فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
(92)
قولُهُ ـ جلَّ وعلا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} المعنى: فإنْ رُمْتَ بإيمانِكَ بَعْدَ فَواتِ وَقْتِهِ أَنْ أُنجيكَ مِنَ الغَرَقِ فاليومَ نُنْجيكَ بِبَدَنِكَ، والكَلامُ جار ٍمجرى التَهَكُّمِ، فإِطْلاقُ الإنجاءِ عَلى إِخْراجِهِ مِنَ البَحْرِ اسْتِعارةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ. ولَيْسَ مُسَوِّغُها التَهَكُّمُ المحْضُ، كَما هوَ الغالِبُ في نوعِها، بَلْ فيها عَلاقَةُ المُشابَهَةِ، لأَنَّ إِخْراجَهُ إلى البَرِّ كامِلاً بِشِكَّتِهِ، يُشْبِهُ الإنجاءَ، ولكنَّهُ ضِدُّ الإنجاءِ، فَكانَ بالمُشابهَةِ، اسْتِعارَةً، وبالضِدِّيَّةِ تَهَكُّماً. و "نُنْجيكَ" نُلقيكَ عَلى نَجْوَةٍ مِنَ الأَرْضِ، والنَّجْوَةُ: المَكانُ المُرْتَفِعُ، قالهُ يُونُسُ بْنُ حَبيبٍ النَّحْوِيُّ فيما رَواهُ ابْنَ الأَنْبارِيِّ، وأَبو الشَيْخِ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: "نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ": نجعلُكَ على نَجْوَةٍ مِنَ الأَرْضِ كَيْ يَنْظُروا فيعرفوا أَنَّكَ قدْ مِتَّ. وقال مجاهدٌ ـ رضي اللهُ عنه: "بِبَدَنِكَ" بِجَسَدِكَ مِنْ غيرِ رُوحٍ، أَخْرَجَه عنه ابْنُ جريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ الأَنْبارِيِّ، في "المصاحِفِ" وأَبو الشَيْخِ، قال: بجَسَدِكَ، كَذَبَ بَعْضُ بَني إِسْرائيلَ بِمَوْتِ فِرْعَوْنَ فَأُلْقِيَ عَلى ساحِلِ البَحْرِ حَتّى يَراهُ بَنُو إِسْرائيلَ، أَحمَرَ قَصيراً كَأَنَّهُ ثوْرٌ. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ محمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فاليوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ" قال: جَسَدُه أَلقاهُ البَحْرُ عَلى الساحل. وقيلَ بِدِرْعِكَ، وكانَ لَهُ دِرْعٌ مِنْ حديدٍ يُعْرَفُ بها، رواهُ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَّيْخِ عَنْ أَبي صَخْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: البَدَنُ الدِرْعُ الحديد. وقيلَ مِنْ ذَهَبٍ، لما أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ وأَبو الشَيْخِ عَنْ أَبي جهيم مُوسَى بْنِ سالمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "فاليوم ننجيك ببدنك" قال: كان لِفِرْعَوْنَ شَيْءٌ يَلْبَسُهُ يُقالُ لَهُ البَدَنُ يَتَلأْلأُ. وقيلَ هوَ مِنْ لُؤْلُؤٍ، أَخْرَجَه ابْنُ الأَنْبارِيِّ عَنْ محمَّدِ ابْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "فاليوم ننجيك ببدنك" قالَ: بِدِرْعِكَ، وكانَتْ دِرْعُهُ مِنْ لُؤْلُؤٍ يُلاقي فيهِ الحُروبَ. والبَدَنُ: الدِرْعُ القصيرةُ. قال الأعشى:
وبَيضاءَ كالنَّهْيِ مَوضونَةً، ................. لها قَوْنَسٌ مثلُ جيبِ البَدنْ
وقال أيضاً عمرُو بْنُ مَعْدِ يَكْربَ الزُبيديُّ:
وَسَعَتْ نِساؤهُمُ بِكُلِّ مُفاضَةٍ ................. جَدْلاءَ سابِغَةً وبالأَبْدانِ
وقال كعب بن مالك:
تَرى الأَبْدانَ فيها مُسْبَغاتٍ ............. على الأبطالِ واليَلَبَ الحَصينا
أَرادَ بالأَبدانِ الدُروعَ واليَلَبِ الدُروعَ اليَمانِيَّةَ، كانَتْ تُتَّخَذُ مِنَ الجُلودِ يُخْرَزُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ.
وكانَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ قومِ فِرْعَوْنَ يُنْكِرُ غَرَقَهُ ـ كما تقدَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ أَنْ يُلْقِيهِ بِجَسَدِهِ سَوِيّاً بِلاَ رُوحٍ، لِيَتَحَقَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مَوْتِهِ وَهَلاَكِهِ، فَتَكُونَ تِلْكَ آيَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ، وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَزَّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه في قوله: "فاليوم ننجيك ببدنك" الآية. قال: لمّا أَغْرَقَ اللهُ فِرْعَوْنَ لم تُصَدِقْ طائفةٌ مِنَ النَّاسِ بِذلِكَ، فأَخْرَجَهُ اللهُ لِيَكونَ عِظَةً وآيَةً. والمرادُ ب "مَن خلفك" مَنْ وراءَكَ. والوراءُ: هُنا مُسْتَعْمَلٌ في معنى المُتَأَخِّرِ، والباقي، أي: مَنْ لَيْسُوا مَعَكَ. والمُرادُ بهم مَنْ يَخْلُفُهُ مِنَ الفَراعِنَةِ ومَنْ مَعَهم مِنَ الكَهَنَةِ والوُزَراءِ، أَيْ: لِتَكونَ جُثَّتُهُ آيَةً على أَنَّ اللهَ غَالِبٌ مَنْ أَشْرَكوا بِهِ، وأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ وأَقْهَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ وآلهتِهِ بحسبِ اعْتِقادِ القِبْطِ، إذْ يَرَوْنَ فِرْعَوْنَ الإلهَ عِنْدَهمْ طَريحاً عَلى شاطِئِ البَحْرِ غَريقاً. فَتِلْكَ مِيتَةٌ لا يَسْتَطيعونَ مَعَها الدَجَلَ بِأَنَّهُ رُفِعَ إلى السَماءِ، أَوْ أَنَّه لم يَزَلْ يُتابِعُ بَني إِسْرائيلَ، أَوْ نحو ذَلكَ مِن الأكاذيب لأنهم كانوا يَزْعمونَ أَنَّ الفِرْعَونَ لا يُغْلَبُ، وأَنَّ الفَراعِنَةَ حينَ يَمُوتونَ إنَّما يُنْقَلونَ إلى دارِ الخُلودِ. ولذلِكَ كانوا يُمَوِّهونَ عَلى النَّاسِ فَيَبْنونَ لَهُ البُيوتَ في الأَهْرامِ ويُودِعونَ بها لِبَاسَهُ وطَعامَهُ ورياشَهُ وأَنْفَسَ الأَشْياءِ عِنْدَهُ، فمَوْتُهُ بالغَرَقِ وهوَ يَتَّبِعِ أَعْداءَهُ، مِيتَةٌ لا تُؤَوَّلُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فلِذلِكَ جُعِلَ كُوْنُهُ آيَةً لِمَنْ خَلْفَهُ عِلَّةً لإخْراجِهِ مِنْ غَمْرَةِ الماءِ مَيْتاً كاملاً، فهُمْ مُضْطَرّون إلى الاعْتِرافِ بِأَنَّهُ غَرِقَ إذا نَظَروا في تِلْكَ الآيَةِ. وقيل المرادُ ب "مَنْ خلفك" هم بَنُو إسرائيلَ فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ السُدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قولُهُ "لتكون لمن خلفك آية" قال: لِبَني إِسْرائيلَ. والذي نَميلُ إليْهِ، أَنَّ المقصودَ ب "مَنْ خلفك" هم هؤلاءِ جميعاً ومعهمُ الخَلَقُ جميعاً إذِ القصدُ العبرةُ والاتِّعاظُ، لا سيَّما الأُمراءُ مِنْهم الذينَ قد تُطْغيهِمُ السُلْطَةُ ويُغْويهمُ الحُكْمُ وتغُرُّهم الحياةُ الدنيا، بِدَليلِ الجُمَلةِ التي جاءتَ بعدها: "وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" فالمرادُ تَنْبيهُ الغافلينَ وتَذْكيرُ السادِرينَ.
