَبُهُ مِنَ الطَرَفِ الآخَرِ. فإنَّهُ لَمَّا كانَتْ هذِهِ الأَفْعالُ صادِرَةً عَنْ أَحَدِ الطَّرَفيْنِ وأَسْبَابُها صادِرَةٌ عَنِ الطَرَفِ الآخَرِ اعْتُبِرَتْ كَأَنَّها صادرَةً عَنْهُما معًا. و "التي هُوَ في بَيْتِها" هيَ "راعيلُ" أَوْ "راحيلُ" أَوْ "زَلِيخا" امْرَأَةُ العَزيزِ إِظْفيرَ. كَمَا تقَدَّمَ بَيَانُهُ. ولمْ يَذْكِرِ اسْمَها، سَتْرًا لَهَا، وابْتِعادًا عَنِ التَشْهيرِ بِها، وهذا مِنَ الأَدَبِ السامي الذي الْتَزَمَهُ القُرآنُ الكريمُ في تَعبيراتِهِ وأَساليبِهِ، حَتَّى يَتَأَسَّى أَتْباعُهُ بِهَذا الأَدَبِ الرفيعِ في التَّعْبيرِ. والمُرادُ بِبَيْتِها: بَيْتُ سُكْناها، والإِخْبارُ عَنِ المُراوَدَةِ بِأَنَّها كانْتْ في بَيْتِها. أَدْعَى لإظْهَارِ كَمالِ نَزَاهَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فإنَّ كَوْنَهُ في بَيْتِها يُغْري بالاسْتِجابَةِ لِطَلَبِها، ومَعَ ذَلِكَ فقَدْ أَعْرَضَ عَنْها، ولمْ يُطاوِعْها في مُرادِها.
قولُهُ: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} غَلَّقَت: التَضْعِيفُ هنا لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْفِعْلِ وَقُوَّتِهِ، أَيْ أَغْلَقَتْ جَميعَ الأَبْوابِ المُوصِلَةِ إِلى المَكانِ الذي رَاوَدَتْهُ فِيهِ إِغْلاقًا شَديدًا مُحْكَمًا، كَمَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ التَضْعيفُ في "غَلَّقَتْ" أَيْ: أَغْلَقْتَ أَبوابَ بَيْتِ سُكْنَاهَا الذي تَبِيتُ فِيهِ، أَغْلَقَتْها بابًا فبَابًا، زِيادَةً في حَمْلِهِ عَلَى الاسْتِجابَةِ لَها. قِيلَ: كانَتِ تلك الأَبْوابُ سَبْعَةً.
قولُهُ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ثمَّ أَضافتْ إِلى كُلِّ تِلكَ المُغْرِياتِ أَنَّها قالَتْ لَهُ: هِيتَ لَكَ، أَيْ: ها أَنَذَا مُهَيَّئَةٌ لَكَ فَأْسْرِعْ في الإقْبالِ عَلَيَّ. وهَيْتَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى بَادِرْ. والجُمهورُ عَلى أَنَّ هذِهِ اللفظةَ عَرَبِيَّةٌ، قالَ مُجاهِدٌ: هي كَلِمَةُ حَثٍّ وإِقْبالٍ. ثمَّ هيَ في بَعْضِ اللُّغاتِ تَتَعَيَّنُ فِعْلِيَّتُها، وفي بَعْضِها الآخَرِ اسْمِيَّتُها، وفي بَعْضِها يَجوزُ الأَمْرانِ، وسَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنَ القِراءاتِ الواردَةِ فيها. وَاللَّامُ فِي "لَكَ" لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمَقْصُودِ بِالْخِطَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: سُقْيًا لَكَ وَشُكْرًا لَكَ. وَأَصْلُهُ: هِيتَكَ. ونَقَلَ الكِسائيُّ والفَرَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، أَنَّها لُغَةٌ حَوْرانِيَّةٌ وَقَعَتْ إلى أَهْلِ الحِجازِ فَتَكَلَّموا بِها، ومَعْنَاها تَعالَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ قَوْلَهُ: "هَيْتَ لَك" قَالَ: هَلُمَّ لَكَ، وَهِيَ بالحَورانِيَّةِ. وَأَخْرَجَ عنهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ابْنُ مِرْدُوَيْهِ أيضًا، أَنَّهُ قَالَ: أَقْرَأَني رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيْتَ لَكَ" يَعْنِي هَلُمَّ لَكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا، وَابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، مِنْ طُرُقٍ عَنْه ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: "هيتَ لَك" وَقَالَ: