بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(1)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} يُعْلِنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنَ كلِّ عهْدٍ مَعَ المُشْرِكين وأنَّهما في حِلٍّ مِنْ عُهودِ المُشْرِكين جميعِهِم، بَعدَ أَنْ وَصَلَ الحالُ إلى شِبْهِ اليأسِ مِنْهم والقنوطِ مِنْ هِدايَتِهم، وإنابَتِهم، ورُجوعِهم إلى الحقِّ، والكفِّ عَنْ أَذى المُؤمِنينَ والتَربُّصِ للنَبيِّ الكَريمِ، ومحاولاتهم القضاءَ على هذا الدينِ، فإنَّ اللهَ ورسولَه والمسلمونَ في حِلٍّ من العهودِ التِي أَبرمَهَا المُسْلِمُونَ مَعَ المُشْرِكِينَ والتزموا بها، في حينِ أَنّ المُشْرِكين ما فتِئوا يَتَحايَلونَ عَلَيْها وإذا ما آنَسوا منْ أنْفُسِهِمُ القوَّةَ نكثوها وتَنكَّروا لها. من ذلك ما قالَهُ محمَّدُ بْنُ إسْحاقَ ومجاهِدٌ وغيرُهما أَنَّ هذه السورةَ نَزَلَتْ في أَهْلِ مَكَّةَ، لأنَّ رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، عاهدَ قُرَيْشاً عامَ الحُدَيْبِيَةِ على أَنْ يَضَعُوا الحَرْبَ عَشْرَ سِنينَ، يَأْمَنُ فيها الناسُ ويَكُفَّ بعضُهم عَنْ بَعْضٍ، فدَخَلَتْ خُزاعَةُ في عَهْدٍ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، ودَخَلَتْ بَنو بَكْرٍ في عَهْدِ قُرَيْشٍ، فعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلى خُزاعَةَ، فقَتَلوا رَجُلاً منها، ورَفَدَتْهُمْ قُرَيْشٌ بالسِّلاحِ فلَمَّا تَظاهَرَ بَنُو بَكْرٍ وقُرَيْشٌ على خُزاعَةَ ونَقَضُوا عُهودَهم، فخرجَ عَمْرو بْنُ سالمٍ الخُزاعِيُّ في رهطٍ من قومِه فيهم بُديلُ ابنُ ورقاء الخزاعي حتى وَقَفَ عَلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، أنشدَ عمرو:
يا ربِّ! إنّي ناشِدٌ مُحَمَّدا .................... حِلْفَ أَبينا وأَبيهِ الأتْلَدَا
قد كنتُم وُلْداً وكُنّا وَلدا ................. ثُمَّتَ أَسْلَمْنا، فلَم نَنْزِع يَدَا
إنَّ قُريشاً أَخْلَفوكَ المَوعِدَا، .................. ونَقَضُوا ميثاقَكَ المُؤكَّدَا
وقتلونا رُكَّعاً وَسُجَّدَا .................. وَزَعَموا أنْ لَسْتَ تدعو أَحَدَا
وهم أَذَلُّ وأَقَلُّ عَدَدَا، ................. فانصرْ، هداك اللهُ، نَصْراً أَيِّدَا
وادْعُ عِبادَ اللهِ يأْتُوا مَدَدا ............ فيهم رَسُولُ اللهِ قد تجَرَّدَا
إنْ سِيمَ خَسفاً وَجهُهُ تَرَبَّدَا ........ في فَيْلَقٍ كالبحرِ يجري مُزبِدَا
فقال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلَّم: ((نُصِرْتَ يا عَمْرَو بْنَ مالِكٍ)). وفي روايةٍ: ((لا نُصِرْتُ إنْ لم أَنْصُرْ كَعْباً)), أيْ: بَني خُزاعَةَ، ثمَّ عَرض عارضٌ مِنَ السَماءِ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: إنَّ هذِهِ السحابةَ تَسْتَهِلُّ بنَصْرِ بَني كَعْبٍ. وقالَ لِبُدَيل بْنِ ورقاءَ ومَنْ مَعَهُ: ((إنَّ أَبا سُفيانَ سَيَأْتي لِيَشُدَّ العقدَ ويَزيدَ في الصُلْحِ، وسَيَنْصَرِفُ بِغيرِ حاجَةٍ)). ونَدِمَتْ قُريْشٌ على ما فَعَلَتْ، فَخَرَجَ أَبو سُفْيانَ إلى المدينةِ لِيَسْتَديمَ العَقْدَ ويَزيدَ في الصُلْحِ، فرَجَعَ بِغيرِ حاجةٍ كما أَخبرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، على ما هُوَ مَعْروفٌ مِنْ خَبَرِهِ. وتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى مَكَّةَ ففَتَحَها اللهُ، وذَلِكَ سَنَةَ ثمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ. فلَمّا بَلَغَ هَوازِنَ فَتْحُ مَكَّةَ جمَعهم مالكُ بْنُ عَوْفٍ، على ما هوَ مَعروفٌ مَشْهورٌ مِنْ غَزاةِ حُنَينٍ. وكانَ الظَفَرُ والنَصْرُ للمُسْلِمين على الكفّارِ. وكانتْ وَقعَةُ هَوازِنَ يَومَ حُنينٍ في أَّوَّلِ شَوالٍ مِنَ السَنَةِ الثامِنَةِ مِنَ الهِجْرَةِ. وتَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، قَسْمَ الغَنائمِ، فلَمْ يَقْسِمْها حتى أَتى الطّائِفَ، فحَاصَرَها بِضْعاً وعِشْرينَ لَيْلَةً. وقيلَ غيرُ ذلك. ونَصَبَ عَلَيْهِمُ المِنْجَنيقَ ورَماهم بِهِ. ثمَّ انْصَرَفَ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إلى الجِعْرانَةِ، وقَسَمَ غَنائمَ حُنَينٍ. ثمَّ انْصرَفَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وتَفَرَّقوا، وأَقامَ الحَجَّ للناسِ ذلك العامَ عِتابُ بْنُ أُسَيْدٍ. وهوَ أَوَّلُ أَميرٍ أَقامَ الحَجَّ في الإسْلامِ، وكانَ ـ رضي اللهُ عنه، خَيِّراً فاضِلاً وَرِعاً. وحَجَّ المُشْرِكونَ عَلى مَشاعِرِهم. وقدِمَ كَعْبُ بْنُ زُهيرٍ بْنِ أَبي سُلْمَى إلى رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم، فقامَ على رَأْسِهِ قبيل صلاةِ الصبح مادحاً له منشداً قصيدَتَهُ المشهورة التي أَوَّلُها:
بانَتْ سُعادُ فقَلْبي اليومَ مَتْبولُ .............. مُتَيَّمٌ إِثرَهَا لم يُفْدَ مَكْبُولُ
ومنها:
وما سُعادَ غَداةَ البَيْن إِذ عَرَضَتْ ... إلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكْحُولُ
هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ............. لا يشتكي قِصَر منها ولا طُولُ
وما تَدُومُ على العَهْدِ الذِي زَعَمَتْ ........ كما تَلَوَّنُ في أَثْوَابِها الغُولُ
ولا تَمَسَّكُ بالوُدِّ الذي زَعَمَتْ ......... إِلاَّ كما تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لها مَثَلاً ............. وما مَوَاعِيدُه إِلاَّ الأَباطيلُ
وقال كلُّ خليلٍ كنتُ آملهُ .............. لا أُلْهِيَنَّكَ أني عنكَ مشغولُ
فقلتُ: خلوا سبيلي لا أبالكمُ ........... فكلُّ ما وعدَ الرحمن مفعولُ
كلُّ ابنِ أنثى، وإنْ طالتْ سلامتهُ ......... يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعدَني ............ والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَبْذُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الذي أَعْطَاكَ نافلَةَ الْ ........ قُرْآنَ فيها مَوَاعِيظٌ وتَفْصِيلُ
لا تأْخُذَنِّي بأَقْوَالِ الوُشاةِ ولم .......... أُذْنِبْ ولَوْ كَثُرَتٍ فِيَّ الأَقاويلُ
فلما بلغ قوله:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ به .......... وصارمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
في عُصْبَة مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ .......... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فما زالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُفُ ......... يَوْمَ الِلَّقَاءِ ولا سُودٌ مَعَازِيلُ
لا يَقَعُ الطَعْنُ إلاَّ في نُحُورِهِمُ ........ وما بِهم عَنْ حِياضِ الموتِ تهليلُ
فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، كأَنَّه يُومِئ إليهم أَنْ يَسْمَعوا، حتى قال:
يَمْشُونَ مَشْىَ الجمال الزُهْرِ يَعْصِمُهُمْ .. ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
شمُّ العرانين أبطالٌ لَبوسهمُ .......... مِنْ نَسْجِ داودَ في الهيجا سَرابيلُ
لا يَفْرَحون إذا نالتْ رِماحُهُمُ ......... قوْماً ولَيْسُوا مَجازيعاً إذا نِيلوا
يُعَرِّضُ بالأَنْصارِ، لِغِلْظَةٍ كانتْ عَلَيْهم، فأَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ عليْهِ وقالوا: لم تَمْدَحْنا إذْ هَجَوْتَهم، فقالَ:
مَنْ سَرَّهُ شَرَفُ الحَيَاةِ فلا يَزَلْ ......... في مِقْنَب من صالِحِي الأَنْصَارِ
المُكْرِهين السَمْهَرِيَّ بِأَذْرُعْ ............... كَسوافِلِ الهِنْدِيِّ غيرِ قِصارِ
اَلباذِلينَ نُفُوسَهم لِنَبِيِهِّمْ ..................... يَوْمَ الهيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّارِ
والضاربينَ الناسَ عَنْ أَديانِهم ................ بالمشْرَفيّ، وبالقَنا الخطّارِ
صَدَمُوا الكَتيبَةَ يَومَ بَدْرٍ، صَدْمَةً ............. ذَلَّتْ لِوَقْعَتِها رِقابُ نِزارِ
ورِثوا المَكارِمَ كابِراً عَنْ كابِرٍ ............... إنَّ الخِيارَ هُمُ بَنُو الأَخْيارِ
يَتَطَهَّرُونَ كأَنَّهُ نُسُكٌ لهم ................. بدِماءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
فعفا عنه رسولُ اللهِ وخَلَعَ عليه بردةً كان يَلْبَسُها، اشْتَراها مِنْهُ بَعْدَ ذَلكَ مُعاوِيَةُ بْنُ أبي سُفيانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، بِعِشْرينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فكان الخُلَفاءُ يَلْبَسُونَها في العيدين، ثمَّ بِيعَتْ للمَنْصُورِ العَبَّاسِيِّ بَأَرْبَعينَ أَلْفاً. وكانَ كعبُ مِنْ قبلُ قد هجا الرَسولَ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، غضباً لمَّا أَسْلَمَ أخوهُ بُجَيرٌ, وكان كثيرَ التشبيبَ بالنِساءِ، فَأَهْدَرَ دَمَهُ. وكعبٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، من أسرة عريقة في الشعرِ فأبوه زهيرٌ شاعرٌ كبيرٌ عالمٌ بالشعرِ من أصحاب المعلقات، وأخوهُ بُجيرٌ شاعرٌ وابنُهُ عُقبة شاعر، وكانَ الحُطَيْأَةُ راوِيَةً لِزُهيرٍ وآلِ زُهَيرٍ، فقالَ يَوماً لِكَعْبٍ: قد عَلِمْتُمْ رِوايَتي لَكم أَهْلَ البَيْتِ وانْقِطاعي إِليكم، فَلَوْ قُلْتَ شِعْراً تَذْكُرُ فيهِ نَفْسَكَ ثمَّ تَذْكُرُني بَعْدَكَ، فإنَّ الناسَ أَرْوَى لأَشْعارِكُم، فقال:
فمَنْ للقَوَافِي شَأْنِهَا مَنْ يَحُوكُها ...... إِذا ما مضَى كَعْبٌ وفَوَّزَ جرْوَلُكَفَيْتُكَ لا تَلْقَى من الناس واحِداً ........... تنَخَّلَ منها مِثْلَ ما يَتَنَخَّلُيُثَقِّفُهَا حتَّى تَلِينَ كُعُوبُهَا ............... فيُقْصِرَ عنها من يُسِيءُ ويَعْمَلُ
جَرْوَلُ: هو اسْمُ الحُطَيْأَةِ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّ البَرَاءَةَ التي أعلنها اللهُ ـ تبارك وتعالى في هذه الآيةِ المباركة، هِيَ مِنَ العُهُودِ المُطْلَقَةِ غَيْرِ المُوَقَّتَةِ بِمُدَّةٍ مُعَينَةٍ، وَمِنْ عُهُودِ أَهْلِ العُهُودِ الذِينَ ظَاهَرُوا عَلَى الرَّسُولِ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، لأنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا بَعْدُ، إِنَّ الذِينَ تَقُومُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ عُهُودٌ مُوَقَّتَةٌ، ذَاتِ أَجَلٍ مُعَيَّن، يَجِبُ أَنْ يُتِمَّ المُسْلِمُونَ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا قَدْ نَقَضُوا العَهْدَ، وَظَاهَرُوا عَلَى المُسْلِمِينَ، وَمَنْ كَانَ عَهْدَهُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَرِئَ مِنْ عَهْدِ كُلِّ مُشْرِكٍ وَلَمْ يُعَاهِدْ بَعْدَهَا إِلاَّ مَنْ كَانَ عَاهَدَ وَأَجْرَى لِكُلِ قَوْمٍ مُدَّتَهُمْ".
