فيض العليم .... سورة يوسف، الآية:5
قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(5)
قولُهُ ـ جلَّ ثناؤه: {قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ} النِّدَاءُ مَعَ حُضُورِ الْمُخَاطَبِ لطَلَبِ إِحْضَارِ الذِّهْنِ اهْتِمَامًا بِالْمُرادِ مِنَ الْمُخَاطَبِ فِيهِ. والرُّؤْيَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، والصَّادِقَةُ منها مِنَ اللهِ تعالى، وَهي مِنَ النُّبُوَّةِ، كما قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذا رَأَى أَحَدُكُم شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاث مَرَّات ثمَّ لِيَسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَان فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ)) أَخْرَجَه الأئمَّةُ مَالكٌ في المُوَطَّأِ رواية محمد بن حسن: (8/144)، وأَحمَدُ في مُسْنَدِهِ: (46/28)، وَالْبُخَارِيُّ في صحيحِه: (18/30) وَأَخْرَجَهُ مُسلمٌ في صحيحه: صحيح مسلم (11/348)، وَالتِّرْمِذِيُّ في سُنَنِه: (8/238) وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالنَّسَائيُّ في سُنَنِهِ الكُبْرَى: (4/391)، وأبو داوود: (13/209)، وَابْنُ ماجَةَ في سُنَنِهِ: (11/386) وزاد: ((وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ)) منْ حديثِ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ عن أَبي قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وفي بعضِ الروايات: قَالَ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا أُعْرَى مِنْهَا غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمَّلُ حَتَّى لَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: ((الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذا رَأَى أَحَدُكُم شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاث مَرَّات ثمَّ لِيَسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَان فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ)) قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا، وللحديثِ رواياتٌ كثيرةٌ لعددٍ غيرِ قليلٍ من الأئمَّةِ عَنْ أبي قَتادةَ وعَنْ غَيْرِهِ. وَالتَّصْدِيقَ بِالرؤيا حَقَّ، وَلَهَا التَّأْوِيلُ الْحَسَنُ، وَرُبَّمَا أَغْنَى بَعْضُهَا عَنِ التَّأْوِيلِ، وَفِيهَا مِنْ بَدِيعِ اللهِ وَلُطْفِهِ مَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ فِي إِيمَانِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْأَثَرِ، وَلَا يُنْكِرُ الرُّؤْيَا إلَّا أَهْلُ الإلْحادِ وشِرْذِمةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. والرُّؤْيَا المُضافَةُ إلى اللهِ تَعَالى الَّتِي خَلَصَتْ مِنَ الْأَضْغَاثِ وَالْأَوْهَامِ، وَكَانَ تَأْوِيلُهَا مُوَافِقًا لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أمَّا الَّتِي هِيَ مِنْ خَبَرِ الْأَضْغَاثِ فهِيَ الْحُلْمُ، وَهِيَ الْمُضَافَةُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ ضِغْثًا، لِأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ مُتَضَادَّةً. وَقَدْ قَسَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرُّؤْيَا أَقْسَامًا تُغْنِي عَنْ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ، ورَوَى عَوْفُ ابْنُ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّه قَالَ: ((الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ مِنْهَا أَهَاوِيلُ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهْتَمُّ بِهِ فِي يَقِظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءً مِنَ النُّبُوَّةِ. قَالَ قُلْتُ: سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نَعَمْ! سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه: (2/1285، رقم: 3907). قالَ البُوصِيرِيُّ: (4/155): هذا إِسْنَادٌ صحيحٌ رِجالُهُ ثِقاتٌ. وأخرجهُ الطَبَرانيُّ في مُعْجَمِهِ الكَبير: (18/63، رقم: 118). وفي الأَوْسَط: (7/24، رقم: 6742). فإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جُزْءً مِنَ النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْكَافِرُ وَالْكَاذِبُ وَالْمُخَلِّطُ أَهْلًا لَهَا؟ وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُرْضَى دِينُهُ مَنَامَاتٌ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، كَمَنَامِ رُؤْيَا الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ، وَمَنَامِ الْفَتَيَيْنِ فِي السِّجْنِ، ورُؤيا بُخْتَ نَصَّرَ، الَّتِي فَسَّرَهَا دَانْيَالُ فِي ذَهَابِ مُلْكِهِ، وَرُؤْيَا كِسْرَى فِي ظُهُورِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَامِ عَاتِكَةَ، عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَمْرِهِ وَهِيَ كَافِرَةٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ: "بَابَ رُؤْيَا أَهْلِ السِّجْنِ"، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ وَالْفَاسِقَ وَالْكَاذِبَ وَإِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا تَكُونُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا مِنَ النُّبُوَّةِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ في حَديثِهِ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ نُبُوَّةً، فإنَّ الْكَاهِنَ وَغَيْرُهُ قَدْ يُخْبِرُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ فَيَصْدُقُ، لَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى النُّدُورِ وَالْقِلَّةِ، فَكَذَلِكَ رُؤْيَا هَؤُلَاءِ، وإنَّما تَرْجَمَ البُخَارِيُّ بِهَذَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا أَهْلِ الشِّرْكِ رُؤْيَا صَادِقَةً، كَمَا كَانَتْ رُؤْيَا الْفَتَيَيْنِ صَادِقَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ إِلَى النُّبُوَّةِ إِضَافَةَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ إِلَيْهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلٌ مِنَ الرُّؤْيَا حَقِيقَةً يَكُونُ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
والْقَصُّ: حِكَايَةُ الرُّؤْيَا. يُقَالُ: قَصَّ الرُّؤْيَا إِذَا حَكَاهَا وَأَخْبَرَ بِهَا. وَهُوَ مِنَ الْقَصَصِ الذي تقدَّمَ شرحُهُ مفصَّلًا في الآيةِ التي قبلها. وَكذلك فصَّلْنا في الرُّؤْيَا التي هِيَ: رُؤْيَةُ الصُّوَرِ فِي النَّوْمِ، والرُؤْيَةِ في التي تكونُ في الْيَقَظَةِ.
إذًا فقد نَصَحَ يعقوبُ ابْنَهُ يوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، بِأَنْ لا يَقصَّ رُؤياهُ عَلَى إِخْوَتِهِ لِعَلِمَهِ أَنَّ أَبْناءَهُ الْعَشَرَةَ كَانُوا يَغَارُونَ مِنْ أَخيهم يوسُفَ لِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ خُلُقًا وَخَلْقًا، وَلعِلْمِهِ بأَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ الرُّؤْيَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَا تُؤْذِنُ بِرِفْعَةٍ يَنَالُهَا يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى إِخْوَتِهِ، فَخَشِيَ إِنْ قَصَّهَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَشْتَدَّ الْغَيْرَةُ بِهِمُ، وتَصِلَ بِهم إِلَى حَدِّ حَسَدِ أَخيهم، فَيَكِيدُوا لَهُ.
رَوى الطبريُّ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رضي اللهُ عنه، قالَ: نَزَلَ يَعْقوبُ الشَّامَ، فَكانَ هَمُّهُ يُوسُفَ وأَخَاهُ، فحَسَدَهُ إِخْوَتُهُ لَمَّا رَأَوْا حُبَّ أَبيهِ لَهُ. ورَأَى يُوسُفُ في المَنَامِ كَأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ رَآهم لَهُ ساجدينَ، فحَدَّثَ بِها أَباهُ، فقالَ: "يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا"، الآية.