قولُهُ: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} وَهذا حالُ الأكثَرِ مِنَ النَّاسِ فهم غَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ، فلاَ يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَهم ساهون لاهونَ فلا يَعْتَبِرُونَ. بَلِ الأَكْثَرُ مِنْ خَلْقِ اللهِ في شِرْكٍ وزَيْغٍ وضَلالُ، فقدَ وَصَفَهم في كِتابِهِ العَزيزِ بالشِرْكِ والكُفرِ وعَدَمِ التصديق بالحقِّ الإيمانِ بِهِ اثنتينِ وعشرين مَرَّةً فقالَ: {أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} البقرة: 100. وقال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِين} الشعراء: 8 و 67 و 103 و 121 و 139 و 158 و 174 و190. وقال: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِين} الروم: 42. وقال: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون} سبأ: 41. وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُون} يس: 7. وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِي} يوسف: 103. وقال: {أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} الرعد: 1. و غافر: 59. وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف: 106. وقالَ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَ كُفُورًا} الإسراء: 89. و الفُرْقان: 50. وقال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل} هود: 40. وقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُم} ص: 24. وقال: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء: 46. و 155. ووصفهم بالجهلِ ثلاثاً وعشرين مَرَّةً فقال: {أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون} الأنعام: 37 والأعراف: 131 والأنفال: 34 ويونس: 55 و النحل: 75 و 101. والأنبياء: 24. ولقمان: 25. والزمر: 29 و 49. والدخان: 39. والطور: 47. والجاثية: 26. والنمل: 61. القصص: 13 و 57. والنحل: 38. و {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون} الروم: 6 و 30. وسبأ: 28 و 36. وغافر: 57. و {أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} الأنعام: 111. ووصفهم بالزيغ والضلالِ والإعراض والمعصيَةِ سَتَّ مرَّاتٍ فقال: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} البقرة: 83. و {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم} البقرة: 246. و {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} البقرة: 249. و {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} الأعراف: 102. و {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء: 83. و {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} المائدة: 13. و {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } الإسراء: .62. {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِين} الصافات: 71. وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الأنعام: 116. ووصف هذه الأكثريَّةَ بقلَّة العقل فقال: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون} العنكبوت: 63. و {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون} الحجرات: 4. وقال فيهم أيضاً: {أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُون} فصلت: 4. و {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} يونس: 36. ووصفهم بقلة السمع فقال {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} الفرقان: 44. ووصفهم بالمراء وكثرة الجدال فقال: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} الكهف: 54. ووصفهم بجحودِ النِعْمَةِ وعدمِ الشُكْرِ عليها فقال: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} الأعراف: 17. وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} سبأ: 13. وقال: {أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} النمل: 73. ويونس: 60. وغافر: 61.
وَكَانَ هَلاَكُ فِرْعَونَ وَنَجَاةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى المَدِينَةِ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهم: مَا هَذا الذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا يَوْمَ ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. فَقَالَ النَّبِيُّ لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ". أخرجه البُخَارِيُّ، من حديث سعيدِ ابْنِ جُبيرٍ عن ابْنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهم.