هَلُمَّ لَكَ تَدعُوهُ إِلَى نَفسِهَا. وقالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ لَفْظَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِنَ أَصْلٍ قُبْطِيٍّ معناها هَلُمَّ لَكَ. أَخرَجَ ذلك عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ ـ رحمه اللهُ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "هيت لَك" قَالَ: تَهَيَّأْتُ لَكَ، قُمْ فَاقْضِ حَاجَتَكَ. قَالَ: وَهلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ أُحَيْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ يَقُولُ:
بِهِ أَحْمِي المُضافَ إذا دَعاني ................ إذا ما قِيلَ للأَبْطالِ هَيْتَا
ورُويَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ والحَسَنِ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهم، أنَّهما قالا: هِيَ مِنْ أَصْلٍ سُريانِيٍّ. وقالَ أَبُو زَيْدٍ الأَنْصارِيُّ: هِيَ مِنْ أَصْلٍ عِبْرِيٍّ، ولَفْظُها العِبْريُّ (هَيْتَ لَخ)، أَيْ: (تَعَالَهْ) فأَعْرَبَهُ القُرْآنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "هِيتَ لَك" قَالَ: تَعالَ. وَأَخرَجَ ابْنُ جَريرٍ وابْنُ أَبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "هِيتَ لَكَ" قَالَ: أَلْقَتْ نَفْسَهَا واسْتَلْقَتْ لَهُ ودَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ. تَدعُوهُ بهَا إِلَى نَفْسِهَا.
وَيَظْهَرُ أَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ أَمْرًا كَانَ غَيْرَ بِدْعٍ فِي قُصُورِ أهلِ ذلكَ العصرِ، وهو أَنْ تَسْتَمْتِعَ الْمَرْأَةُ بِعَبْدِهَا كَمَا يَسْتَمْتِعُ الرَّجُلُ بِأَمَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ بِتَرْغِيبٍ بَلِ ابْتَدَأَتْهُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا. وهَذِهِ مِنْها دَعْوَةٌ سافِرَةٌ لَهُ لِيُبادِلَها حُبَّها لَهُ بِحُبٍّ، ورَغْبَتَها الجامحَةَ بِرَغْبَةٍ. ويَدُلُّ طَلَبُها هذا عَلَى أَنَّها كانَتْ قَدْ بَلَغَتِ النِهايَةَ في الكَشْفِ عَنْ رَغْبَتِها، وأَنَّها قدْ خَرَجَتْ عَنِ المَأْلوفِ مِنْ بَنَاتِ جِنْسِها، فقد جَرَتِ العادَةُ أَنْ تَكونَ المَرْأَةُ مَطْلوبَةً لا طَالِبَةً.
قولُهُ: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} أَيْ أَعُوذُ بِاللهِ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ مِمَّا دَعَوْتِنِي إِلَيْهِ، وفيه تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِهَا فِي خِيَانَةِ عَهْدِهَا. وَهُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ أَعُوذُ بِاللهِ مَعَاذًا، فَيُحْذَفُ الْمَفْعُولُ وَيَنْتَصِبُ الْمَصْدَرُ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَيُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى اسْمِ اللهِ كَمَا يُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مُرُورَ عَمْرٍو أَيْ كَمُرُورِي بِعَمْرٍو. وَهُوَ كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ـ عليها السلامُ، لِلْمَلَكِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قالتْ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} سورةُ مريم، الآية: 18، وَعَلَّلَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ بِقَوْلِهِ: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ".