قولُهُ: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} أَيْ: يَحْتَالونَ فِي هَلَاكِكَ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهَا ظَاهِرٌ، فَرُبَّمَا يَحْمِلُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَصْدِكَ بِسُوءٍ حِينَئِذٍ. وقد قالَ يَعقوب ُـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ذَلِكَ، لأنَّه قد كان تَبَيَّن لَهُ مِنْ أبنائهِ قبلَ ذَلِك حَسَدًا، وَالْكَيْدُ: إِخْفَاءُ عَمَلٍ يَضُرُّ الْمَكِيدَ. وَقَصَدَ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ هذَه النَّصيحَةِ نَجَاةَ ابْنِهِ مِنْ أَضْرَارٍ تَلْحَقُهُ، وَلَيْسَ قَصْدُهُ إِبْطَالَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ أَضْرَارٍ وَمَشَاقَّ. لأَنَّ يُوسُفَ كانَ نَبِيًّا في عِلْمِ اللهِ مُذْ كانَ، ورُؤْيا الأَنْبياءِ حَقٌّ ووحْيٌ، ولكنَّهُ أَشْفَقَ عَلى ابْنِهِ مِنْ عاقبةِ حَسَدِ إِخْوَتِهِ لَهُ إذا ما عَلِمُوا بهَذِهِ الرُؤْيا.
قولُهُ: {إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تَّعْلِيلِ لِنَهْيِهِ عَنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَى إِخْوَتِهِ. وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُمْ إِلَى إِضْرَارِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.
قولُهُ تعالى: {قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ} قال: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على أَبيهِ يعقوبَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا" أداةٌ للنِّداءِ، و "بُنَيَّ" بالفتحِ مُنَادَى مضافٌ مَنْصوبٌ بالنِّداءِ، وعلامة نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى ما قَبْل ياءِ المُتَكَلِّمِ المُنْقَلِبَةِ أَلِفًا للتَّخْفيفِ، بَعْدَ قَلْبِ الكَسْرَةِ فَتْحَةً لِمُناسَبَةِ الأَلِفِ المَحْذوفَةِ، تِلْكَ الأَلِفُ للتَّخْفيفِ، و "بُنَيَّ" مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المُنْقَلِبَةِ أَلِفًا للتَّخْفيفِ في مَحَلِّ الجَرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ. و "بُنَيِّ" بالكَسْرِ مُنادَى مُضافٌ مَنْصوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ما قَبْلَ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولَ القولِ ل "قَالَ". و "بُنَيَّ" بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، تَصْغِيرُ ابْنٍ مَعَ إِضَافَتِهِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَصْلُهُ "بُنَيْوِي" أَوْ "بُنَيْيِي" عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ لَامَ ابْنٍ الْمُلْتَزَمَ عَدَمُ ظُهُورِهَا هِيَ وَاوٌ أَمْ يَاءٌ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهَا أُدْغِمَتْ فِيهَا يَاءُ التَّصْغِيرِ بَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ يَاءً لِتَقَارُبِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، أَوْ لِتَمَاثُلِهِمَا فَصَارَ (بُنَيِّي). وَقَدِ اجْتَمَعَ ثَلَاثُ يَاءَاتٍ فَلَزِمَ حَذْفُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لُزُومًا وَأُلْقِيَتِ الْكَسْرَةُ الَّتِي اجْتُلِبَتْ لِأَجْلِهَا عَلَى يَاءِ التَّصْغِيرِ دَلَالَةً عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ شَائِعٌ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ فِي إِبْقَائِهَا ثِقَلٌ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ الْتِقَاءَ يَاءَاتٍ ثَلَاثٍ فِيهِ ثِقَلٌ. وَهَذَا التَّصْغِيرُ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْبِيبٍ وَشَفَقَةٍ. نَزَّلَ الْكَبِيرَ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ شَأْنَ الصَّغِيرِ أَنْ يُحَبَّ وَيُشْفَقَ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ إِمْحَاضِ النُّصْحِ لَهُ. و "لَا" ناهيَةٌ جازمةٌ، و "تَقْصُصْ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ ب "لا" الناهية، والفاعلُ مستترٌ وجوبًا تقديرُهُ: "أنتَ" يعودُ على يوسُفَ ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ"، عَلى أنَّها جَوابُ النِّداءِ. و "رؤياك" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "عَلَى إِخْوَتِك" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقانِ بِـ "لا تَقْصُصْ". والرؤيا: مَصْدَرٌ كالبُشْرى والسُقْيا والتُّقى والشورى، إلَّا أَنَّهُ لمَّا صار اسمًا لهذا المتُخيل في المنامِ جَرَى مُجْرى الأسماء، وخرج من حكم الأعمال فلا يعمل واحدٌ منها أعمال المصادر، ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها بالجمعِ على "رُؤى"، فصارَ بِمَنْزِلَةِ ظَلَمَ، والمَصادِرُ في أَكثَرِ الأَمْرِ لا تُكْسَرُ.
