قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسماؤهُ: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ: إِنَّ دَعْوَتَكُمَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَدْ أُجِيبَتْ. فقيلَ بعد أربعينَ سنةً، لما أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ عبدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: يَزْعُمونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ مَكَثَ بَعْدَ هذِهِ الدَعْوَةِ أَرْبعين سَنَةً. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيجٍ. مثلَهُ. وأَخْرَجَ الحكيمُ التِرْمِذِيُّ عَنْ مجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَهُ. وقيلَ: كانتِ الاسْتِجابةُ في الحالِ فقد أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: "قدْ أَجيبَتْ دَعْوَتُكُما". قال: فاسْتَجاَب رَبُّهُ لَهُ وحالَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وبَيْنَ الإِيمان. فقيلَ: الضَميرُ عائدٌ لموسى وهرونَ مَعَاً، فقد كان مُوسى يَدْعُو وهرونُ يُؤَمِّنُ على دُعائه، فَنُسِبَ الدُعاء إِلَيْهِما. وذلك لِما أَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: كانَ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، إذا دَعَا أَمَّنَ هارونُ على دعائهِ، يَقولُ: آمين. قالَ أَبو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وهوَ اسْمٌ مِنْ أَسماءِ اللهِ تَعالى، فذَلِكَ قَوْلُهُ: "قَدْ أُجيبَتْ دَعْوتُكُما". وأخرج عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، مثلَهُ وأخرج هو وعبدُ الرَزَّاقِ، وابْنُ جريرٍ عنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَه. وأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصورٍ وابْنُ جريرٍ عَنْ محمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَبي صالحٍ، وأَبي العالِيَةِ، والرَّبيعِ، وابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم مِثْلَهُ. وقالَ بَعْضُهم: المُرادُ مُوسى وحدَهُ، ولكنْ كَنَّى عَنِ الوَاحِدِ بِضَميرِ الاثْنَيْنِ.
قولُهُ: {فَاسْتَقِيمَا} فَامْضِيَا لأَمْرِي، وَاثْبُتَا عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الحَقِّ، وَمِنْ إِعْدَادِ شَعْبِكُمَا لِلْكِفَاحِ وَالجِلاَدِ وَالخُروجِ مِنْ مِصْرَ. وأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فاستقيما" فامْضِيا لأَمْري وهي الاسْتِقامَةُ.
قولُهُ: {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وَلاَ تَسْلُكَا سَبِيلَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ سُنَنِي فِي خَلْقِي، الذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ الأَمْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ، وَيَسْتَبْطِئُونَ وَقُوعَهُ فِي حِينِهِ.
قولُهُ تَعالى: {قال قد أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما} قَالَ: فعلٌ ماضٍ وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على اللهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "قَدْ" حَرْفُ تحقيقٍ. و "أُجِيبَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، والتاءُ للتأنيثِ، و "دَعْوَتُكُمَا" نائبُ فاعلٍ مضافٌ، ومضافٌ إليه، والجُمْلَةُ في محَلِّ النَصْبِ بالقولِ، ل "قَالَ". و "فَاسْتَقِيمَا" الفاءُ: عاطِفَةٌ، و "استقيما" فِعْلُ أَمرٍ، وألفُ التثنيةِ فاعلُهُ، والجُمْلَةُ في محَلِّ النَصْبِ عطفاً على جملَةِ: "أُجِيبَت".
قولُهُ: {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يعلمون} الواوُ: عاطفةٌ. و "لا" ناهيَةٌ جازِمَةٌ، و "تَتَّبِعَانِّ" فعلٌ مٌضارِعٌ مجزومٌ بِ "لا" الناهيَةُ، وعلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُونِ؛ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، والأَلِفُ ضَميرٌ للمُثَنى المُذكَرِ المُخاطَبِ في محلِّ رَفْعِ فاعِلٍ، والنُونُ المُشَدَّدَةُ نُونُ التَوْكِيدِ، حَرْفٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ مبنيٌّ عَلى الكَسْرِ، وإنَّما كُسِرَتْ مَعَ أَنَّ الأَصْلَ في نُونِ التَوكيدِ البِناءُ على الفَتْحِ تَشْبيهًا لها بِنُونِ المثنَّى، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطفاً على جملَةِ: "فَاسْتَقِيمَا"، و "سَبِيلَ الَّذِينَ" مَفْعولٌ بِهِ مُضافٌ ومُضَافٌ إِلَيْهِ. و "لا" نافية، و "يعلمون" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ وفاعِلُهُ واوُ الجماعة، وجملَةُ "لا يَعْلَمُونَ" صِلَةُ الموْصولِ "الذين".