وقولُهُ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أَيْ إِنَّهُ ـ تَعَالَى، وَلِيُّ أَمْرِي كُلِّهِ، أَحْسَنَ مَقَامِي عِنْدَكُمْ وَسَخَّرَكُمْ لِي بِمَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، فَهُوَ يُعِيذُنِي وَيَعْصِمُنِي مِنْ عِصْيَانِهِ وَخِيَانَتِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِرَبِّهِ مَالِكَهُ الْعَزِيزَ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا مَظْلُومًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِد ـ رَضِي الله عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهُ رَبِّي" قَالَ: سَيِّدي يَعْنِي زوج الْمَرْأَة. وَأخرج ابْن الْمُنْذر عَن أبي بكرِ بْنِ عَيَّاشٍ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، فِي قَوْله: "إِنَّه رَبِّي" قَالَ: يَعْنِي زَوجَهَا. ويُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ ب "ربي" خالِقَهُ ـ تعالى، ومولاهُ، ويُحْتَمَلُ أنْه قصَدَ العزيزَ الذي تعهَّدَهُ وربّاهُ وآواه. وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ، وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْلَاهُ الْعَزِيزِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِجُمْلَةِ "أَحْسَنَ مَثْوايَ"، أَيْ جَعَلَ آخِرَتِي حُسْنَى، إِذْ أَنْقَذَنِي مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ أَكْرَمَ كَفَالَتِي وإيوائي.
وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ تَوْجِيهًا بَلِيغًا حُكِيَ بِهِ كَلَامُ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِمَّا لِأَنَّه هُوَ أَتَى بِمِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي لُغَةِ الْقِبْطِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَتَى بِتَرْكِيبَيْنِ عُذْرَيْنِ لِامْتِنَاعِهِ فَحَكَاهُمَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالتَّوْجِيهِ. وَفِيهِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَفَافِ وَالتَّقْوَى وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وبعدها.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ! مَا أَحْسَنَ صُورَةَ وَجْهِكَ! قَالَ: فِي الرَّحِمِ صَوَّرَنِي رَبِّي، قَالَتْ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شعرك! قال: هو أَوَّلُ شَيْءٍ يَبْلَى مِنِّي فِي قَبْرِي، قَالَتْ: يَا يُوسُفُ! مَا أَحْسَنَ عَيْنَيْكَ؟ قَالَ: بِهِمَا أَنْظُرُ إِلَى رَبِّي. قَالَتْ: يَا يُوسُفُ ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي وَجْهِي، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ الْعَمَى فِي آخِرَتِي. قَالَتْ: يَا يُوسُفُ أَدْنُو مِنْكَ وَتَتَبَاعَدُ مِنِّي؟! قَالَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ الْقُرْبَ مِنْ رَبِّي. قَالَتْ: يَا يُوسُفُ الْقَيْطُونُ (المخدع) فَرَشْتُهُ لَكَ فَادْخُلْ مَعِي، قَالَ: الْقَيْطُونُ لَا يَسْتُرُنِي مِنْ رَبِّي. قَالَتْ: يَا يُوسُفُ فِرَاشُ الْحَرِيرِ قَدْ فَرَشْتُهُ لَكَ، قُمْ فَاقْضِ حَاجَتِي، قَالَ: إِذًا يَذْهَبُ مِنَ الْجَنَّةِ نَصِيبِي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهَا وَهُوَ يُرَاجِعُهَا.
