وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
(47)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} منتهى الإمهالِ منه تعالى
لعبادِهِ المذنبين المخالفين عن أَمْرِهِ أَنْ يُرسِلَ لهم رسولاً يحذِرهم عاقبةَ مَعْصِيَتِهِم لمولاهم وخالقهم، فإِنِّ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعالى على النَّاسِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ بخلْقِه سُبْحانَهُ، أَنْ أَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ رَسُولاً مِنْهَم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَمِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ الذِي يُنْجِيهِمْ مِنَ العِقَابِ فِي الآخِرَةِ.
قولُهُ: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ وَبَلَّغَهُمْ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي مُخَالَفَتِهِ، يَأْتِي كُلُّ رَسُولٍ يَوْمَ الحِسَابِ فِي الآخِرَةِ لِيَشْهَدَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، وَعَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رِسَالَتَهُ. فقيلَ المرادُ "فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ" أَيْ: جاءِ يَوْمَ القيامةِ، وهو كَما قالَ تَعالى في سُورَةِ الزُمَرِ: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الآية: 69. فتُعرضُ كلُّ أُمَّةٍ عَلى اللهِ بِحَضْرَةِ رَسُولها، أُمَّةً بعدَ أُمَّةٍ، وكِتابُ أَعْمالِهم شاهدٌ عَليهم، إنْ خيراً كانَ أوْ شَرّاً، وحَفَظَتُهُم مِنَ المَلائكَةِ يَشْهدونَ أَيْضاً، وكذلك أعضاؤهم التي ارتكبوا بها، والأرضُ التي فعلوا عليها. وهذِه الأُمة الشريِفَةُ هي أَوَّلُ الأُمَمِ حساباً يَومَ القِيامَةِ، وإنْ كانَتْ آخَرَ الأُمَمِ في الخَلْقِ، فيُفَصَلُ بَيْنَهم، ويُقْضَى لهم، ثمَّ باقي الأممِ مِنْ بَعْدِهم، وهَذا إِنَّما هُوَ إِكْرامٌ لِنَبِيَّهم ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، فقد جاءَ في الصَحيحَينِ مِنْ حَديثِ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ الرسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((نحنُ الآخِرونَ السابِقونَ يَومَ القِيامَةِ، المَقْضِيُ لهم قَبْلَ الخَلائِقِ)). هذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صحيحه برقم: (856)، ورَوَى أوَّلَه البُخارِيُّ في صحيحِه بِرِقم: (876). مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وإنَّما حازَتْ أُمَّتُهُ قَصَبَ السَبْقِ دائمًا بِما في ذَلِكَ يَومَ الدينِ، لِشَرَفِ رَسُولِها ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمْ.
وقيلَ المُرادُ: "فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ" فبَلَّغَهم ما أُرْسِلَ بِهِ فَكَذَّبُوهُ وخالَفُوهُ، "قُضِيَ بَيْنَهُمْ" بالعَدْلِ والقِسْطِ، أَيْ بَيْنَ كُلِّ أُمَّةٍ ورَسولِها، فحُكِمَ بِنَجاةِ الرَسولِ ومَنْ آمَنَ بِهِ، وإهْلاكِ مَن كَذَّبَهُ وعاداهُ، كما قالَ تَعالى في سورة الإسراءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} الآية: 15. وقد أَشْعَرَ قولُهُ: "قُضِيَ بَيْنَهُمْ" بحُصولِ مُشاقَّةٍ بَينَ الكافرين وبَين المؤمِنين بما فيهم الرَسولُ ـ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. وفي هذا تحذيرٌ للمشركين مِنْ مُشاقَّةِ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم، وإنذارٌ لهم.
قولُهُ: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وأَيّاً كانَ المرادُ، فَيَحْكُمُ اللهُ بَيْنَهُمْ بِالعَدْلِ التَّامِّ، فَلاَ يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، إنْ خيراً فخيرٌ أو شرّاً فَشَرٌّ.
قولُهُ تَعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} عَطْفٌ عَلى قولِهِ: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} الآية التي قبلها. وجملةُ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ" لَيْسَتْ هيَ المقصودُ مِنَ الإخْبارِ، بَلْ هِيَ تَمهيدٌ للتَفْريعِ المُفَرَّعِ عَلَيْها بِقَوْلِهِ: "فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ..". فالفاءُ هنا للتَفْريعِ و "إذا" للظَرْفِيَّةِ مُجَرَّدَةً عَنِ الاسْتِقْبالِ، والمعنى: أَنَّ في زَمَنِ مجيءِ الرَسُولِ يَكونُ القَضَاءُ بَيْنَهُمِ بالقِسْطِ. وتَقديمُ الظَرْفِ على عامِلِهِ "قُضِيَ" للتَشْويفِ إلى تَلَقي الخَبَرِ.
قولُهُ: {قُضِيَ بَيْنَهُم بالحَقِّ} بينهم، بَيْنَ: ظرفٌ يَدُلُّ عَلى تَوَسُّطٌ في شَيْئينِ أوْ أَشياءَ، وقد جاءتْ هذه الجملةُ بعد قولِه: "فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ" والهاءُ ضَميرٌ أُضِيفَ إليْه الظَرْفُ، وهو عائدٌ إلى مجموعِ الأُمَّةِ ورَسُولِها مَعَاً، وهذا يدُلُّ على أَنَّ القَضَاءَ يَكُونُ بَينَ الأُمَّةِ ورَسُولِها في الدنيا بالعَدْلِ، وهذا ما يرجِّحُ الثاني مِنَ المُرادَيْنِ اللّذَيْنِ تَقَدَّمَتِ الإشارةُ إِلَيْهِما آنِفاً عندَ تَفْسيرِ المَعْنى، واللهُ أعلم.
قولُهُ: {وهم لا يُظْلَمُونَ} الواو للحالِ، وهذه الجملةُ في محلٍّ نَصْبٍ على الحالِ المؤكِّدَةِ لِعامِلِها الذي هُوَ "قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحقِ" للإشعارِ بِأَنَّ الذَنْبَ الذي قُضِيَ عَلَيهم بِسَبِبِهِ ذَنْبٌ عَظيمٌ.