إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(3)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ} هذا خِطابٌ من ربِّ العالمين للناسِ أَجمعين، يُخْبِرُهم فيه أَنَّهُ رَبُّهم، ليَدْعوَهم إلى عِبادتِه وحدَهْ، بَعْدَ أَنْ حَكَى في الآيَةِ السابِقَةِ عَنْ الكُفََّارِ تَعَجُّبَهم مِنَ الوَحْيِ والبِعْثَةِ والرِّسالَةِ، وتكذيبِ الرسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمً، واتِّهامهم لَهُ بالسِحْرِ.
قولُهُ: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فِيهِما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. واخْتَلَفوا في ستَّةِ الأَيَّامِ هَذِهِ، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لا نَدْخُلُ في تحديدِ هَذِهِ الأيَّامِ السِتَّةِ، فهي لم تُذْكَرْ هُنا لِنَتَّجِهَ إلى تحديدِ مَداها ونَوْعِها، وإنَّما ذُكِرَتْ لِبيانِ حِكْمَةِ التَدْبيرِ والتَقْديرِ في الخلقِ حَسبَ مُقْتَضَياتِ الغايَةِ مِنْ هَذا الخَلْقِ، وتهيِئَتِهِ لِبُلوغِ هَذِهِ الغايةِ. وقالَ آخرون: في سِتَةِ أَوْقاتٍ، أوْ في مِقْدارِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مَعْهودَةٍ، فإنَّ نفْسَ اليومِ الذي هُوَ عِبارَةٌ عَنْ زَمانِ كَوْنِ الشَمْسِ فَوْقَ الأَرْضِ ممَّا لا يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُهُ حينَ لا أَرْضَ ولا سماءَ.
وقيلَ هِيَ مِقْدارُ سِتَةِ أَيامٍ مِنْ أَيَّامِ الدُنيا وهُوَ الأَنْسَبُ بالمَقامِ، لِما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى القُدْرَةِ الباهِرَةِ، بخلْقِ هذِهِ الأَجْرامِ العَظيمَةِ في مِثْلِ تِلْكَ المُدَّةِ اليَسيرَةِ، ولأنَّهُ تَعْريفٌ لَنَا بما نَعْرِفُهُ. فقد رُوِيَ عنْ عبدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ تِلكَ الأيَّامِ مِنْ أَيَّامِ الآخِرَةِ التي يَوْمٌ مِنْها كَأَلْفِ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّون. أَخرجَه ابْنُ أبي حاتمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم: "خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ" قَالَ: "يَوْمٌ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ". وقالَ سَعيدُ بْنُ جُبَيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كانَ اللهُ قادراً على أَنْ يَخْلُقَ السَمواتِ والأَرْضَ في لمحةٍ ولحظَةٍ. ولكنَّهُ سبحانَه، خلقَهُنَّ في سِتَةِ أَيَّامٍ، لِكيْ يَعْلَمَ عِبادُهُ التَثَبُّتَ والتَأَنّيَ في الأُمُورِ). ولِما لَهُ مِنْ حِكْمةٍ إلهيَّةٍ في مقالِهِ، ولأنَّهُ سبحانَه، رَفيقٌ في أَفعالِهِ. فقد خَلَقَ السَمواتِ والأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ، وتِلْكَ الأَيَّامُ أَيْضاً هي مِنْ جملَةِ ما خَلَقَ، فإنَّ فِعْلَهُ تعالى لا يحتاجُ إلى مُدَّةٍ، وكيفَ ومِنْ جملَةِ أَفْعالِهِ الزَمانُ والمُدَّةُ؟!.
وعَلَى أَيَّةِ حالٍ فالأَيَّامُ السِتَّةُ غَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللهِ، الذي لا مصدرَ لإدْراكِهِ إلاَّ هذا المَصْدَرُ، فعَلَيْنا أَنْ نَّقِفَ عِنْدَهُ ولا نَتَعَدَّاهُ، والمَقْصودُ بِذِكْرِها هُوَ الإِشارَةُ إلى حِكْمَةِ التَقْديرِ والتَدْبيرِ، والنِظامِ الذي يَسيرُ مَعَ الكونِ مِنْ بِدْئِهِ إلى مُنْتَهاهُ.