قولُهُ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِلِامْتِنَاعِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمًا لِ "إِنَّ" ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُفِيدُ أَهَمِّيَّةَ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ خَبَرًا عَنْهُ لِأَنَّهَا مَوْعِظَةٌ جَامِعَةٌ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ إِجَابَتَهَا لِمَا رَاوَدَتْهُ ظُلْمٌ، لِأَنَّ فِيهَا ظُلْمُ كِلَيْهِمَا نَفْسَهُ بِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ مِمَّا اتَّفَقَتِ الْأَدْيَانُ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَظُلْمُ سَيِّدِهِ الَّذِي آمَنَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَآمَنَهَا عَلَى نَفْسِهَا إِذِ اتَّخَذَهَا زَوَجًا وَأَحْصَنَهَا.
قولُهُ تَعَالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} الواوُ: استئنافيَّةٌ. و "راودتْهُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، والتاءُ الساكنةُ لتأنيثِ الفاعلِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على الضمِّ في محلِ نصبِ مفعولٍ بهِ. و "الَّتِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ مَسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "هُوَ" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ. و "فِي بَيْتِهَا" جارٌّ ومَجْرورٌ مضافٌ، متعلَّقٌ بخبرِ المُبْتَدَأِ والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرِّ مُضافٍ إلَيْهِ، وهذه الجملةُ الاسمِيَّةُ صِلَةُ الاسمِ الموصولِ "التي". و "عَنْ نَفْسِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "راودتْ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليهِ. وقد عُدِّيَ فِعْلُ المُراوَدَةِ بِ "عَنْ"، لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى المُخادَعَةِ. قال بَعْضُ العُلَماءِ: و "عَنْ" هُنَا للمُجاوَزَةِ، أَيْ: راوَدَتْهُ مُباعِدَةً لَهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا، والظاهرُ أَنَّ هذا التَرْكيبَ مِنْ مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ الكَريمِ، فالنَّفْسُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ غَرَضِ المُواقَعَةِ، كما قال ابْنُ عَطِيَّةَ، أَي: فالنَّفْسُ أَريدَ بِهِ عَفافُهُ وتَمْكينُها مِنْهُ لِما تُريدُ، فكأَنَّها تُراوِدُهُ عَنْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْها إِرادَتَهُ وحُكْمَهُ في نَفْسِهِ.
قولُهُ: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} الوَاوُ: للعطفِ، و "غَلَّقَتِ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ والتاءُ الساكنةُ لتأنيثِ الفاعلِ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هي" يعودُ على امرأةِ العزيزِ، و "الْأَبْوَابَ" مَفعولٌ بهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ "راودت".
قولُهُ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} الوَاوُ: للعطفِ، و "قَالَتْ" مثلُ "غلَّقت" و "هَيْتَ" بفتْحِ الهاءِ والتاءِ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى "أَقْبِلْ" و "تعَالَ" وهو مبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لِشِبَهِهِ بالحَرْفِ شَبَهًا اسْتِعْمالِيًّا، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ على يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، وجُمْلَةُ اسْمِ الفِعْلِ في مَحلِّ النَّصْبِ ب "قَالَ". و "لَكَ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحذوفٍ تَقديرُهُ: الخِطابُ كائنٌ لَكَ، أَوْ مَعَكَ، والجُمْلَةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ ب "قَالَ".
قولُهُ: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على يوسُفَ ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ هذه لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ كونها مُسْتَأْنِفَة. و "مَعَاذَ اللهِ" مَفعولٌ مُطْلَقٌ مَنْصوبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجوبًا تَقديرُهُ: أَعُوذُ مَعاذًا، وهو مضافٌ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَعْمُولِهِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّهُ رَبِّي} إنَّ: حَرْفٌ ناسخٌ ناصِبٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، مُفِيدٌ تَعْلِيلَ مَا أَفَادَهُ "مَعاذَ اللهِ" مِنَ الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِصَامِ بِاللهِ الْمُقْتَضِي أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِذَلِكَ الِاعْتِصَامِ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ، ويَجُوزُ أَنْ يَعُودَ هذا الضميرُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، فَيَكُونُ "رَبِّي" بِمَعْنَى خَالِقِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي لَا يَرْضَى بِأَنْ يَمَسَّهَا غَيْرُهُ، فَهُوَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، فَيَكُونُ "رَبِّي" بِمَعْنَى سَيِّدِي وَمَالِكِي. و "ربِّي" خَبَرُهُ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرة على ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ لانشغالِ المحلِّ بالحركة المُناسبةِ للياءِ، وهو مضافٌ، والياءُ: ضميرٌ متَّصلٌ يعود على الباري جَلَّ وعَلا، في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالَ" كونَها تَعليلًا لِمَا قَبْلَها.
