وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
(154) قولُهُ ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} شُروعٌ في بيانِ بَقِيَّةِ الحِكايةِ، أَيْ: ولمَّا سَكَتَ عَنْ موسى الغَضَبُ باعتِذارِ أَخيهِ هارون إليه ـ عليهما السلامُ ـ وبتوبةِ القوم، وكأنَّ الغَضَبَ كان يُغريهِ على ما فَعَلَ ويَقولُ لَهُ: قُلْ لِقومِكَ كَذا وأَلقِ الألواحَ، وجُرَّ بِرَأْسِ أَخيكَ إِلَيْكَ، فسكتَ عن النُطْقِ وقَطَعَ الإغراءَ، وهذا صَريحٌ في أَنَّ ما حُكِي عَنْهُم مِنَ النَدَمِ وما يَتَفَرَّعُ عَلَيْه كان بعدَ مجيءِ مُوسى، وأَصْلُ السُكوتِ قَطْعُ الكَلامِ، وقيلَ: المرادُ ولمَّا كُسِرَتْ سَوْرَةُ غَضَبَِهِ ـ عليه السلام ـ وباعْتَذار أخيه هَدَأَ غَيْظُهُ فقط، لا أنّه زال بالكلِّيَّةِ لأنَّ تَوْبَةَ القومِ ما كانتْ خالصةً بعدُ، وفي الكلامِ اسْتِعارةٌ مَكْنِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ الغَضَبَ بِشَخْصٍ ثائرٍ ناهٍ آمرٍ، وأَثْبَتَ لَهُ السُكوتَ عن طَريقِ التَخييلِ، وقيل أيضاً فيهِ اسْتِعارةٌ تَبَعِيَّةٌ حيثُ شَبَّهَ سُكونَ الغَضَبِ وذَهابَ حِدَّتِهِ بِسُكونِ الآمِرِ الناهي، والغَضَبُ قَرينَتُها، وقيل: الغضبُ استعارةٌ بالكِنايَةِ عَنِ الشخصِ الناطِقِ، والسُكوتُ اسْتعارةٌ تَصْريحيَّةٌ لِسُكونِ هَيَجانِهِ وغَلَيانِهِ، فيكونُ في الكلامِ استعارةٌ مَكْنِيَّةٌ قَرينَتُها تَصريحيَّةٌ لا تَخْييلِيَّة، وأيّاً كان ففي الكلام مبالغةٌ وبلاغةٌ لا يَخْفى عُلُوُّ شَأْنِهِما، ومَصْدَرُ سَكَتَ الغَضَبُ السَكْتَةُ، ومصدرُ سَكَتَ الرَّجُلُ السُكوتُ، ويَقتَضي هذه أنْ يَكونَ سَكَتَ الغَضَبُ فِعلاً مستقلاًّ عن سكتَ الرجلُ. وفي مُصْحَفِ عبدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ (ولمَّا صَبرَ عن موسى الغضب)، وفي مُصحَفِ أُبيّ بنِ كعبٍ ـ رضي اللهُ عنه: (ولمّا اشْتُقَّ عَنْ مُوسى الغَضَبُ). وقيلَ إنَّ المعنى: ولمَّا سكتَ موسى عنِ الغَضَبِ، ولا يَجوزُ أن يكونَ المعنى صَمَتَ لأنَّ "سَكَتَ" بمعنى سَكَنَ، وصَمَتَ بمعنى سَدَّ فاهُ أو أغلقَه عَنِ الكَلام، وهكذا فالعربيةُ بحرٌ زخارٌ بالمعاني لا يُدْرَكُ غورُهُ، وإنَّما نسبح في ساحله وشطآنهِ ونتحاشى لُجَّهُ.
