وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(105)
قولُهُ ـ تَعَالى جَدُّهُ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أمرٌ مِنَ اللهِ ـ تَبارَكَ وتَعالى لِنَبِيِّهِ ـ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَّلامُ، بإقامَةِ وَجْهِهِ للدِينِ، وإقامةُ الوجهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَوْجِيهِ العَقْلِ بالكُلِّيَّة إلى طَلَبِ الدِّينِ، لأنَّ مَنْ يُريدُ أَنْ يَنْظُرَ إلى شَيْءٍ نَظَرَ اسْتِقْصاءٍ، أَقامَ وَجْهَهُ في مُقابَلَتِهِ فلم يَصْرِفْهُ عَنْهُ أبداً، لأنَّهُ لَوْ صَرَفَهُ عَنْهُ، ولو قليلاً بَطُلَتْ تِلْكَ المُقابَلَةُ، وإذا بَطُلَتْ تِلكَ المُقابَلَةُ، فقد اخْتَلَّ الإبْصارُ، فلهذا السَبَبِ حَسُنَ جَعْل إقامَةِ الوَجْهِ للدّين كِنايَةً عنْ صَرْفِ العَقْلِ بالكُلِّيَّةِ إلى طَلَبِ الدِّينِ، والإقامَةُ: جَعْلُ الشَيْءِ قائماً. وهيَ هُنا مُسْتَعارَةٌ لإفرادِ الوَجْهِ بالتَوَجُّهِ إلى شَيْءٍ مُعَيَنٍ لا يَتْرُكَ وجْهَهُ يَنْثَني إلى شَيْءٍ آخَرَ. "حَنِيفاً" أَيْ: مائلاً إليْه بالكُلِّيَّةِ مُعْرِضاً عمَّا سِواهُ كُلِّيّاً، وهذا هوَ الإخلاصُ التامُّ، وتَرْكُ الالْتِفاتِ إلى غَيْرِهِ، فقولُهُ أَوَّلاً: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} إِشارَةٌ إلى تحصيلِ أَصْلِ الإيمانِ، وقولُهُ: "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا" إِشارَةٌ إلى الاسْتِغْراقِ في نورِ الإيمانِ والإعْراضِ بالكُلِّيَّةِ عَمَّا سِواهُ.
قولُهُ: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نهْيٌ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنى الأَمْرِ الذي قَبْلَهُ تَصريحاً بمعنى: "حَنِيفاً". وتَأْكيدُ الفِعْلِ المَنْهِيِّ عَنْهُ بِنُونِ التَوْكِيدِ للمُبالَغَةِ في النَهْيِ عَنْهُ اعْتِناءً بالتَبَرُّؤِ مِنَ الشِرْكِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: "حَنِيفًا" قَالَ: "الْحَنَفِيَّةُ: الْخِتَانُ، وَتُحَرِّمُ الأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالاتِ، مَا حَرَّمَ اللهُ وَالْمَنَاسِكُ".
وقد تَقَدَّمَ غيرَ مَرَّةٍ أَنَّ قولَهُ: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونحوَهُ أَبْلَغُ في الاتِّصافِ مِنْ نحوِ: لا تَكُنْ مُشْرِكاً، لما فيهِ مِنَ التَبَرُّؤِ مِنَ الطائفَةِ ذاتِ نِحْلَةِ الإشْراكِ.
قولُهُ تَعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} وَأَنْ: الواو: عاطفة، و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ ومَصْدَرٌ. و "أَقِمْ" فعلُ أَمْرٍ في محَلِّ النَصْبِ بِ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ مَبْنيٌّ على السُكونِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ يَعودُ عَلى سيدنا محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم. و "وَجْهَكَ" مَفْعولٌ بِهِ مضافٌ والكافُ في محلِّ جرٍّ بالإضافة إليه، والجملةُ الفعليَّةُ صِلَةٌ ل "أَن" المصدريَّةِ، و "أَنْ" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلى كَوْنِهِ نائبَ فاعِلٍ لِفِعْلٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: وأُوحِيَ إليَّ قيامُ وَجْهي للدينِ، والجملةُ المحذوفةُ في محلِّ النَّصْبِ عطْفاً عَلى جملَةِ "أُمِرْتُ" عَلى كونِها مَقُولاً ل "قل". و أُسلوبُ نَظْمِ الآيَةِ عَلى هذا الوَجْهِ لم يَقَعْ إلاَ لِمُقْتَضىً بَلاغِيِّ، فلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكونَ لِصيغَةِ "أَقِمْ وَجْهَكَ" خُصوصِيَة في هذا المَقامِ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ "أن" تَفْسِيريَّةً لِتِلْكَ الجُمْلَةِ المُقَدَّرَةِ، وفيهِ نَظرٌ، إذِ المُفَسَّرُ لا يجوزُ حَذْفُهُ، والثاني: ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ "أن" مَصْدَرِيَةً فَقَط، وهي على هذا مَعْمولةٌ لِقولِهِ: "أمرْتُ" مُراعًى فيها معنى الكَلامِ، لأَنَّ قولَهُ: {أَنْ أَكُونَ} كَوْنٌ مِنْ أَكْوانِ المُؤمنين، ووصْلُ "أَنْ" بِصيغَةِ الأَمْرِ جائزٌ، وقال الزمخشري: فإنْ قًلتَ: عَطْفُ قولِه: "وأَنْ أقم" على {أنْ أَكونَ} فيه إشكالٌ؛ لأنَّ "أنْ" لا تخلو: إمَّا أَنْ تكونَ التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعل في تأويلِ المصْدَرِ، فلا يَصِحُّ أن تكونَ التي للعبارة وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّن معنى القول؛ لأن عطفَها على الموصولة يأبى ذلك، والقولُ بكونِها موصولةً مثلَ الأولى لا يساعدُ عليه لفظُ الأمر وهو "أَقِمْ"؛ لأنَ الصلةَ حقُّها أنْ تَكونَ جملةً تحتَمِلُ الصِدْقَ والكَذِبَ. قال السمينُ معقِّباً عليه: قدْ سَوَّغَ سِيبَوَيْهِ أنْ تُوصلَ "أنْ" بالأمرِ والنهيِ، وشَبَّهَ ذلك بقولهم: (أنت الذي تفعل) على الخطابِ لأن الغَرَضَ وَصْلُها بما تكونُ معه في تأويل المصدرِ، والأمرُ والنهيُ دالاَّن على المصدرِ دَلالةَ غيرِهما مِنَ الأَفعالُ. قلت: قد قدَّمْتُ الإِشكال في ذلك وهو أنه إذا قُدِّرَتْ بالمصدرِ فاتت الدلالةُ على الأمر والنهي. ورَجَّحَ الشَيْخُ أبو حيّان الأندلُسيُّ كونَها مَصْدَرِيَةً على إضْمارِ فِعلٍ كَما تَقَدَّمَ تقريرُهُ قال: (ليزولَ قَلَقُ العطفِ لوجود الكاف، إذْ لو كانَ "وأنْ أَقِمْ" عَطْفاً على {أنْ أَكونَ} لكان التركيبُ "وجهي" بياءِ المُتَكَلِّمِ، ومُراعاةُ المعنى فيهِ ضَعْفٌ، وإضمارُ الفعلِ أَكْثَرُ). و "لِلدِّينِ"؛ جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "أَقِمْ"، و "حَنِيفًا" حالٌ مِنَ الفاعِلِ المُسْتَتِرِ في "أَقِمْ" ويجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً مِنَ المَفْعولِ، أَوْ مِنَ "الدين".
قولُهُ: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَلا: الواوُ: عاطفة "لا" ناهية جازمة "تَكُونَنَّ" فعل مضارع ناقص في محل الجزم ب "لا" مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على محمَّد. "مِنَ الْمُشْرِكِينَ" خبر "تكون" والجملة معطوفة على جملة "أَقِمْ" على كونه فاعلاً لفعل محذوف، والتقدير: وأوحي إليّ قيام وجهي للدين وعدم كوني من المشركين.