قولُهُ: {أَحْسَنَ مثوايَ} أحسنَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستتِرٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ عَلَى "رَبِّي". و "مَثْوَايَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلى آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورها على الألِفِ، وهو مضافٌ، والياءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّة في مَحَلِّ النَّصْبِ كونَها حالًا لازمةً مِنْ "رَبِّي".
قولُهُ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} إِنَّهُ: إعرابها كسابقتِها. و "لَا" نافيةٌ لا عملَ لها، و "يُفْلِحُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، و "الظَّالِمُونَ" فاعلُهُ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عوضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المفردِ، والجملةُ الفعليَّةُ هذه في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ". وهذِهِ الهاءُ ضمير الشأن والقِصَّةِ ليس إلَّا، أَيْ إِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ أَنَّ سَيِّدِي الْمَالِكَ لِرَقَبَتِي قَدْ أَحْسَنَ مُعَامَلَتِي فِي إِقَامَتِي عِنْدَكُمْ وَأَوْصَاكِ بِإِكْرَامِ مَثْوَايَ، فَلَنْ أَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ بِشَرِّ الْإِسَاءَةِ وَهُوَ خِيَانَتُهُ فِي أَهْلِهِ.
قَرَأَ الْجُمهورُ: {هَيْتَ} بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّة وَضمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وبفتْحِها، وَالْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ حَرَكَتَا بِنَاءٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذِكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَقرأَ أَبُو جَعْفَرٍ "هِيتَ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّهُ صَوْتٌ نَحْوُ مَهْ وَصَهْ يَجِبُ أَلَّا يُعْرَبَ، وَالْفَتْحُ خَفِيفٌ، لِأَنَّ قَبْلَ التَّاءِ يَاءً مِثْلُ، أَيْنَ وَكَيْفَ، وَمَنْ كَسَرَ التَّاءَ فَإِنَّمَا كَسَرَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ الْكَسْرُ، لِأَنَّ السَّاكِنَ إِذَا حُرِّكَ حُرِّكَ إِلَى الْكَسْرِ، وَمَنْ ضَمَّ فَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ، أَيْ قَالَتْ: دُعَائِي لَكَ، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْإِضَافَةُ بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ، مِثْلُ حَيْثُ وَبَعْدُ. وقرَأَ ابْنُ كثيرٍ "هَيْتُ" بفتح الهاءِ وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مَضْمَومَةٍ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا مَرَّ. والآخَرُ أَنْ يَكونَ فِعْلًا مِنْ هاءِ يَهِيئُ مِثْل: جاءَ يَجئُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي "هِئْتَ" أَيْ حَسُنَتْ هَيْئَتُكَ، وَيَكُونُ "لَكَ" مِنْ كَلَامٍ آخَرَ، كَمَا تَقُولُ: لَكَ أَعْنِي. وَمَنْ هَمَزَ وَضَمَّ التَّاءَ "هِئْتُ" فَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ لَكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ "هِيتُ لَكَ". وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ـ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: سُئِلَ أَبُو عَمْرٍو عَنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ مَهْمُوزًا فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: بَاطِلٌ جَعًلُهَا مِنْ تَهَيَّأْتُ! اذْهَبْ فَاسْتَعْرِضِ الْعَرَبَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْيَمَنِ هَلْ تَعْرِفُ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا؟! وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: لَمْ تُحْكَ "هِئْتُ" عَنِ العَرَبِ. قالَ عِكْرِمَةُ: "هِيتُ لَكَ" أَيْ تَهَيَّأْتُ لَكَ وَتَزَيَّنْتُ وَتَحَسَّنْتُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تُسْمَعْ فِي الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ جَيِّدَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لأَنَّهُ يُقالُ: هاءَ الرَّجُلُ يَهاءُ ويَهيئُ هَيْأَةً، فهاءَ يَهيئُ مِثْلُ جاءَ يَجِيءُ وهِيتُ مِثْلُ جِئْتُ. وَكَسْرُ الْهَاءِ فِي "هَيْتَ" لُغَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْثِرُونَ كَسْرَ الْهَاءِ عَلَى فَتْحِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْوَدُ الْقِرَاءَاتِ "هَيْتَ" بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالتَّاءِ، قَالَ طَرَفَةُ:
لَيْسَ قَوْمِي بِالْأَبْعَدِينَ إِذَا مَا .............. وقال دَاعٍ مِنَ الْعَشِيرَةِ هَيْتَ
بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالتَّاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي عَلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَبْلِغْ أَميرَ المُؤْمِنــ ............................ ـــينَ أَخَا الْعِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا
إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ .............................. سِلْمٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
وقرأ هِشامٌ "هِئْتَ" بِكَسْرِ الهاءِ وهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وتاءٍ مَفْتوحَةٍ أَوْ مَضْمُومَةٍ. فهَذِهِ خَمْسُ قِراءاتٍ في السَّبْعِ.
وَأخرجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابِ أَنَّهُ قَرَأَهَا "هِيتُ لَك" بِكَسْر الْهَاء وَضَمِّ التَّاءِ يَعْنِي تَهَيَّأْتُ لَكَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ "هِئْتُ لَك" مَكْسُورَة الْهَاء مَضْمُومَة التَّاءِ مَهْمُوزَةً، قَالَ: تَهَيَّأْتُ لَكَ.
وقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وأَبو الأَسْوَدِ، والحَسَنُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ ـ رضي اللهُ عنهم جميعًا، "هَيْتِ" بفتحِ الهاءِ وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مَكْسُورَةٍ.
وحكى أبو جعفرٍ النَّحَّاسُ أَنَّهُ قُرِئَ "هِئْتِ" بِكَسْرِ الهاءِ والتاءِ بَيْنَهُما ياءٌ ساكِنَةٌ.
وقرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ أَيْضًا "هُيِيْتُ" بِضَمِّ الهاءِ وكَسْرِ الياءِ بعدَها يَاءٌ ساكِنَةٌ ثمَّ تاءٌ مَضمومَةٌ بِزِنَةِ حُيِيْتُ. وقرأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ أَبي إسْحاقَ "هِيتُ" بِكَسْرِ الهاءِ وياءٍ ساكِنَةٍ وتاءٍ مَضْمومَةٍ. فهذِهِ أَرْبَعُ قراءاتٍ في الشاذِّ فَصارَتْ تِسْعَ قِراءاتٍ. فيَتَعَيَّنُ كونُها اسمَ فعل في غيرِ قراءَةِ ابْنِ عبَّاسٍ "هُيِيْتُ" بِزِنَةِ حُيِيْتُ. وفي غيْرِ قراءَةِ كَسْرِ الهاءِ سَواءً كانَ ذَلِكَ بالياءِ أَمْ بالهَمْزِ، فَمَنْ فَتَحَ التاءَ بَنَاها على الفَتْحِ تَخْفيفًا نَحْوَ: "أَيْنَ" و "كيْفَ"، ومَنْ ضَمَّها كابْنِ كَثيرٍ فَتَشْبيهًا بِ "حَيْثُ"، ومَنْ كَسَرَ فَعَلى أَصْلِ التِقاءِ السَّاكِنَيْن ِكَ "جَيْرِ"، وفَتْحُ الهاءِ وكَسْرُها لُغَتَانِ.
ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءةِ ابْنِ عبّاسٍ "هُيِيْتُ" بِزِنَةِ "حُيِيْتُ" فإنَّها في هذه القراءةِ فِعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمَفْعولِ مُسْنَدٌ إلى ضميرِ المُتَكَلِّمِ مِنْ هَيَّأْتُ الشَّيْءَ، ويُحْتَمَلُ الأَمْرانِ في قراءةِ مَنْ كَسَرَ الهاءَ وضَمَّ التّاءَ، فيُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ فيهِ اسْمَ فِعْلٍ بُنِيَتْ على الضَّمِّ كَ "حَيْثُ"، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ فِعْلًا مُسْنَدًا إلى ضَميرِ المُتَكَلِّم مِنْ هاءَ الرَّجُلُ يَهِيءُ ك "جاء يَجيء"، ولَهُ حِينَئِذٍ مَعْنَيانِ، أَحَدُهُما: أَنْ يِكونَ بِمَعْنَى حَسُنَ هَيْئَةً. والثاني: أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى تَهَيَّأَ، يُقالُ: هِئْتُ، أَيْ: حَسُنَتْ هَيْئَتِي أَوْ تَهَيَّأْتُ. وجوَّزَ أَبو البَقاءِ أَنْ تَكونَ "هِئْتُ" هذه مِنْ: هاءَ يَهاءُ، كَشاءَ يَشاءُ.
وقدْ طَعَنَ جَماعةٌ على قِراءَةِ هِشامٍ الّتِي بالهَمْزِ وفَتْحِ التّاءِ، فقالَ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكونَ الهَمْزُ وفَتْحُ التّاءِ وَهْمًا مِنَ الرّاوي، لأنَّ الخِطابَ مِنَ المَرْأَةِ لِيُوسُفَ، ولَمْ يَتَهَيَّأْ لَهَا بِدليلِ قولِهِ تعالى: "وراوَدَتْهُ"، وقولِهِ بعدَ ذلك في الآيةِ: 52، مِنَ السُّورَةِ ذاتِها: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ}. وقد تابَعَهُ عَلى ذَلِكَ جَماعةٌ. وقالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ: يَجِبُ أَنْ يَكونَ اللَّفْظُ "هِئْتَ لِي" ولَمْ يَقْرَأْ بِذلكَ أَحَدٌ، وأَيْضًا فإنَّ المَعْنَى عَلى خِلافِهِ لأنَّهُ ـ عليهِ السلامُ، لَمْ يَزَلْ يَفِرُّ مِنْها، ويَتَباعَدُ عنْها، وهيَ تُراوِدُهُ، وتَطْلُبُهُ، وتَقُدُّ قَميصَهُ، فَكَيْفَ يُخْبَرُ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لَها؟
وقد أَجابَ بعضُهُم عَنْ هذيْنِ الإِشْكالَيْنِ بِأَنَّ المَعْنَى: تَهَيَّأَ لِي أَمْرُكَ، لأَنَّها لَمْ تَكُنْ تَقْدِرُ عَلى الخَلْوَةِ بِهِ في كُلِّ وَقْتٍ، أَوْ يَكونُ المَعنى: حَسُنَتْ هَيْئَتُكَ. و "لَكَ" مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ عَلَى سَبيلِ البَيانِ كَأَنَّها قالتْ: القولُ لَكَ، أَوِ الخِطابُ لَكَ، كما هِيَ في "سقْيًا لك" و "رَعْيًا لَكَ". فتكونُ اللّامُ مُتَعَلِّقَةً بِمَحذوفٍ عَلى كُلِّ قِراءَةٍ إِلَّا قِراءَةً ثَبَتَ فيها كونُها فعْلًا، فإنَّها حِينَئذٍ تَتعلَّقُ بالفِعْلِ، إذْ لا حاجَةَ إلى تَقديرِ شَيْءٍ آخَرَ.