قولُهُ: {أَخَذَ الأَلْوَاحَ} سبقَ أنْ نقلنا أقوال المفسِّرين عند قولِه: {وألقى الألواح} وخلاصتُه أنها كانت ِالتوراةَ مكتوبةً على سبعة ألواحٍ من زبرجدِ الجَنَةِ فلما ألقاها تسرت ستٌّ منها وبقي السابعُ، وظاهرُ هذه الآية الكريمةِ يَدُلُ على أَنّ شَيْئاً مِنها لم يَنْكَسِرَ ولم يَبْطُلُ لقولِه: "أخذَ الألواح"، ولم يَقُلْ "أخذَ اللوحَ" وهذا يعني أنَّ الذي قِيلَ هناك مِنْ أَنَّ سِتَةَ أَسْباعِ التَوراةِ رُفِعَتْ إلى السَماءِ، غيرُ صحيحٍ، أو أنَّ اللهَ تعالى قد أعادها كما كانتْ عندما سكنَ غضبُ موسى واستغفر وعادَ إليها ليأخُذها. وهو ما نطمئنُّ إليه لما رُوِيَ عَنْ عبد اللهِ ابنِ عباسٍ وعَمْرٍو بْنِ دينار ـ رضي اللهُ عنهم ـ أنَّه قال: (لمَّا أَلْقى مُوسى ـ عليه السلامُ ـ الألواحَ تَكَسَّرتْ، فَصامَ أَربعينَ يَوماً، فأَعادَ اللهُ تَعالى الأَلواحَ وفيها عَيْنُ ما في الأُولى).
قولُهُ: {وَفِي نُسْخَتِهَا} وَفِي نُسْخَتِهَا: النَسْخُ عبارة عنِ النقلِ والتحويلِ ويَعني أنَّ كتاباً كُتِبَ عنْ كِتابٍ آخرَ حَرْفاً بَعْدَ حَرْفٍ. أيْ نُقِلَ ما في الأَصْلِ إلى الكتابِ الثاني. فعلى هذا قولُه: "وَفِى نُسْخَتِهَا" أيْ وفيما نُسِخَ مِنْها. هذا على أساس ما بينّاهُ قبلاً أنّ الألواحَ تكسّرت ثمَّ أعيدت كما كانت عندما ندمَ موسى واستغفر، أَمّا إِنْ قُلْنا إنَّ الأَلواحَ لم تَتَكَسَّرْ وأَخَذَها مُوسى بأَعْيانها كما هي بَعدَ أن كان أَلقاها، فيكونُ معنى "وفي نُسختِها" أَنها كانت مَكتوبَةً مِنَ اللوْحِ المحفوظِ نسخةً طبقَ الأصلِ فهي أَيْضاً تَكونُ نَسْخاً على هذا التقدير. وجاءَ في سِفْرِ الخُروجِ من الإصحاحِ الرابعِ والثلاثينَ مِنَ التوراةِ: ثمَّ قالَ الرَبُّ لموسى انْحَتْ لَكَ لَوْحينِ مِنْ حَجَرٍ مِثْلَ الأَوَّلين فأَكْتُبُ أَنَا على اللّوحَينِ الكَلِماتِ التي كانتْ على اللّوحَينِ الأَوَّلَينِ اللذَيْنِ كَسَرْتَهُما، ثمَّ قال: فَنَحَتَ لَوْحينِ مِنْ حَجَرٍ كالأَوَّلَين .. إلى أَنْ قال: وقال الربُّ لموسى: أْكْتُبْ لِنَفْسِكَ هذِهِ الكَلِماتِ .. إلى أَنْ قال: فَكَتَبَ على اللَّوحينِ كَلِماتِ العَهْدِ، الكَلِماتِ العَشْرِ.
وكلِمَةُ "نُسْخَة" على وزنِ "فُعْلَة" وتَأْتي بمعنى "مفعولة"، ف "نُسَخَةٌ" أيْ: مَنْسوخَة، وفي القُرآنِ الكريمِ كثير من مثلِ هذا. من ذلك قولُهُ في سورة البقرة: {إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} الآية: 249. ف "غُرْفة" أَيْ: مَغروفة، وهي القليلُ مِنَ الماء يُؤخَذُ باليَدِ لِبَلِّ الريق فقط، والغرفةُ أَيْضاً تكون في البيت مَغْروفَةً مِنَ المَكانِ في حَيِّزٍ مخَصوصٍ.