وقال العلماءُ: إذا اسْتشعرَ الإمامُ مِنْ أَهْلِ العَهدِ خيانةً أو جنايةً، أو تَوَقَّعَ مِنْهم غائلَةً، كانَ لَهُ نَبْذُ عَهْدِهم إليهم، دَفْعاً لِغائلَتِهم، حتى لا يُؤتى مِنْ حيثُ لا يَشْعُرُ، إلاَّ أَنَّهُ عليه أَنْ يُجاهِرَ بِنَبْذِ العَهْدِ إِلَيْهم، حتى لا يُشْبِهَ الغَدرَ.
ويجوزُ له أَيْضاً أَنْ يُعاهِدَ المُشركين إلى أَنْ يَرى فيهِ رَأْيَهُ، كما عاهَدَ أَهْلَ خَيبرَ، وقالَ في العَهْدِ: أُقِرُّكم ما أَقَرَّكُمُ اللهُ ثمَّ أَجْلاهم عُمَرُ ـ رضي اللهُ عنه، وكُلُّ ذلكَ جائزٌ.
وقولُهُ: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ" أَيْ: هذِهِ بَراءَةٌ، أَيْ: تَبَرُّؤٌ مِنَ اللهِ ورَسولِهِ. تَقولُ: بَرِئْتُ مِنَ الشَيْءِ، أَبْرَأُ بَراءَةً فأَنا مِنْهُ بَريءٌ، إذا أَزَلْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وقَطَعْتَ سَبَبَ ما بَيْنِكَ وبَيْنَهُ.
وقد اخْتَلَفَ المُفَسِّرونَ ها هُنا اخْتِلافاً كثيراً، فمن قائلٍ: هذِهِ الآيةُ لِذوي العُهودِ المُطْلَقَةِ غيرِ المُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهْ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعةِ أَشْهُرٍ، فيُكْمَلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فأَمَّا مَنْ كانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّّتٌ فأَجَلُهُ إلى مُدَّتِهِ، مَهْما كانَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى بعدَ ذلك في الآية الرابعة: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. ولِما أَتى في الحديثِ الشَريفِ: ((ومَنْ كانَ بَيْنَهُ وبَينَ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، عَهْدٌ فعَهْدُهُ إلى مُدَّتِهِ". وهذا أَحْسَنُ الأََقْوالِ وأَقْواها، وقدِ اخْتارَهُ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، ـ رضيَ اللهُ عنه، ورُويَ عَنِ الكَلْبيِّ وعن محمدٍ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيّ، وجاء في السُنَنِ الكُبرى للبَيْهَقِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أُرْسِلْتُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِأَرْبَعٍ: لاَ يَطُوفَنَّ بِالْكَعْبَةِ عُرْيَانٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وأَخْرجَهُ أَيْضاً: أَحمدُ، والتِرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، والحاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَردويْهِ، وسَعيدٌ بنُ منصورٍ، والحميديّ. وروى ابْنُ أَبي نَجِيحٍ، عَنْ مُجاهدٍ: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ" إلى أَهْلِ العَهْدِ: خُزَاعَةَ، ومُدْلِجٍ، ومَنْ كانَ لَهُ عَهْدُ أَوْ غيرِهم. أَقبَلَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ تَبوك حينَ فَرَغَ، فأَرادَ الحجَّ، ثمَّ قالَ: "إنَّما يَحْضُرُ المُشْرِكون فَيَطوفونَ عُرَاةً، فلا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حتى لا يَكونَ ذَلكَ". فأَرْسَلَ أَبا بَكْرٍ وعَلِيّاً، رَضْيَ اللهُ عَنْهُما، فطافا بالناسِ في ذي المجَازِ وبِأَمْكِنَتِهم التي كانوا يَتَبايَعونَ بها في المواسِمِ كُلِّها، فآذَنوا أَصْحابَ العَهْدِ بِأَنْ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فهِيَ الأَشْهُرُ المُتوالِياتُ: عِشرونَ مِنْ ذي الحِجَّة إلى عَشْرٍ يَخْلونَ مِنْ رَبيعٍ الآخَر، ثمَّ لا عَهْدَ لهم، وآذَنَ الناسَ كُلَّهم بالقِتالِ إلاَّ أَنْ يُؤْمِنوا. ورُوِيَ عَنِ السُدِّيِّ وقَتادَةَ مثلُهُ. وقالَ الزُهْرِيُّ: كانَ ابْتِداءُ التَأْجيلِ مِنْ شَوَّال وآخرُهُ سَلْخُ المُحَرَّمِ. وهذا القولُ غَريبٌ، وكيفَ يُحاسِبونَ بِمُدَّةٍ لم يَبْلُغْهم حُكْمُها، وإنَّما ظَهَرَ لَهم أَمْرُها يَوْمَ النَحْرِ، حين نادى أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، بِذلكَ وقرأ عليهم عليٌّ بنُ أبي طالبٍ ـ كرَّمَ اللهُ وجهّهُ كما تَقدَّم بَيانُه.