والجمهورُ: على أَنَّ ابْتِداءَ الخَلْقِ كان يومَ الأَحَدِ، لما أَخْرَجَ ابنُ أبي حاتمٍ عن الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا يَوْمَ الأَحَدِ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي ثَلاثِ سَاعَاتٍ، فَخَلَقَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا الشُّمُوسَ كَيْ يُرَغِّبَ النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ، وَخَلَقَ فِي نَاحِيَةٍ النَّتِنَ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إِذَا مَاتَ لِكَيْ يُقْبَرَ". وفي حديثٍ لمُسْلِمٍ: يومَ السَبْتِ، وأَنَّهُ خَلَقَ الأَرْضَ، ثمَّ اسْتَوى إلى السَماءِ فَسوّاهُنَّ سَبْعَ سماواتٍ، ثمَّ دَحا الأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ. وقد بيّنا في ذلك وفصّلنا في سورة الأعرافِ ما أَغْنى عَنِ التَوَسُّعِ فيه هُنا، وللهِ الحَمْدُ، ولَهُ المِنَّةُ.
قولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} وَلَمَّا أَتَمَّ خَلْقَ الوُجُودِ، اسْتَوَى عَلى العَرْشِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ، ومُلوكُ الأَرْضِ إذا أَرادوا التَجَلِّيَ والظُهورَ لرَعِيَّتِهم، بَرَزوا لهم عَلى سَريرِ مُلْكِهم في أَلْوانِ مَشَاهِدِهم. فقَدْ أَخْبرَ الحقُّ سُبْحانَهُ، في هَذِهِ الآيَةِ العظيمةِ بما يَقْرُبُ مِنْ فَهْم الخلْقِ، ومَعناهُ اتِّصافُهُ بِعِزِّ الصَمَدِيَّةِ وجَلالِ الأَحَدِيَّةِ، وانْفِرادُهُ بِنَعْتِ الجَبروتِ وعَلاءِ الرُبوبِيَّةِ، أيْ أنَّهُ سُبْحانَهُ تَوَحَّدَ بجَلالِ الكبرياءِ بِوَصْفِ المَلَكُوتِ. تَقَدَّسَ الجبَّارُ عَنِ الأَقْطارِ، وتَنَزَّهَ المَعْبودُ عَنِ الحُدودِ.
والتَدْبيرُ: النَظَرُ في عَواقِبِ المُقَدَّراتِ وعَوائقِها لقَصْدِ إيقاعِها تامَّةً، والغايةُ منه العَمَلُ عَلى وِفْقِ ما دُبِّرَ فيما يُقْصَدُ لَهُ من محمودِ العاقبة. وتَدْبيرُ اللهِ الأُمورَ عِبارَةٌ عَنْ تمامِ العِلْمِ بما يُخْلُقُها عَلَيْهِ، لأنَّ لَفْظَ التَدْبيرِ هُوَ أَوْفى الأَلْفاظِ اللُّغَوِيَّةِ بِتَقْريبِ إتْقانِ الخَلْقِ. والأمر: جِنْسٌ يَعُمُّ جميعَ الشُؤونِ والأَحْوالِ في العالم.
وقَدِ اسْتَوى سُبْحانَهُ عَلى عَرْشِهِ ليُدَيِّرَ أَمْرَ ممْلَكَتِهِ، قاضيًا في خَلْقِهِ ما أَحَبَّ، لاَ يُشْغِلُهُ شَأْنٌ عنْ شَأْنٍ، وَلاَ يُلْهِيهِ كَبِيرُ عَنِ صَّغِيرِ، لا يُضادُّهُ في قَضائهِ أَحَدٌ، ولا يَتَعَقَّبُ تَدْبيرَهُ مُتَعَقِّبٌ، ولا يَدْخُلُ أُمورَهُ خَلَلٌ، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ المُلِحِّينَ. والحادثاتُ كلُّها صادرَةٌ عَنْ تَقْديرِهِ، وحاصِلةٌ بِتَدْبيرِهِ، فلا شَريكَ يَعْضُدُهُ، وما قَضَى مِنْ أَمْرٍ فلا أَحَدَ يَرُدُّهُ. يُدَبِّرُ الأمورَ كُلَّها في العالَمِ العُلْوِيِّ والسُفْلِيِّ مِنَ الإماتَةِ والإحْياءِ، وإِنزالِ الأَرْزاقِ، ومُداوَلَةِ الأَيَّامِ بينَ النَّاسِ، وكَشْفِ الضُرِّ عَنِ المَضْرورينَ، وإجابَةِ سُؤالِ السائلين. فأَنْواعُ التَدابيرِ نازِلَةٌ مِنْهُ وصاعِدَةٌ إليْهِ، والخَلْقُ جميعُهم مُذعنونَ لِعِزِّهِ، خاضِعونَ لِعَظَمَتِهِ وسُلْطانِهِ.