قولُهُ: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} الفاءُ: عاطفة ٌسَبَبِيَّةٌ. و "يَكِيدوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِ "أنْ" مُضْمَرَةً وجوبًا بَعْدَ الفاءِ السَّبَبيَّةِ الواقعةِ في جَوابِ النَّهْيِ. وعلامةُ نَصبِهِ حذفُ النونِ من آخرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، و "لَكَ" جرٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "يكيدوا"، أَوْ بحالٍ من ضميرِ فاعِلِهِ أَوْ ب "كَيْدًا". و "كَيْدًا" فيهِ وجْهانِ، أَحَدُهُما: أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، وهو الظاهر، وعَلى هذا فَفِي اللامِ من قولِهِ "لك" خَمْسَةُ أَوْجُهٍ، أوَّلُها: أَنْ يَكونَ "يكيد" ضُمِّنَ معنى ما يَتَعَدَّى باللامِ؛ لأَنَّهُ في الأَصْلِ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ كما هو في قولِهِ تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} سورة هود، الآية: 55، والتَقْديرُ: فيَحْتَالوا لَكَ بالكَيْد.ِ وضُمِّنَ مَعْنَى فعلٍ يَتَعَدَّى باللَّامِ لِيُفيدَ مَعْنَى فِعْلِ الكَيْدِ مَعَ إِفادَةِ مَعْنَى الفِعْلِ المُضَمَّنِ فيَكونُ آكَدَ وأَبْلَغَ في التَخْويفَ، وذلك نحوَ: فيَحْتَالوا لَكَ، أَلَا تَرَى إِلى تَأْكِيدِهِ بالمَصْدَرِ "كيدًا"؟.
الوجْهُ الثاني مِنْ أَوْجُهِ اللامِ، قالَهُ الشيخُ أبو حيّان الأندلُسِيُّ: أَنْ تَكونَ مُعَدِّيَةً، ويَكونَ هَذا الفعَلُ ممَّا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الجَرِّ تارَةً، وبِنَفْسِهِ أُخْرَى كَنَصَحَ وشَكَرَ، قال السمينُ الحلبيُّ: وفيهِ نَظَرٌ، لأَنَّ ذاك بابٌ لا يَنْقاسُ إِنَّما يُقْتَصَرُ فيِهِ عَلى ما ذَكَرَهُ النُّحاةُ، ولم يَذْكروا "كادَ" مِنْهُ.
الثالثُ: قاله أبو البقاءِ: أَنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعولِ بِهِ كَزيادَتِها في قولِهِ: {رَدِفَ لَكُم} في الآية: 72، من سورة النملِ وهي: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُون} وقد ضَعَّفَهُ السمينُ؛ قال: لأَنَّ اللامَ لا تُزادُ إلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ: تَقديمُ المَعمولِ أَوْ كَوْنِ العامِلِ فَرْعًا.
الرابع: أَنْ تَكونَ اللامُ للعِلَّةِ، أَيْ: فَيَكِيدوا مِنْ أَجْلِكَ، وعَلَى هَذا فالمَفْعُولُ مَحْذوفٌ اقْتِصارًا أَوِ اخْتِصارًا.
الخامس: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحذوفٍ، لأَنَّها حالٌ مِنْ: "كَيْدًا" إذْ يجوزُ في الأَصْلِ أَنْ تَكونَ صِفَةً لَوْ تَأَخَّرَتْ.