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ ننجيكَ ببدنك لتكونَ لمَنْ خلفَكَ آيةً} الفاءُ: عاطفةٌ تفريعيَّةٌ فَصيحَةٌ، تُفْصِحُ عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ في الكَلامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِياقُ. والمعَنى: فإنْ رُمْتَ بإيمانِكَ بَعْدَ فَواتِ وقْتِهِ أَنْ أُنجيكَ مِنَ الغَرَقِ فاليَوْمَ "ننجيك ببدنك"، و "اليومَ" نَصْبٌ عَلى الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بما بعدَهُ. و "نُنَجِّيكَ" فِعْلٌ ومَفْعولُهُ الكافُ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ يَعودُ على اللهِ تعالى، و "بِبَدَنِكَ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ والكافُ مضافٌ إِلَيْهِ، مُتَعَلِقٌ بمَحْذوفِ حالٍ مِنَ الكافِ؛ أَيْ: نُنَجِّيكَ مُلْتَبِسًا بِبَدَنِكَ فَقَط، لا مَعَ رُوحِكِ، والجُمْلةُ الفِعْلِيَةُ في محلِّ الرَّفْعِ عطفاً عَلى جملةِ "أتؤمِنُ الآن" على أنها نائبُ فاعِلٍ للقَولِ المحذوفِ، تقديرُهُ: قيلَ لَهُ أَتُؤمِنُ الآنَ، فاليومَ نُنْجِيكَ بِبَدَنِكَ. وفي الباء وجهانِ، أَحدُهما: أَنَّها باءُ المُصاحَبَةِ بمعنى مُصاحِباً لِبَدَنِكَ وهي الدِّرْع، والثاني: أَنْ تَكونَ سَبَبِيَّةً على سَبيلِ المجازِ؛ لأنَّ بَدَنَهُ سَبَبٌ في تَنْجِيَتِهِ،
قولُه: {لِتَكُونَ} اللام: حرفُ جَرٍّ وتَعليلٍ، و "تكونَ" فِعْلٌٌ مُضارِعٌ نَاقِصٌ مَنْصوبٌ بِ "أَنْ" مُضْمَرَةً بعدَ لامِ كَيْ واسمُها ضَميرٌ يَعودُ على {فِرعَوْنَ}. و "آية" خبر "كان". و "لِمَنْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "تَكُونُ" أَوْ هو في محلِّ نصبِ حالٍ مِنْ "آيَة" لأنَّهُ لأنَّهُ في الأَصْلِ صَفةٌ لها. و "خَلْفَكَ" ظَرْفٌ ومُضافٌ إِلَيْهِ صِلَة "مَنَ" الموصولِةِ، وجملة "أَنْ" المُضْمرَةِ مَعَ صِلَتِها في تأويلِ مَصْدرٍ مجرورِ باللامِ تَقديرُهُ: لِكونِكَ آيَةً لمنْ خَلفَكَ، والجار والمجرور متعلق ب "نُنَجِّيكَ".
قولُهُ: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} ناصِبٌ ناسخٌ واسمُهُ، و "مِنَ النَّاسِ" جارٌ ومجرورٌ صِفةٌ ل "كَثِيرًا"، و "عَنْ آيَاتِنَا" مُتَعَلِّقٌ ب "غافلون". و "لَغَافِلُونَ" خبرُ "إنَّ" والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ تَذْييلِيَّة لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قرأ الجمهورُ: {نُنَجّيكَ} وقرأَ يَعقوبُ "نُنْجِيكَ" بِسُكونِ النُونِ وتخفيفِ الجيم، وقَرَأَ أُبيُّ بْنُ كَعْب ـ رضي اللهُ عنه: "نُنَحّيكَ" بالحاءِ المُشَدَدَةِ، مِنَ التَنْحِيَةِ، وهيَ قِراءَةُ محمَدِ بْنِ السمَيْفَعِ اليَمانيِّ، ويَزيدٍ البربريِّ.
وقرأَ العامَّةُ: {ببدنك} وقرأ أبو حَنيفَةَ ـ رضي اللهُ عنه: "بأبدانك" جمعاً: إمَّا على إرادة الأدْراع لأنَّه كان يَلْبَسُ كَثيراً مِنْها خَوْفاً على نَفْسِهِ، أَوْ جَعَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بَدَناً كما يقالُ: "شابَتْ مَفارِقُه" ومنه قولُ جريرٍ:
قالَ العَواذِلُ مالِجَهْلِكَ بَعْدَما ........... شابَ المَفارِقُ واكتَسَيْنَ قَتِيرا
وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ "بِنِدائِكِ" أَي: بِقَوْلِكَ "آَمَنْتُ .." الخ الآية، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف، ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا يَنْفَعُ.
وقَرَأَ الجُمهورُ: {خَلْفَكَ} أَيْ مَنْ أَتى بَعْدَكَ، وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: "خَلْقَكَ" المعنى يجعلك الله آيةً لَهُ في عبادِهِ.