قولُهُ: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يَعْني إلى الذين عاهَدَهُم رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، لأنَّه كانَ المُتَوَلِّي للعُقودِ، وأَصْحابُهُ ـ رضي اللهُ عنهم، كلُّهم راضون بذلك، فكأَنَّهم عاقَدوا وعاهَدوا، فَنَسَبَ العقدَ إليهم. وكذلكَ ما عَقَدَهُ أَئِمَّةُ الكُفْرِ على قومِهم مَنْسوبٌ إليهم، محسوبٌ عليهم، يُؤاخَذون بِهِ إذْ لا يُمْكِنُ غيرُ ذلكَ، فإنَّ تحصيلَ الرِضا مِنَ الجَميعِ مُتَعَذِّرٌ، فإذا عَقَدَ الإمامُ أَمْراً يَرى أَنَّ فيه َمصْلَحةً للعامَّةِ، لَزِمَ على جميعِ الرَعايا تنفيذُهُ والعملُ بما فيه، وهو أمْر مطَّردٌ في سياسات الدولِ قديماً وحديثاً.
قولُهُ تعالى: {براءةٌ مِنَ اللهِ ورسولِهِ إلى الذينَ} بَرَاءَةٌ: رَفعٌ بالابْتِداءِ، والخبرُ قولُهُ: "إلى الذين". وجازَ الابْتِداءُ بالنَكِرَةِ لأنَّها تَخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بَعْدَها. ويجوزُ أنَّه خَبرُ ابْتِداءٍ مَضْمرٍ، أَيْ: هَذِهِ الآياتُ بَراءةٌ. ويجوزُ في: "مِنَ الله" أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقاً بِنَفْسِ "براءةٌ" لأنَّها مَصْدرٌ، أو بصفةٍ ل "براءةٌ". وهذِهِ المادةُ تَتَعدَّى بِ "مِنْ" تَقولُ: بَرِئْتُ مِنْ فُلانٍ أَبْرَأُ بَراءَةً، أَيْ: انْقَطَعَتْ العُصْبَةُ بَيْنَنا. وعلى هذا فيجوزُ أَنْ يَكونَ المسَوِّغَ للابتداءِ بالنَكِرَةِ في الوَجْهِ الأَوَّلِ هذا. و "إلى الذين" مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفٍ على الأَوَّلِ لِوُقوعِهِ خَبراً، وبِنَفْسِ "بَراءة" على الثاني. أو بصفةٍ ثانيةٍ لها. والجارُّ "من المشركين" مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ العائدِ المحذوفِ، أيْ: عاهَدْتُموهم كائنين من المشركين. ويُقالُ: بَرِئْتُ من الأمرِ بكسرِ عين الفعل (الراء) كما يقالُ: بَرَأْتُ مِنَ الأَمْرِ بفتح عين الفعلِ (الراءِ) أيْ: يجوزُ فيها الكَسْرُ والفَتْحُ. وقالَ الواحدِيُّ: لَيْسَ فيهِ إلاَّ لُغَةٌ واحدةٌ: كَسْرُ العينِ في الماضي، وفَتْحُها في المسْتَقبَلِ. ولَيْسَ الأمْرُ كَذلِكَ، بَلْ نَقَلَهُما أَهْلُ اللُّغَةِ.
وقرأَ الجمهورُ: {براءةٌ} بالرفعِ، وقرأَ عيسى بْنُ عُمَرَ "براءةً" بالنَصْبِ على إِضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: اسمعوا بَراءةً. وقدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: الزَموا بَراءةً، وفيه معنى الإِغْراءِ. وقُرئَ "مِنِ الله" بكسرِ نُونِ "مِنْ" على أَصْلِ الْتِقاءِ الساكِنَينِ، أَوْ على الإِتْباعِ لِميمِ "مِنْ" وهي لُغَيَّةٌ، فإنَّ الأَكثرَ فتْحُها مَعَ لامِ التَعريفِ وكَسْرُها مَعَ غيرِها نحو: "مِنِ ابنك" وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما. وحكى أبو عَمْرٍو عَنْ أَهْلِ نَجْرانَ أَنَّهم يَقْرؤونَ بِكَسْرِ النُونِ مَعَ لامِ التَعريفِ.