فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
(98)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} أَيْ: فَهَلاَّ آمَن مِنْ أَهْلِ القرى أهلُ قريَةٍ لم يكنِ العذابُ قد حلَّ بهم بعدُ لينفعهم إيمانهم. والمعنى: لَمْ تُوجَدْ قَرْيَةٌ آمَنَ أَهْلُهَا جَمِيعاً بِنَبِيِّهِمْ، مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ القُرْى. فقد أَخْرَجَ عبدُ الرَزَاقِ، وابْنُ جَريرٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: بَلَغَني أَنَّ في حَرْفِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فهلاَّ كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ". وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ مجاهد ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، في قولِهِ: "فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ" قال: فَلَمْ تَكُنْ قريَةٌ آمَنَتْ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَن أَبي مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ" يَقولُ: فما كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ. وأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضاً أَنَّهُ قال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كلُّ ما في القُرآنِ "فلولا" فهُوُ "فهَلاَّ" إلاَّ في حَرْفَينِ في يُونُسَ: "فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ" والآخر: {فلَوْلا كانَ مِنَ القُرونِ مِنْ قَبْلِكم} في سورة هود، الآية: 116. واللهُ أعلم.
قولُهُ: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} فقَدِ اسْتَثْنى مِنْ أَهْلِ تِلْكَ القُرى قَوْمَ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السلامُ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى، من العراقِ قضاء الموصل وهم خليطٌ مِنَ الآشُوريّينَ واليَهودِ الذينَ كانُوا في أَسْرِ مُلوكِ بابِلَ بعدَ (بُخْتَ نَصَّر). وكانَتْ بِعْثَةُ يُونُسَ إليهم في أَوَّلِ القَرْنِ الثامِنِ قَبْلَ المسيحِ ـ عليهما السلامُ. وَمَا كَانَ إِيمَانُهُمْ إِلاَّ تَخَوُّفاً مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ العَذَابُ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ نَبِيِّهِمْ مُغَاضِباً، وَعَايَنُوا أَسْبَابَ العَذَابِ، جَأَرُوا إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ، وَاسْتَغَاثُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَى رَبِّهِ، وَأَحْضَرُوا أَطْفَالَهُمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَسَأَلُوا اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ العَذَابَ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ. وقيلَ: لَيْسَ في الكَلامِ اسْتِثْناءٌ، فإنَّ التَقديرَ: فهَلاَّ كانَتْ قَريَةٌ آمَنَتْ فنَفَعَها إيمانُها، لكنَّ قومَ يُونُسَ لمَّا آمَنُوا نفعهم إيمانُهم. وكذلك قولُهُ تَعالى في سُورَةِ طَهَ: {طَهَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقََى, إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يخْشَى}. الآيات: 1 ـ 3. أيْ: لكنْ أَنْزَلْناهُ تَذْكِرَةً لِمَنْ يخشى. والغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ القُرى التَعْريضُ بالمَقْصودِ، وهمْ أَهْلُ مَكَّةَ فإنهم أَهلُ قرَيَةِ. وقَدْ كانَتْ هَذِهِ الخُصوصِيَّةُ كَرامَةً لِنبيِّ اللهِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كما أُكْرِمَ سِيِّدُنا محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيث أكرمَهُ اللهُ تَعالى بأنْ لا يَعُمَّ العذابُ أُمَّتَهُ كما فُعِلَ بالأمم التي سبقتها فقال في سُورَةِ الأَنْفالِ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية: 33. وقد تقدَّم أنه ما من كرامةٍ لنبيٍّ إلاَّ وأكرمَ بمثلها نبيُّنا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم.