قولُهُ: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} هدى: المقصودُ بالهدى المِنْهَجُ المُوصِلُ إلى لغايَةِ، التي هي رُضْوانُ اللهِ، وثوابُهُ في الآخرة، فالهُدى إذاً والرَحمةُ شيءٌ واحدٌ، والمنهج هُدًى ورَحمةٌ في آنٍِ معاً، فالذي يَسْمَعُ كلامَ اللهِ ويتبعُ هُداهُ يَرْحمُهُ اللهُ؛ فلا بُدَّ أَنْ يَسْتَحْضِرَ المؤمِنُ رَهْبتَه لرَبِّه وخوفَه منه لِيكونَ المِنْهَجُ له هُدًى ورحمةً. فيكون بذلك مِنَ الذين يَرْهَبون رَبَّهُمْ ويخشون غضبه وعذابه. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (هُدًى مِنَ الضَلالَةِ، ورَحمةٌ مِنَ العَذابِ، و"للذين هم لربّهم يرهبون" خائفون).
وفي تقَدُّمِ المفعولِ: "لربِّهم" على فاعله في: "يرهبون" قصرٌ واختصاصٌ، أي يخصون ربَّهم بالرهبةِ، ويقصرون خشيتهم عليه، وهو هنا كما في الفاتحة: {إيّاك نعبدُ * وإياك نستعين} أي نخصُّك بالعبادةِ والاستعانة ونقصرهما عليك وحدك.
قولُهُ تَعالى: {أخذَ الألواح} التعريف في "الأَلْوَاحِ" للعَهْدِ، أيْ: الأَلْواحَ التي أَلْقاها.
قولُهُ: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى}، هذِهِ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنَ الألْواحِ، أو مِنْ ضَميرِ مُوسى، والأوَّلُ أَحْسَنُ.
قولُهُ: {للَّذِينَ} مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّهُ صِفَةٌ لِ "رحمة" أيْ: رَحمة كائنة للذين. ويجوزُ أَنْ تَكونَ اللامُ لامَ المَفعولِ مِنْ أَجْلِهِ كأنَّهُ قِيلَ: هُدًى ورَحمةً لأجلِ هؤلاءِ، و "هم" مُبْتَدَأٌ، و "يرهبون" خَبرُهُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ.
قولُهُ: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} هذِهِ اللامُ مُقَوِّيَةٌ للفِعْلِ، لأنَّهُ لمَّا تَقَدَّمَ مَعْمولُهُ ضَعُفَ فَقُوِّيَ باللاّمِ كَما هي في قولِهِ تعالى: {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} فاللامُ تَكونُ مُقَوِّيةً حيثُ كانَ العاملُ مُؤخَّراً أو فَرْعاً نحو: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} سورةُ هود، الآية: 107، ولا تُزادُ في غيرِ هذيْن إلاَّ ضَرورةً عَنْدَ بَعضِهم كقول:
ولمَّا أن تواقَفْنا قليلاً ......................... أَنَخْنا للكلاكل فارْتَمَيْناأو في قليلٍ عندَ آخرينَ كقولِهِ تَعالى في سورة النملِ: {رَدِفَ لَكُم} الآية: 72. ويمكن: أَنْ تكونَ اللامَ في "لِرِبِّهم" لامَ العِلَّةِ، وعليه فمَفعولُ "يرهبون" محذوفٌ تقديرُهُ: يَرْهَبونَ عِقابَهُ لأَجْلِهِ، وهذا مَذْهَبُ الأَخْفَشِ. ومذهَبُ المبرِّدِ فيها أَنَّها مُتَعَلِّقةٌ بمصدرٍ محذوفٍ تَقديرُهُ: الذينَ هُمْ رَهْبَتُهم لِرَبِّهم، وهذا غيرُ جارٍ على قواعدِ البَصْرِيّين لأنَّه يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ المَصْدَرِ وإبْقاءُ مَعْمولِهِ، وهو ممتَنِعٌ إلاَّ في شِعْرٍ، وأَيْضاً فهوَ تَقديرٌ مُخْرِجٌ للكَلامِ عَنْ وَجْهِ فَصاحَتِهِ. وقال أبو البقاء: بأَنَّها مُتَعَلِّقةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْضاً تَقديرُهُ: يخشعونَ لِرَبِّهم.