وممّا في هذهِ الآيةِ مِنْ الحِكمِ والفوائدِ، وُجُوبُ التَسْليمِ القَلْبيِّ للهِ تَعالى في الأُمُورِ كُلِّها، والاسْتِسْلامِ لِقَضَاءِ اللهِ تعالى وقدَرِهِ، والرِّضا بِأفعالهِ سبحانَه وتدبيرِهِ، مَعَ الأَخْذِ بالأَسْبابِ بحسَبِ الاستطاعة، على مُقْتَضى الشَرْعِ الحَنيفِ، كَما أَوْجَبَ ربُّنا ـ تَبارَكَ وتَعالى. فإنَّ مَنْ كانَ لَهُ مُدَبِّرٌ عَليمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وقادِرٌ على كُلِّ شَيْءٍ، كيفَ يجوزُ له أنْ يعتمِدَ على غيرِهِ، أَوْ يركَنُ إلى تدبيرِ نَفْسِهِ، وليسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ يَومِهِ ولا غَدِهِ أَوْ أَمْسِهِ. وقد بيَّنتِ الآياتُ الكريمةُ والسنَّةُ النبويَّةُ الشريفةُ ذلكَ بما يَسْتَغْرِقُ اسْتِقْصاؤهُ الأَسْفارَ. والحمدُ للهِ الذي وَفَّقَنا لِذِكْرِ قدرٍ لا بَأْسَ بِهِ مِنْها في ثَنايا هَذا السِفْرِ المُبارَكِ، فلا حاجةَ للإعادة.
وَمِنْ سِيَرِ السَلَفِ الصالحِ في هذا البابِ ما نُقِلَ عنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التَسْتُرِيِّ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لِه حينَ حَضَرَتهُ الوفاةُ: فيما تُكَفَّنُ، وأَيْنَ تُقْبرُ، ومَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ بَعْدَ مَوْتِكَ؟. فقالَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أُدَبِّرُ أَمْرِي حَيّاً وَمَيْتاً، وقَدْ كُفِيتُ عَنْهُ بِسابِقِ تَدْبيرِ اللهِ تَعالى لِعَبْدِهِ!!.
قولُه: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وكيف وهوَ سبحانَه، الذي يُنْطِقُ مَنْ يُخاطِبُهُ، وهوَ الذي يَخْلُقُ ما يَشاءُ لمن يَشاءُ إذا الْتَمَسَ يُطالِبهُ، فلاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ تعالى إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَهُوَ رَبُّكُمْ فَأَفْرِدُوهُ بِالعِبَادَةِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ يُسْتَنْكَرُ مِنْ رَبِّ هَذا الخَلْقِ، وَمُدَبِّرِهِ أَنْ يُفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ صَلاَحُهُمْ وَكَمَالُهُمْ. وفي هذه الآيةِ المباركة رَدٌّ عَلى مَنْ زَعَموا زوراً أَنَّ آلهتَهم تَشْفَعُ لهم عِنْدَ اللهِ تَعالى، وفيها إثباتُ الشفاعَةِ لمَنْ أَذِنَ لَهُ ـ سبحانَهُ وتعالى، فكانَ قولُهُ: "إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ" احْتِراساً لإثباتِ شَفاعَةِ سيِّدِنا محمَّدٍ ـ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ، الثابِتَةَ بِأَحاديثَ عَلى دَرَجَةٍ مِنَ الصِحَّةِ بحيثُ لا يَرْقَى إلَيْها شَكٌّ أَبَداً.
