فيض العليم .... سورة هود، الآية: 123
وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَي: وَلله عِلْمُ مَا غَابَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. غَيْبُهُمَا وَشَهَادَتُهُمَا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: خَزَائنُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جَمِيعُ مَا غَابَ عَنِ العباد فيهما. وقالَ كثيرٌ مِنْ أَهْلِ التَفْسيرِ: غَيْبُ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ، نُزُولُ الْعَذَابِ مِنَ السَّمَاءِ، وَطُلُوعُهُ مِنَ الْأَرْضِ. وكأَنَّه جَوابُ ما سَأَلوهُ مِنَ العَذَابِ؛ كقولِهِ تعالى في الآية: 29، مِنْ سُورةِ العَنْكَبوتِ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين}، وكقولِهِ في الآية: 53، منْها: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}، وكقولِهِ في سُورَةِ يونُس: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية: 48. فقولُهُ هنا: "وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" أَيْ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ الله، وكَقَولِهِ: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، وكأَمثالِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: "وَللهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أَيْ عَلِمَ مَا غَابَ فِيهِمَا، أَضَافَ الْغَيْبُ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ تَوَسُّعًا، لِأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ، تَقُولُ: غِبْتُ فِي الْأَرْضِ وَغِبْتُ بِبَلَدِ كَذَا.
قولُهُ: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} مَعْنَى إِرْجَاعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ: أَنَّ أَمْرَ التَّدْبِيرِ وَالنَّصْرِ وَالْخِذْلَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ، أَيْ إِلَى عِلْمِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنْ حَسَبَ النَّاسُ وَهَيَّأُوا فَطَالَمَا كَانَتِ الْأُمُورُ حَاصِلَةً عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَعَدَّ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِدُّ، وَكَثِيرًا مَا اعْتَزَّ الْعَزِيزُ بِعِزَّتِهِ فَلَقِيَ الْخِذْلَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْتَقِبُ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُسْتَضْعَفُونَ بِمَحَلِّ الْعِزَّةِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى أُولِي الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ الْأُمُورَ، وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِ كُلُّهُ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. فَالرُّجُوعُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ عَجْزِ النَّاسِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ حَسَبَ رَغَبَاتِهِمْ بِهَيْئَةِ مُتَنَاوِلِ شَيْءٍ لِلتَّصَرُّفِ بِهِ ثُمَّ عَدِمَ اسْتِطَاعَتَهُ التَّصَرُّفَ بِهِ فَيُرْجِعُهُ إِلَى الْحَرِيِّ بِالتَّصَرُّفِ بِهِ، أَوْ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ خُضُوعِ الْأُمُورِ إِلَى تَصَرُّفِ اللهِ دُونَ تَصَرُّفِ الْمُحَاوِلِينَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِهَيْئَةِ الْمُتَجَوِّلِ الْبَاحِثِ عَنْ مَكَانٍ يَسْتَقِرُّ بِهِ ثُمَّ إِيوَائِهِ إِلَى الْمَقَرِّ اللَّائِقِ بِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ، فَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ رَمَزَ إِلَيْهَا بِفِعْلِ يُرْجَعُ وَتَعْدِيَتُهُ بِ إِلَيْهِ.
قال الإمامُ الرازي: وَاعْلَمْ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ. وَهِيَ: الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ. أَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَوْجُودَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِ الْإِلَهِ وَكُنْهَ هَوِيَّتِهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ لِلْبَشَرِ صِفَاتُهُ، ثُمَّ إِنَّ صِفَاتِهِ قِسْمَانِ: صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَصِفَاتُ الْإِكْرَامِ. أَمَّا صِفَاتُ الْجَلَالِ، فَهِيَ سُلُوبٌ، كَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا جِسْمٍ، وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا. وَهَذِهِ السُّلُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِأَنَّ السُّلُوبَ عَدَمٌ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصِّرْفُ، لَا كَمَالَ فِيهِ، فَقَوْلُنَا لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ إِنَّمَا أَفَادَ الكلام لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ الدَّائِمِ الْمُبَرَّأِ عَنِ التَّغَيُّرِ وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ عَدَمُ النَّوْمِ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالٍ أَصْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ وَالْجَمَادَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} الْأَنْعَامِ: 14، إِنَّمَا أَفَادَ، الْجَلَالَ وَالْكَمَالَ وَالْكِبْرِيَاءَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُطْعَمُ يُفِيدُ كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ غَنِيًّا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَلْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزِّ وَالْعُلُوِّ هِيَ الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ، وَأَشْرَفُ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ صِفَتَانِ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَ الله تَعَالَى ذَاتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهِمَا فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ. أَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ فَقَوْلُهُ: وَللهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ أَنَّ عِلْمَهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ وَالْحَاضِرَاتِ وَالْغَائِبَاتِ، وَتَمَامُ الْبَيَانِ وَالشَّرْحِ فِي دَلَالَةِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى نِهَايَةِ الْكَمَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآية: 59 مِنْ سُورةِ الْأَنْعَامِ: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ}، وَأَمَّا صِفَةُ الْقُدْرَةِ، فَقَوْلُهُ: "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" وَالْمُرَادُ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَصْدَرُ الْكُلِّ وَمَبْدَأُ الْكُلِّ هُوَ هُوَ وَالَّذِي يَكُونُ مَبْدَأً لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِلَيْهِ يَكُونُ مَرْجِعُ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، كَانَ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ نَافِذَ الْمَشِيئَةِ قَهَّارًا لِلْعَدَمِ بِالْوُجُودِ وَالتَّحْصِيلِ جَبَّارًا لَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالتَّكْمِيلِ، فَهَذَانِ الْوَصْفَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي شَرْحِ جَلَالِ الْمَبْدَأِ وَنَعْتِ كِبْرِيَائِهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِهَا أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مُهِمٌّ لَهُ فِي زَمَانِ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا تَكْمِيلُ النَّفْسِ بِالْمَعَارِفِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لَهَا بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. أَمَّا بِدَايَتُهَا فَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْجَسَدَانِيَّةُ، فَأَفْضَلُ الْحَرَكَاتِ الصَّلَاةُ، وَأَكْمَلُ السَّكَنَاتِ الصِّيَامُ، وَأَنْفَعُ الْبِرِّ الصَّدَقَةُ.