قولُه: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَعِنْدَها رَحِمَهُمُ اللهُ، وَكَشَفَ عَنْهُمُ العَذَابَ، وكَشْفُ الشيءِ: إِزالُةُ ما هو ساتِرٌ لِشَيْءٍ، وهو هُنا مجازٌ في الرَّفْعِ. والمُرادُ: تَقديرُ الرَّفْعِ وإِبطالُ العذابِ قبلَ وُقوعِهِ، فعَبَّرَ عَنْهُ بالكَشْفِ تَنْزيلاً لِمُقارَبَةِ الوُقوعِ، مَنْزِلَةَ الوُقوعِ. والخِزْيُ: الإهانَةُ والذُلُّ. وإضافَةُ العَذابَِ إلى الخِزْيِ يجوزُ كَوْنُها بَيانِيَّةً لأنَّ العذابَ كُلُّهُ خِزْيٌ، إذْ هوَ حالةٌ مِنَ الهلاكِ غيرُ مُعتادَةٍ، فإذا قدَّرَها اللهُ لقومٍ فقَدْ أَرادَ إِذْلالَهم، ويجوزُ أَنْ تَكونَ الإضافةُ هُنَا حَقيقِيَّةً للتَخْصِيصِ، ويَكونُ المُرادُ مِنَ الخِزْيِ الحالةُ المُتَصَوَّرَةُ مِنْ حُلولِهِ. وَمَتَّعَهُمُ اللهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا. وذلك لمَّا آمنوا. وكان قد أُوحِيَ إلى يونُسَ: أَنْ أَنْذِرْهم بالعَذابِ لِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وقيلَ أربعينَ فَفَعَلَ، فقالوا: هوَ رَجُلٌ لا يَكْذِبُ فارْقُبوهُ، فإنْ قامَ بينَ أَظْهُرِكُمْ فلا عَلَيْكم، وإنِ ارْتَحَلَ عَنْكُم فهُو نُزولُ العَذَابِ ولا شَكَّ، فلمّا كانَ الليْلُ تَزَوَّد يُونُسُ وخَرَجَ عَنْهم، فَأَصْبَحوا فَلَمْ يِجِدوهُ فتابوا ودعوا اللهَ وآمَنوا. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: لمَّا دَعا يُونُسُ عَلى قومِهِ أَوْحى اللهُ إليْهِ أَنَّ العَذابَ مُصْبِحُهم. فقالوا: ما كَذَبَ يُونُسُ ولَيُصْبِحُنا العذابُ، فتَعالَوا حَتّى نُخْرِجَ سِخالَ كُلِّ شَيْءٍ فنَجْعَلَها مَعَ أَوْلادِنا فلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْحَمَهم. فَأَخْرَجوا النِساءَ مَعَهُنَّ الوِلَدانَ، وأَخْرَجوا الإِبِلَ مَعْها فُصلانُها، وأَخْرَجوا البَقَرَ مَعَها عَجاجيلُها، وأَخْرَجوا الغَنَمَ مَعَها سِخالُها فَجَعُلُوهُ أمامَهم، وأَقْبَلَ العَذابُ فلَمَّا أَنْ رَأَوْهُ جَأَروا إلى اللهِ ودَعَوا، وبَكى النَساءُ والوِلْدانُ، ورَغَتِ الإِبِلُ وفُصْلانُها، وخارَتِ البَقَرُ وعَجاجيلُها، وثَغَتِ الغَنَمُ وسِخالُها، فرَحِمَهُمُ اللهُ فَصَرَفَ عَنْهمُ العَذابَ إلى جِبالِ آمِد، فَهُمْ يُعَذَّبونَ حَتّى الساعَة. وأَخْرَجَ أَحمَدُ في الزُهْدِ وابْنُ جَريرٍ في تَفْسيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ العَذَابَ كانَ هَبَطَ عَلى قومِ يُونُسَ حَتى لم يَكنْ بَيْنَهم وبَيْنَهُ إلاَّ قَدْرَ ثُلُثَيْ مِيْلٍ، فلَمَّا دَعَوْا كَشَفَ اللهُ عَنْهم. وأَخْرَجَا، وابْنُ أبي حاتمٍ، وأبو الشَيْخِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ: غَشِيَ قوْمَ يُونُس العذابُ كما يُغْشَى القَبْرُ بالثَوبِ إذا أُدْخِلَ فيهِ صاحِبُهُ، وأَمْطَرَتِ السَّماءُ دَماً. وأَخرَجَ عَبْدُ الرَزَّاقِ وأَحمَدُ في الزُهْدِ، وابْنُ جَريرٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "إلاَّ قومَ يُونُس لما آمَنُوا" قالَ: بَلَغَنا أَنَّهم خَرَجُوا فنَزَلوا عَلى تَلٍّ وفَرَّقوا بَيْنَ كُلِّ بهيمَةٍ ووَلَدِها، فدَعَوُا اللهَ أَرْبَعينَ لَيْلَةً حَتى تابَ عَلَيْهم. وأمّا دعاؤهم فقد كان: يا حَيُّ حِينَ لا حيَّ، و يا حيُّ محييَ الموتى، و يا حيُّ لا إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، فقالوا، فَكَشَفَ اللهُ عَنْهم . كما جاء عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضَيَ اللهُ عَنْهُ، هذا مع رَدِّ المظالم إلى أهلِها. وقدْ بَلَغَ مِنْ تَوْبَتِهم أَنْ تَرادُّوا المظالمَ حتى إنَّ الرَجُلَ كانَ يَقْتَلِعُ الحَجَرَ، وقَدْ وَضَعَ عَلَيْهِ أَساسَ بِنَائهِ فَيَرُدَهُ إلى صاحِبِهِ. وعَنِ الفُضَيْلِ بْنِ عِياضٍ ـ رضي اللهُ عنه، قالوا: إِنَّ ذُنوبَنا قدْ عظُمَتْ وجلَّتْ وأَنْتَ أَعْظَمُ مِنْها وأَجَلُّ، افْعَلْ بِنَا ما أَنْتَ أَهلُهُ ولا تَفْعَلْ بِنا ما نحنُ أهلُه. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: تِيبَ عَلى قوْمِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يومَ عاشوراءَ. كيومِ أَنجى اللهُ موسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَ يَومَِ جُمُعَةٍ.