وقال أَبو البَقاءِ: والأَشْبَهُ أَنْ تَكونَ الهَمْزَةُ بَدَلًا مِنَ الياءِ، أَوْ تَكونَ لُغَةً في الكَلِمَةِ التي هِي اسْمٌ للفِعْلِ، ولَيْسَتْ فِعْلًا لأنَّ ذَلكَ يُوجِبُ أَنْ يَكونَ الخِطابُ لِيُوسُفَ ـ عليْهِ السَّلامُ، وهذا فاسِدٌ لِوَجْهَيْن، أَحَدُهُما: أَنَّهُ لَمْ يَتَهَيَّأْ هو لَها وإنَّما هِي التي تَهَيَّأَتْ لَهُ. والثاني: أَنَّهُ تعالى قالَ: "لَكَ"، ولَو أَرادَ الخِطابَ لَقالَت: "هِئْتَ لِي". وقدْ تَقَدَّمَ الجوابُ عن هذا. وقوله: (إِنَّ الهمزةَ بَدَلٌ مِنَ الياءِ) جاءَ عَكْسَ لُغَةِ العَرَبِ، إذْ قَدْ عَهِدْناهم يُبْدِلونَ الهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ ياءً إذا انْكَسَرَ ما قَبْلَها نَحوَ: "بِيرٍ" و "ذِيبٍ"، ولا يَقْلِبونَ الياءَ المَكْسورَ ما قبْلَها همزةً نَحْوَ: "مِيلٍ" و "دِيكٍ"، وأَيْضًا فإنَّ غيرَهُ جَعَلَ الياءَ الصَّريحَةَ مَعَ كَسْرِ الهاءِ كَقِراءَةِ نافعٍ وابنِ ذِكْوانَ مُحْتَمِلِةً لأَنْ تَكونَ بَدَلًا مِنَ الهَمْزَةِ، فيَعودَ الكَلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ هِشامٍ. والقراءةُ التي اسْتَشْكَلَها الفارسيُّ هيَ المَشهورَةُ عَنْ هِشام، وأَمَّا ضَمُّ التاءِ فغيرُ مَشْهورٍ عَنْهُ.
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَالْبُخَارِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي وَائِلٍ ـ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَرَأَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ: "هَيْتَ لَك" بِفَتْح الْهَاء وَالتَّاء فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّ نَاسًا يَقرؤونَها "هَيْتُ لَك" فَقَالَ: دَعونِي فَإِنِّي أَقرَأ كَمَا أُقْرِئْتُ أَحَبُّ إليَّ. وَأَخْرَجَ أيضًا ابْنُ جريرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ "هَيْتَ لَك" بِنصب الْهَاء وَالتَّاء وَلَا يَهْمِزُ. وَأَخْرَجَ أيضًا ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبي وَائِلٍ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ "هِئْتُ لَكَ" رَفعًا أَي: تَهَيَّأْتُ لَكَ.
وَأخرجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ زَرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ "هَيْتَ لَك" بالنصبِ أَي هَلُمَّ لَك، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَذَلِك كَانَ الْكِسَائيُّ يَحْكيها، قَالَ: هِيَ لُغَة لأَهْلِ نَجْدٍ وَقَعَتْ إِلَى الْحِجازِ مَعْنَاهَا: تعال.
وَأَخرجَ أَبُو عُبيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ "هِيتَ لَك" بِكَسْر الْهَاء وَفتحِ التَّاءِ.
قرأَ الجُمهورُ: {مثوايَ} وقرَأَ الجَحْدَريُّ وأَبو الطُفَيلِ الغَنَوِيُّ: "مَثْوَيَّ" بقَلْبِ الأَلِفِ ياءً وإِدْغامِها، ك "بُشْرَيَّ" و "هُدَيَّ".