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ: الْفِكْرُ، وَالتَّأَمُّلُ فِي عَجَائِبِ صُنْعِ الله تَعَالَى في ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآية: 191 من سورة آلِ عِمْرَانَ: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، وَأَمَّا نِهَايَةُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَالِانْتِهَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، وَتَوْجِيهُ حَدَقَةِ الْعَقْلِ إِلَى نُورِ عَالَمِ الْجَلَالِ، وَاسْتِغْرَاقُ الرُّوحِ فِي أَضْوَاءِ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ رَأَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مُهَرْوِلًا تَائِهًا فِي سَاحَةِ كِبْرِيَائِهِ هَالِكًا فَانِيًا فِي فَنَاءِ سَنَاءِ أَسْمَائِهِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ السَّيْرِ إِلَى الله تَعَالَى هُوَ عُبُودِيَّةُ الله، وَآخِرُهَا التَّوَكُّلُ عَلَى الله، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ".
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمَرَاتِبِ الْمُهِمَّةِ لِكُلِّ عَامِلٍ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْرِفُ كَيْفَ يَصِيرُ حَالُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَلْ لِأَعْمَالِهِ أَثَرٌ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يُهْمِلُ أَحْوَالَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْجَاحِدِينَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْضَرُوا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسَبُوا عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ وَيُعَاتَبُوا فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، ثُمَّ يَحْصُلُ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَافِيَةٌ بِالْإِشَارَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْعُلْوِيَّةِ، والمقاصد الْقُدْسِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَهَا لِلْعُقُولِ مُرْتَقًى وَلَا لِلْخَوَاطِرِ مُنْتَهًى والله الْهَادِي لِلصَّوَابِ.
قولُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} إذا كانَ أَمْرُ كُلِّ شيءٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فاعْبُدْهُ بإخلاصِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ، وادْعُ إِلى طاعَتِهِ واتِّباعِ أَمْرِهِ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فيما لا يَدْخُلُ في مُكْنَتِكَ واسْتِطاعَتِكَ، ممَّا لَيْسَ لَكَ سَبيلٌ إِلى الحُصُولِ عَلَيْهِ، إذْ لا يَدْخُلُ تَحْتَ كَسْبِكَ، ولا تَنَالُهُ يَدُكَ. والتَّوَكُّلُ لا يُجْدِي نَفْعًا بِغَيْرِ العِبادَةِ والأَخْذِ بالأَسْبَابِ المُسْتَطاعَةِ، وبِدونِ ذَلِكَ يَكونُ مِنَ التَمَنِّي الكاذِبِ، والعِبادَةُ لا تَكْمُلُ إلَّا بالتَوَكُّلِ، إذْ بِهِ يَكْمُلُ التَّوحيدُ والإخْلاصُ لَهُ ـ سبحانَهُ وتَعَالَى.
رَوَى الأئمَّةُ أَحْمَدُ، والتِرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((الكَيِّسُ مَنْ دانَ نَفْسَهُ وعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، والعاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها وتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمانِي)). وخُلاصَةُ ذَلِكَ: امْتَثِلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وداوِمْ عَلى التَبْليغِ والدَّعْوَةِ، وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ في سائرِ أُمورِكَ، ولا تُبَالِ بالذينَ لا يُؤمنُونَ، ولا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَنْ عن هُداكَ يُعِرِضُونَ، فإننا لك ناصرونَ، ومن أَعْدائكَ منتقمون، ونحنُ على ذلك قادرونَ.