قولُهُ: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} التَمْتيعُ: الإمْهالُ، وإلى حَينٍ: إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَقد أبهم "حِينٍ" لأنَّهُ مخْتَلِفٌ باخْتِلافِ آجالِ آحادِهِم، وهُوَ الوَقْتُ الذِي يَعِيشُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ. وأَخْرَجَ ابْنُ النَجَّارِ عَنْ أمِّ المؤمنين السَيِّدةِ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا، قالت: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لا يُنْجِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وأَنَّ الدُعاءَ يَدْفَعُ مِنَ البَلاءِ، وقد قالَ اللهُ في كِتابِهِ: "إلاَّ قومَ يونُسَ لمَّا آمَنُوا ..")).
قولُهُ تَعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} فَلَوْلا: الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "لولا" في أَصْلِ اللُّغَةِ حَرْفُ امْتِناعٍ لِوُجودٍ، أَيْ: امْتِناعُ وُجودِ أَمْرٍ بِسَبَبِ وُجودِ غَيْرِهِ، وهذا المَعْنى مُسْتَبْعَدٌ هُنا، ولكِنَّها تَأْتي أَيْضاً للحَضِّ على فعلِ أَمرٍ مَّا، أَيْ: أَنْ يَكونَ المُحَضِّضُ يُريدُ مِنَ المُخاطَبِ فِعْلَ الأمْرِ الذي يحُضُهُ عَليه، وقد تَجيءُ ولَيْس مِنْ قَصْدِ المُُحَضِّضِ أَنْ يَحُضَّ على فِعْلِ ذَلِكَ الأَمْرِ فَيَكونُ المقصودُ بِها تَوبيخُ المخاطَبِ، كما في قوْلِ جَريرٍ:
تَعُدُّون عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُم .... بني ضَوْطَرِى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
ونَسَبَ بَعْضُهم هذا البَيْتَ إلى الفَرَزْدَقِ، ونَسَبَهُ آخَرونَ إلى الأَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ، وهو في دِيوانِ جَريرٍ. والمَعْنى المَقْصُودُ في البَيْتِ: لَوْلا تَعُدُّونَ الكَمِيَّ، وذَلِكَ أَنَّهُ لم يَقْصِدْ حَضَّهم على عَقْرِّ الكَمِيِّ، كَقَوْلِكَ لِرَجُلٍ قدْ وَقَعَ في أَمْرٍ صَعْبٍ: لولا تحرَّزْتَ، فهي هُنَا مِنْ هذا القَبيلِ. فإنَ المفهومَ مِنَ معنى هذه الآيةِ المباركةِ نَفْيُ إيمانِ أهْلِ القُرى. و "كَانَتْ} فعلٌ ماضٍ والتاءُ للتأنيثِ لأن "كان" هُنَا تَامَّةٌ، و "قَرْيَةٌ" فاعلُهُ، و "آمَنَتْ" فِعْلٌ ماض، والتاءُ للتأْنيثِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ عَلى "قَرْيَةٌ" وجُمْلَةُ "آمَنَتْ" في مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِ "قَرْيَةٌ"، وجمْلَةُ "كان" مُسْتَأْنَفَةٌ. و "فَنَفَعَهَا" فعْلٌ ماضٍ والهاءُ مفعولُهُ، و "إِيمَانُهَا" فاعُلُهُ، وهو مضافٌ، والهاءُ مضافٌ إليه، والجُمْلةُ في محَلِّ الرَفْعِ عطفَ نَسَقٍ عَلى جملةِ "آمَنَتْ" كونَها صِفَةً لِ "قَرْيَةٌ" ولكِنَّها صِفَةٌ سَبَبِيَّةٌ.