قولُهُ: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} نتيجةٌ لما سَبَقَ ذكُهُ من صفاتِ اللهِ تعالى لأنَّهمُ امْتَرَوا في صِفَةِ الإلهيَّةِ، وضَلّوا فِيها ضَلالاً مُبيناً، فَكانوا بجاجةٍ للإيقاظِ بِطَريقِ اسْمِ الإشارَةِ "ذلكم"، وللتَنْبيهِ عَلى أَنَّ المُشارَ إِلَيْهِ حَقيقٌ بما سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الأَوْصافِ التي أُشيرَ إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِها، فإنَّ خالِقَ العَوالمِ بِغايَةِ الإتْقانِ والمَقْدِرَةِ، ومالكَ أَمْرِها، ومُدَبِّرَ شُؤونها، والمُتَصَرِّفَ المُطْلَقَ فيها، مُسْتَحِقٌّ للعبادِةِ.
قولُهُ: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أنَسيتُم أَيُّها المُشْرِكُونَ؟ أَفَلاَ تتذكَّرون ذلك كُلَّهُ الذي تقدّم مِنْ بَراهينَ دالَّةٍ على عَظَمَةِ اللهِ وقدرتِهِ وأَحَقِيَّتِهِ بالعبادَةِ، لِتَتَفَكَّرُوا فِي عاقبةِ أَمْرِكُمْ؟ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً غَيْرَهُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ؟. أخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عن أَصْبَغَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِهِ: "أَفَلا تَذَكَّرُونَ" قَالَ: "أَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ".
ومُنَاسَبَةُ هَذِهِ الآيةِ لما قَبْلَها أَنَّ مَنْ كانَ قادراً على إيجادِ هذا الخَلْقِ العُلْوِيِّ والسُفْلِيِّ العَظِيمينِ وهُوَ رَبُّكُمُ الناظِرُ في مَصالِحِكُمْ، فَلا يُتَعَجَّبُ أَنْ يَبْعَثَ إلى خَلْقِهِ مَنْ يُحَذِّرُهم مُخالَفَتَهُ، ويُبَشِّرُهم بعِظَمِ أَجْرِ مَن آمَنَ بِهِ وأطاعَهُ، إذْ لَيْسَ خَلْقُه لهم عَبَثاً، بَلْ عَلى ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ سبحانَه، وسَبَقَتْ بِهِ إرادَتُهُ، فالعَظيمُ قادِرٌ على مَنْ دُونَهُ بِطَريقِ الأَوْلى.
أخرج ابْنُ أَبي حاتم عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ". "لَقِيَ رَكْبًا عَظِيمًا لا يَرَوْنَ إِلاَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: مِنَ الْجِنِّ خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَخْرَجْتَنَا هَذِهِ الآيَةُ".
قولُهُ تَعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل "إنَّ". أو هو حالٌ. أو أَنَّهُ مستأنفٌ لا محلَّ لَهُ مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {ما من شفيع} ما: نافيةٌ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٍ، و "شَفيعٌ" مَرْفوعٌ محَلاًّ على أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، مجرورٌ لفظاً بِ "مَنْ" وجازَ الابتِداءُ بالنَكِرَةِ لِسَبْقِها بالنَفْيِ، الخبرُ مقدَّرٌ، والجملةُ خبرٌ ثالثٌ ل "إنّ".
قولُهُ: {إلاَّ من بعد إذنه} إلا: أداةُ حصرٍ، و "مِنْ بَعْدِ" الجارُّ مُتَعَلَّقٌ بالخَبرِ المقدَّر.
قولُهُ: {ذلكمُ اللهُ ربُّكم} ذلكم: مُبْتَدَأٌ و لفظُ الجلالةِ "اللهُ" خَبرُهُ، و "رَبُّكم" بَدَلٌ منه مَرْفوعٌ.
قولُهُ: {فاعبدوه} الفاء: للعطفِ، وهذه الجملةُ مَعْطوفَةٌ على جُملَةِ "ذلكم اللهُ".
قولُهُ: {أفلا تذكَّرون} جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.