وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ
(100)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ، بِمُقْتَضَى مَا أَعْطَاها اللهُ مِنَ الاخْتِيَارِ والاسْتِقْلاَلِ فِي الأَفْعَالِ، أَنْ تًؤْمِنَ إِلا بِإِرَادَةِ اللهِ، وتسهيلِه وأَلْطافِهِ، وَمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ المُتَقَابِلِينَ، وهو رَدٌّ إلى الله تعالى، وإِلى أَنَّ الحولَ والقُوَّةَ للهِ وحده، فَالنَّفْسُ مُخْتَارَةٌ فِي دَائِرَةِ الأَسْبَابِ وَالمُسَّبَبَاتِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي اخْتِيَارِهَا اسْتِقْلاَلاً تَامّاً، بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِنِظَامِ السُّنَنِ، وَالأَقْدَارِ الإِلهِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ كُلُّ شَيءٍ بِإِذْنِ اللهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ التِي تَجْرِي بِقَدْرِهِ فَهُوَ يَجْعَلُ الإِذْنَ، وَيُيَسِّرُ الإِيمَانَ لِلَّذِينَ يَعْقِلُونَ آيَاتِهِ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الأُمُورِ فَيَخْتَارُونَ خَيْرَ الأَعْمَالِ، وَيَتَّقُونَ شَرَّهَا، وَيُرَجِّحُونَ أَنْفَعَهَا عَلَى أَضَرِّهَا بِإِذْنِ اللهِ وَتَيْسِيرِهِ.
وهو بيانٌ لِتَبَعِيَّةِ إيمانِ النُفوسِ المُؤمِنَةِ لِمَشيئَتِهِ تَعالى وُجوداً بَعْدَ بَيَانِ الدَوَرانِ الكُلِّيِّ عَلَيْها وُجُوداً وعَدَماً. أَيْ ما صَحَّ وما اسْتَقامَ لِنَفْسٍ مِنَ النُفوسِ التي عَلِمَ اللهُ تَعالى أَنَّها تُؤْمِنُ بِهِ وبأَنْبِيائهِ ورسالاتهِ.
قولُهُ: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وَيَجْعَلُ الرِجْسَ: أيْ: الخِزْيَ وَالخُذْلاَنَ المُرجِّحَ لِلْكُفْرِ وَالفُجُورِ عَلَى الذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ الحُجَجَ الوَاضِحَةَ، وَلاَ يَتَدَبَّرُونَهَا. وقيل: المُرادُ بالرجسِ هنا الكفرُ بِقرينةِ ما قَبْلَهُ، فالرجسُ: عَلَمٌ في القُبْحِ، وهو القَبيحُ المُسْتَقْذَرُ المُسْتَكرَهُ. وأَخرجَ ابْنُ جريرٍ، وابْنُ أبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، في قولِهِ: "ويجعل الرجسَ" قال: السُخطَ. وأَخرَجَ أبو الشيخِ عَنْ قَتادَة في قوله: "ويجعل الرجس" قال: "الرجس" الشيطان، والرجس: العذاب.
و "الذين لاَ يَعْقِلُونَ" همُ الذين لا يَسْتَعْمِلونَ عُقولهم بالنظر في الحجج والآياتِ، أو لا يعقِلون دلائلَه وأحكامَه لما على قلوبهم من الطبعِ، فلا تحصُل لهم الهدايةُ التي عبّرَ عنها بالإذْنْ فيبقَون مغمورين بقبائح الكفرِ والضلال أو مقهورين بالعذاب والنَّكال.
قولُهُ تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "ما" نافيَةٌ. و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ. و "لِنَفْسٍ" جارٌّ ومجرورٌ في محلٍّ نصبِ خبرٍ مقدَّم ل "كَانَ". و "أَنْ تُؤْمِنَ" ناصِبٌ وفعلٌُ مضارعٌ فاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على "نفسِ". و "إِلاَّ" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. و "بِإِذْنِ اللهِ" مُتَعَلِّقٌ ب "تُؤْمِنَ" وجملَةُ: "تُؤْمِنَ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ اسْماً ل "كَانَ"، والتَقديرُ: وما كان الإيمان إلاَّ بإذْنِ الله، كائنًا لِنَفْسٍ، وجملة "كَانَ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسوقَةٌ لِتَعْليلِ قولِهِ: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ".
قولُهُ: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وَيَجْعَلُ: الواوُ: للعطفِ، و "يجعلُ" فعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، وفاعلُهُ ضَميرٌ يعودُ على اللهِ، و "الرِّجْسَ" مفعولُه، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ هذه معطوفَةٌ على محذوفٍ، تقديره: فيأذن الله لِبَعْضِهم في الإيمانِ ويجعلُ الرِّجْسَ عَلى الذينَ لا يَعْقِلونَ، و "عَلَى الَّذِينَ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "يَجْعَلُ". وجملةُ "لا يَعْقِلُونَ" صِلَةُ المَوْصولِ.
وإنما خُصَّتِ النفسُ بمن ذُكر ولم يُجعل من قبيل قولِهِ تعالى في سورة آلِ عمرانَ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} الآية: 145. لأنَّ الاسْتِثْناءَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الأَحْوالِ، أَيْ: ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تؤمِنَ في حالٍ مِنْ أَحوالها إلاَّ حالَ كَوْنِها مُلابِسَةً بإذْنِهِ تَعالى فَلا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الإيمانِ مما يَؤولُ إِلَيْهِ حالُها كما أَنَّ المَوْتَ مَآلٌ لِكلِّ نَفْسٍ بحيْثُ لا مَحِيصَ لها عَنْهُ فلا بُدَّ مِنْ تَخْصيصِ النَّفْسِ بِمَنْ ذُكِرَ فإنَّ النُفوسَ التي عَلِمَ اللهُ أَنها لا تُؤْمِنُ لَيْسَ لها حَالٌ تُؤْمِنُ فيها حَتَّى تُسْتَثْنى تِلكَ الحالُ مِنْ غَيرِها.
قرأَ الجمهورُ: {وَيَجْعَلُ الرجس} وقرأَ أَبو بكرٍ عَنْ عاصِمٍ "ونجعلُ الرجْسَ" بِنونِ العَظَمَةِ. وقرأَ الأعْمشُ فَصرَّحَ بِهِ: "ويجعلُ اللهُ الرِّجْزَ" بالزايِ دُونَ السينِ، وقدْ تقدَّم أَنَّهُما بمَعنى.