قولُهُ: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} إِلاَّ: أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ، و "قَوْمَ" مُضافٌ مَنْصوبٌ على الاسْتِثْناءِ. و "يُونُسَ" مُضافٌ إليهِ، حُرِّكَ بالفَتْحَةِ بدلاً مِنَ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَرْفِ بسببِ العَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ. وفي هذا الاسْتِثْناءِ وجَهانِ: فقيلَ بأَنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطَِعٌ، ولِذلِكَ، فقد أَدخَلَهُ سِيبَوَيْهِ في بابِ ما لا يَكونُ فيهِ إلاَّ النَصْبُ لانْقِطاعِهِ، وإنَّما كانَ مُنْقَطِعاً؛ لأنَّ ما بعدَ "إلا" لا يَنْدَرِجُ تحتَ لَفْظِ "قَرْيَةٌ". فهو مُنْقَطِعٌ هُنا بِحَسَبِ اللَّفْظِ، كأنّما قيلَ: ما آمَنَتْ قريةٌ فَنَفَعَها إيمانُها، لكِنَّ قَوْمَ يُونسَ آمَنُوا فنفعهم إيمانهم، ويُشْبِهُ قولَ النَابِغَةِ:
إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُهَا ........... وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بَالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وهو مُتَّصِلٌ بحَسَبِ المَعْنى، لأَنَّ تَقديرَهُ: ما آمَنَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ إلاَّ قَوْم يونُسَ. فهْوَ اسْتِثْناءٌ مِنَ القُرى والمُرادَ أَهالِيها، كأنَّهُ قِيلَ: ما آمَنَ أَهْلُ قَرْيَةٍ إلاَّ قومَ يُونُسَ. فتَقديرُ هَذَا المُضافِ "أهلُ" هوَ الذي صَحَّحَ كونَهُ اسْتِثْناءً مُتَّصِلاً، فالمُسَوِّغُ كَوْنُ القُرى يُرادُ بها أَهاليها، هوَ مِنْ بابِ إطلاق المحلِّ على الحالِّ فيهِ، وهوَ أَحَدُ الأَوْجُهِ المذكورةِ في قوْلِهِ تعالى في سُورَةِ يوسُفَ ـ عليه السلامُ: {وَسْئَلِ القريةَ} الآية: 82. أيْ: واسْأَلْ أَهْلَ القَرْيَةِ، وعَلَيْهِ فإنَّ قولَهُ: "لَمَّا آمَنُواْ" اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ نَفْعِ إيمانِهم.
قولُهُ: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لَمَّا: حَرْفُ شَرْطٍ غيرُ جازِمٍ. "آمَنُوا" فعلٌ ماضٍ, وفاعِلُهُ واوُ الجماعةِ، والألفُ فارقةٌ، وجملةُ "آمنوا" فِعْلُ شَرْطٍ ل "لَمَّا". و "كَشَفْنَا" فِعْلٌ ماضٍ وفاعِلُهُ "نا" العظمةِ. و "عَنْهُمْ" مُتَعَلِّقٌ بِهِ و "عَذَابَ" مَفْعولُهُ، وهو مضافٌ، و "الْخِزْيِ" مضافٌ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ جَوابُ شرْطٍ ل "لَمَّا"، لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وجملةُ "لَمَّا" مُسْتَأْنَفَةٌ. و "فِي الْحَيَاةِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "كَشَفْنَا"، و "الدُّنْيَا" صِفَةٌ للحياةِ.
قولُهُ: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} فِعْلٌ وفاعلُهُ ومَفْعولُه. و "إِلَى حِينٍ" مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جملة: "كَشَفْنَا} على أنَّها جوابُ "لمَّا".
وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: "إلا قومُ" بالرفع على البَدَلِ، رُوي ذلك عن الجرميّ والكسائي. وقال المهدوي: والرفعُ على البدل من "قرية". فظاهر هاتين العبارتين أنها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قولُ مَكّيِّ وأبي البقاء أنها ليسَتْ قراءة، وإنما ذلك من الجائز، وجعلا الرفعَ على وجهٍ آخرَ غيرِ البدل وهو كونُ "إلا" بمعنى: "غير" في وقوعها صفةً. قال مكيٌّ: ويجوزُ الرفعُ على أن تُجْعل "إلا" بمعنى "غير" صفةً للأهل المحذوفين في المعنى ثم يُعْرَبَ ما بعد "إلاَّ" بإعراب "غير" لو ظهَرَتْ في موضع "إلا". وقال أبو البقاء: وأظنه أخذه منه، ولو كان قد قُرئ بالرفع لكانت "إلا" فيه بمنزلة "غير" فتكون صفة. وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث قراءات قُرئ بها. وفي مصحف أُبَي وعبد الله وقرأ كذلك "فهلاَّ" وهي نصُّ في التحضيض.