فيض العليم .... سورة هود ، الآية: 94
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
(94)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أَمرُنا: عَذابُنَا، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قوله تعالى في الآيةِ التي قبلَها: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}، أوْ وقتُ عذابِنا وموعدُهُ فإنَّ قولَهُ: {فارتقبوا} مُؤْذِنٌ بِذلك. وَلَمَّا حَانَ مَوْعِدُ انْتِقَامِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، جَاءَهُمُ العَذَابُ الذِي أُنْذِرُوا بِهِ. فقِيلَ: صَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ ـ عليه السلامُ، صَيْحَةً فَخَرَجَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ. وقالَ هنا: "ولَمَّا جاءَ أَمْرُنا نجَّينا شُعيبًا" فعطفَ بالواوِ، وقَالِ فِي قِصَّةِ هودٍ: {وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا} الآية: 59، فعطف أيضًا بِالْوَاوِ، وَعَطَفَ نَظِيرَيهِما فِي قِصَّتَيْ صالحٍ ولوطٍ بالفاءِ فقالَ في قصَّةِ صالحٍ: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحًا} الآية: 66، وقال في قصَّةِ لوطٍ: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها} الآية: 82، لِأَنَّ قِصَّتَيْ ثَمُودَ وَلُوطٍ كَانَ فِيهِمَا تَعْيِينُ أَجَلِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ النَّبِييَّانِ وذَلِكَ قولُهُ: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} و {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا تَرْقُبُ السَّامِعِ لِمَا حَلَّ بِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَوْعِدِ فَكَانَ الْمَوْقِعُ لِلْفَاءِ لِتَفْرِيعِ مَا حَلَّ بِهِمْ عَلَى الْوَعِيدِ بِهِ، كمَا تقولُ: وَعَدْتُهُ فلَمَّا جاءَ المِيعادُ كان كيت وكيت، وأَمَّا الأُخْرَيان فلم تقعا كذلك، وإنَّما وَقَعَتا مُبتَدَأَتَيْنِ، فلَيْسَ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَقِصَّةِ مَدْيَنَ تَعْيِينٌ لِمَوْعِدِ الْعَذَابِ وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ فِيهِمَا مُجْمَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} الآية: 57، وَقَوْلُهُ: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} الآية: 93، فَكانَ حَقُّهُما أَنَّ تُعْطَفا بِحَرْفِ الجَمْعِ عَلَى ما قَبْلِهِما الذي هو الواوُ، كمَا تُعْطَفُ القِصَّةُ عَلَى القِصَّةُ.
قولُهُ: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ برحمةٍ مِنَّا} فَنَجَّى اللهُ شُعَيبًا وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَلُطفٍ، والرحمةُ: هي الإيمانُ الذي وفَّقَهم الله تعالى له، أَوْ بِمَرْحَمَةٍ خاصَّةٍ كائِنَةٍ لهم مِنَّا.
قولُهُ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وَأَخَذَتِ الكَافِرِينَ الصَّيْحَةُ، أَيْ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ ـ عليهِ السلامُ، وَالرَّجْفَةُ، وَأَظَلَّهُمْ عَذَابٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَاهْتَزَتْ بِهِمُ الأَرْضُ، وَقَالَ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: مَا أَهْلَكَ اللهُ أُمَّتَيْنِ بِعَذَابٍ وَاحِدٍ إِلَّا قَوْمَ صَالِحٍ وَقَوْمَ شُعَيْبٍ، أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِالصَّيْحَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْمَ صَالِحٍ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ فَوْقِهِمْ.
قولُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} فَأَصْبَحُوا جَمِيعَهُمْ هَلْكَى فِي دِيَارِهِمْ، وَهُمْ جَالِسُونَ عَلَى رُكَبِهِمْ، مُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فنعوذُ بِرَحْمَةِ اللهِ مِنْ عَذابِهِ، وبِمَغْفِرَتِهِ مِنْ عِقابِهِ.
قولُهُ تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ برحمةٍ مِنَّا} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ. و "لمَّا" حرفُ شَرْطٍ، و "جَاءَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخرِهِ، و "أَمْرُنَا" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ وهو مضافٌ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمينَ للمعظمِ نفسَهُ، متَّصلٌ به، مَبْنِيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجملةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِ "لمّا"، و "نَجَّيْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعة للمعظِّمِ نفسَهُ ـ سبحانَهُ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "شُعَيْبًا" مفعولُهُ منصوبٌ، والجملةُ جوابُ شرطِ "لمَّا" فلا محلَّ لها من الإعرابِ، وجملةُ "لمَّا" من شرطها وجوابِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب. و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ النَّصبِ عطفًا على "شعيبًا"، و "آمَنُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألِفُ للتفريق، والجملةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مَعَهُ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ واوِ "آمنوا"، وهو مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إِلَيْهِ، و "بِرَحْمَةٍ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقٌ بـِ "نَجَّيْنَا"، و "مِنَّا" جارٌ ومجرورٌ متعلقٌ بصفةٍ لِ "رَحْمَةٍ" أي: برحمةٍ كائنةٍ منَّا.
قولُهُ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وَأَخَذَتِ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ والتاءُ لتأنيث الفاعلِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بهِ، و "ظَلَمُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ فارقةٌ، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها من الإعراب، و "الصَّيْحَةُ" فاعلُهُ مرفوعٌ به،. وجملة "أخذت" معطوفةٌ على جملة جوابِ الشرطِ "نَجَّيْنَا" فلا مَحَلّ لها منَ الإعراب.
قولُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "أَصْبَحوا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ اسْمِهِ، والألفُ للتفريق. و "فِي دِيَارِهِمْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "جَاثِمِينَ" و "جَاثِمِينَ" خبرُ "أصبحوا"، منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمِ، والنونُ عوضٌ عن التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وهذه الجُمْلةُ معطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أخذت" فلا محلَّ لها من الإعرابِ كونها جوابَ الشرطِ.