قولُهُ: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلَا يَغيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمالِ الْعِبادِ وَإِنْ صَغُرُ، وعَدَمُ غَفْلَتِهِ ـ سبحانَهُ، عَنْ أَيِّ عَمَلٍ معناهُ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ وَصْفُ الْغَافِلِ بِالْعَمَلِ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِالذَّوَاتِ نَحْوَ: بِغَافِلٍ عَنْكُمْ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عَلَى الْعَمَلِ جَزَاءً.
والآيةُ تذييلٌ لما تقدَّمَ، وكَلَامٌ جامعٌ، يَجْمَعُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا وُعِدُوا مِنَ النَّعِيمِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ، وَنِذَارَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا تُوُعِّدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُغَيَّبِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
أَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبلٍ فِي الزُّهْدِ مِنْ زَوَائِدِ المُسْنَدِ، وَابْنُ الضِّريسِ فِي فَضَائِل الْقُرْآنِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ كَعْبِ الأحبارِ ـ رَضِي الله عَنهُ، قَولَهُ: فَاتِحَة التَّوْرَاة فَاتِحَة الْأَنْعَام وخاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خاتمةُ هُودٍ: "وَلله غيبُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض" إِلَى قَوْله: "بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".
قولُهُ تعالى: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الواوُ: استئنافيةٌ، و "للهِ" وَاللَّامُ حَرْفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، واللامُ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ مِلْكُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ، ولَفْظُ الجَلالةِ اسْمٌ مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ هنا فِي "وَللهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" وبعدَهُ في قولِهِ: "إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، و "غَيْبُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، وهوَ مُضافٌ، و "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْأَرْضِ" مَعْطوفٌ عَلَى "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ مثلُهُ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فليسَ لها مَحلَّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "إِلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُرْجَعُ" الآتي بعدَهُ. و "يُرْجَعُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، و "الْأَمْرُ" نائبُ فاعِلٍ مرفوعٌ. و "كُلُّهُ" تَوْكِيدٌ معنويٌّ للأمْرِ مرفوعٌ مثلُهُ وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ فليسَ لها مَحلَّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} الفاءُ: حَرْفُ تَفْريعٍ، رابِطَةٌ لِجَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ. و "اعْبُدْهُ" فعلُ أمرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ على سيِّدِنا محمَّدٍ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نَصْبِ مفعولٍ به، والجُمْلَةُ هذه مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "يُرْجَعُ". و "وَتَوَكَّلْ" حرفُ عطفٍ وفعْلٌ أَمْرٍ مَعْطوفٌ عَلَى "اعْبُدْ"، و "عَلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
قولُهُ: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الواوُ: عاطفةٌ. و "ما" هي حجازيَّةٌ أَو تَميميَّةٌ. و "رَبُّكَ" اسْمُها مرفوعٌ بها وهو مُضافٌ، إنْ أُعرِبتْ حجازيَّةً، أَوْ مُبْتَدَأٌ إنْ أعربتْ تميميَّةً. وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، و "بِغَافِلٍ" الباءُ: حرفُ جرٍّ زائدةٌ، و "غافلٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، منصوبٌ مَحلًا خَبَرًا ل "ما" الحجازيَّةِ، أو مرفوعٌ محلًا خبرًا للمُبْتَدَأِ، إنْ اعتُبرَتْ "ما" تَميميَّةً. و "عَمَّا" عنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ "بِغَافِلٍ"، و "ما" موصولةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بِ "عَنْ" أَوْ هِيَ نَكِرةٌ مَوْصوفَةٌ. و "تَعْمَلُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصبِ وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ والجملةُ صِلَةٌ لِـ "ما" الموصولةِ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ، إنِ اعتبرتْ نكرةً موصوفةً، والجُمْلَةُ هذه مَعْطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "فَاعْبُدْهُ".
قرَأَ الجمهورُ: {يَرجِعُ} بالبناءِ للفاعلِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ "يُرْجَعُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِفَتْحِ الْجِيمِ، بالبناءِ للمفعولِ، أَيْ: يُرَدُّ.
قَرَأَ الجمهورُ: {يَعْمَلونَ} بِيَاءٍ الغَيْبَةِ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ "عَمَّا تَعْمَلُونَ" بِتَاءٍ فوقيَّةٍ، على الخِطابِ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ. قَالَ سَعِيدٌ الْأَخْفَشُ: "يَعْمَلُونَ" إِذَا لَمْ يُخَاطِبِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَهُمْ، وَقَالَ: "تَعْمَلُونَ" بِالتَّاءِ الفوقيَّةِ على أَنَّهُ خَطَابٌ للنَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لهُ: قُلْ لَهُمْ: "وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".
بفضلِ اللهِ ومَنِّهِ تَمَّتْ سُورَةُ "هُودٍ" عليه السلامُ، مساءَ العشرين من جمادى الآخر 1437هجرية الموافق للتاسع والعشرين من شهر آذار: 2016 ميلادية، وَيَتْلُوهَا سُورَةُ "يُوسُفَ" ـ عَلَيْهِ السلام.