الوجْهُ الثاني مِنْ وَجْهَيْ "كَيْدًا" أَنْ يَكونَ مَفْعولًا بِهِ، أَيْ: فَيَصْنَعُوا لَكَ كَيْدًا، أَيْ: أَمْرًا يَكيدونَكَ بِهِ، وهوَ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الاسْمِ ومِنْهُ قولُهُ تعالى في الآية: 64، من سورةِ طه: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ}، أَيْ: فأجمِعوا ما تَكيدونَ بِهِ، ذَكَرَهُ أَبو البَقاءِ وقالَ السمينُ: لَيْسَ بالبَيِّنِ، وعَلَى هَذا فَفي لامِ "لَكَ" وَجْهانِ فَقَطْ: كَونُها في الأصلِ صِفَةً ثمَّ صارَتْ حالًا، أَوْ هيَ للعِلَّةِ، وأَمَّا الثلاثةُ الباقِيَةُ فلا تَتَأَتَّى وامْتِنَاعُها واضِحٌ. وجملةُ "فَيَكِيدُواْ" في محلِّ النَّصْبِ جوابًا للنهيِ، وهوَ في تقديرِ شَرْطٍ وجَزاءِ، والتقديرُ: إنْ قَصَصْتَها عَلَيْهِم كادوك. وَاللَّامُ فِي لَكَ لِتَأْكِيدِ صِلَةِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ كَقَوْلِهِ: شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى. وَتَنْوِينُ كَيْداً لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ زِيَادَةٌ فِي تَحْذِيرِهِ مِنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَيْهِمْ.
قولُهُ: {إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، و "الشَّيْطَانَ" اسْمُهُ منصوبٌ به. و "لِلْإِنْسَانِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "عَدُوٌّ"، و "عَدُوٌّ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ. و "مُبِينٌ" صِفَتُهُ مرفوعةٌ مثلُهُ، وجُمْلَةُ "إنَّ" من اسمِها وخبرها في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" عَلى كَوْنِها مَسُوقَةً لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها.
قرأ العامَّة: {لاَ تَقْصُصْ} بِفَكِّ الصّادَيْنِ، وهيَ لُغَةُ الحِجازِ. وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "لا تقصَّ" بِصادٍ واحدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، والإِدغامُ لغةُ تميمٍ.
وقرأ العامَّة: {الرُّؤْيا} بهمزٍ مِنْ غير إمالة، وقرأها الكسائي في رواية الدُّوري عنه بالإِمالة. وأمَّا الرؤيا ورؤياي الاثنتان في هذه السورة فأمالهما الكسائي من غير خلافٍ في المشهور، وأبو عمرو يُبْدِلُ هذه الهمزةَ واوًا في طريق السُّوسِيِّ. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: وسَمِعَ الكِسائيُّ "رُيَّاك" و "رِيَّاكَ" بالإِدغام وضَمِّ الراءِ وكَسْرِها، وهي ضَعيفةٌ لأَنَّ الواوَ في تَقديرِ الهَمْزَةِ فلم يَقْوَ إدْغامِهَا كَمَا لمْ يَقْوَ إِدْغامُ "اتَّزر" مِنَ الإِزارِ، و "اتَّجَرَ" مِنَ الأَجْرِ. يَعْني أَنَّ العارِضَ لا يُعْتَدُّ بِهِ، وهذا هو الغالِبُ. وقدِ اعْتَدَّ القُرّاءُ بالعارِضِ في مَواضِع نَحْوَ "رِيَّا" في قولِهِ: {أَثَاثاً وَرِءْياً} الآيةُ: 74، من سورةِ مريم. عِنْدَ حَمْزَةَ، و {عَادًا الأولى} الآية: 50، من سورةِ النجم. وأَمَّا كَسْرُ "رِيَّاك" فلِئَلَّا يُؤَدِّي إِلى ياءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ ضَمَّةٍ، وأَمَّا الضَّمُّ فهوَ الأَصْلُ، والياءُ قدِ اسْتُهْلِكَتْ بالإِدْغام.