قرأ العامَّةُ: {قد أُجيبتْ دَعْوَتُكما} بضمِّ التاءِ على الإفرادِ ، وقرأَ السُلَمِيُّ والضَحَّاكُ: "دَعَواتُكما" على الجمْعِ. وقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: "قد أَجَبْتُ دَعْوَتَكُما" بِتاءِ المُتَكَلِّمِ، وهوَ البارِي ـ سبحانَهُ وتعالى، و "دَعْوَتَكُما" نَصْباً على المفعولِ بِه. وقرأَ الربيعُ: "أَجَبْتُ دَعْوَتَيْكُما" بِتاءِ المُتَكَلِّمِ أَيْضاً. و "دَعْوَتَيْكما" بالتَثْنِيَةِ، وهيَ دليلٌ لمنْ قالَ: إِنَّ هرونَ شاركَ مُوسَى في الدُعاءِ.
وقرأ العامَّةُ: {وَلاَ تَتَّبِعَانِّ} بِتَشْديدِ التاءِ والنُونِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ: "ولا تَتَبِعانِ" بِتَخْفيف النُونِ مَكْسورةً مَعَ تشديدِ التاءِ وتخفيفِها، وللقُرَّاءِ في ذَلِكَ كُلامٌ مضطربٌ بالنسبة للنقل عنه. فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فَ "لا" فيها للنَهْيِ ولذلك أَكَّد الفِعْلَ بعدَها، ويَضْعُف أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً لأنَّ تأكيدَ المَنْفيِّ ضَعيفٌ، ولا ضَرورَةَ بِنَا إلى ادِّعائِهِ، وإنْ كانَ بَعْضُهم قد ادَّعَى ذَلِكَ في قولِهِ: {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ} سورةُ الأَنْفال، الآية: 25. لِضَرورةٍ دَعَتْ إلى ذَلِكَ هُناكَ، وقد تَقَدَّمَ تحريرُهُ ودَليلُهُ في مَوْضِعِهِ، وعلى الصَحيحِ تَكونُ هَذِهِ جملةَ نهيٍ مَعطوفَةً على جملَةِ أَمْرٍ.
وأَمَّا قراءَةُ حَفْصٍ ف "لا" تحتَمِلُ أَنْ تَكُونَ للنَفْيِ وأَنْ تَكونَ للنَهْيِ. فإنْ كانَتْ للنَفْيِ كانَتْ النُونُ نُونَ رَفْعٍ، والجملةُ حينئذٍ فيها أَوْجُهُ، أَحَدُها: أَنها في مَوْضِعِ الحالِـ أيْ: فاسْتَقيما غَيرَ مُتَّبِعَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ هذا مُعْتَرَضٌ بما قَدَّمْتُهُ غيرَ مَرَّةٍ مِنْ أنَّ المُضارِعَ المَنْفِيَّ بِ "لا" كالمُثْبَتِ في كونِهِ لا تُباشِرُهُ واوُ الحالِ، إلاَّ أَنْ يُقَدَّرَ قبلَهُ مُبْتَدَأٌ فَتَكونَ الجُمْلَةُ اسمِيَّةً أَيْ: وأَنْتُما لا تَتَّبعانِ. والثاني: أَنَّهُ نَفْيٌ في معنى النَهْيِ كَقولِهِ تَعالى: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} سورة البقرة، الآية: 83. الثالث: أَنَّهُ خَبرٌ محْضٌ مُسْتَأْنَفٌ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما قَبْلَهُ، والمعنى: أَنَّهُما أُخْبِرا بأَنَّهُما لا يَتَّبعانِ سَبيلَ الذين لا يَعْلَمون، وإنْ كانتْ للنَهْيِ كانَتِ النُونُ للتَوْكيدِ، وهي الخَفيفةُ، وهذا لا يَراهُ سِيبَوَيْهِ والكِسائيُّ، أَعْني وُقوعَ النُونِ الخَفيفَةِ بَعْدَ الأَلِفِ، سَواءً كانت الألفُ أَلِفَ تَثْنِيَةٍ أَوْ أَلِفَ فَصْلٍ بَينَ نُونِ الإِناثِ ونونِ التَوكِيدِ نحو: (هلْ تَضْرِبْنان يا نِسْوَةُ). وقدَ أَجازَ يُونُسُ والفَرّاءُ وُقوعَ الخفيفةِ بعدَ الأَلِفِ وعلى قولِهما تَتَخَرَّجُ القراءةُ. وقيل: أَصْلُها التَشْديدُ وإنَّما خُفِّفَتْ للثِقَلِ فيها كَقَولِهم: "رُبَ" في "رُبَّ". وأَمَّا تَشْديدُ التاءِ وتخفيفُها فلُغَتانِ مِنْ اتَّبَعَ يَتَّبِعُ وتَبِعَ يَتْبَعُ، وقد تَقَدَّمَ هلْ هما بمَعْنى واحِدٍ أَوْ مَخْتَلِفانِ في المعنى؟ ومُلَخَّصُهُ أَنَّ تَبِعَهُ بَشَيْءٍ: خَلَفَهُ، واتَّبَعَه كَذَلِكَ، إلاَّ أَنَّهُ حاذاهُ في المَشْيِ، وأَتْبَعَهُ: لَحِقَهُ.