وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} بعدَ انْتِهاءِ قِصَّةِ فِرْعوْنَ، شرعَ ـ سبحانَه ـ في قِصَّةِ بَني إسرائيلَ وما أَحْدَثوهُ بَعْدَ كلِِّ ما مَنَّ به عليهم، وما أراهم مِنْ آياتٍ، و "جاوزْنا ببني إسرائيلَ" أي: قَطَعْنا بهمُ "البحرَ".
رُوِي أَنهم عَبروهُ يومَ العاشِرِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ المسمَّى ب "عاشوراءَ"، بَعْدَ مَهْلِكِ فِرْعَوْنَ، فصاموا هذا اليومَ شُكرًا للهِ تعالى، وقد وَجَدَ النبيُّ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ـ اليهودَ في المدينة يَصومونَ هذا اليَوْمَ، فسألهم عن ذلك، فقالوا: هو يومٌ نجَّى اللهُ فيه نبيَّه موسى ومن معه، وأَغرقَ فِرعونَ ومَنْ مَعَهُ في البحر، فقال: ((لئن بَقيتُ إلى قابِلَ لأصومَنَّ التاسِعَ)) أخرجهُ مسلمٌ وأحمدُ وغيرهما من أئمة الحديث عن ابنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهم جميعاً. وقد ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ في زَادِ المَعادِ: (2/76) أَنَّ صيامَ عاشوراءَ ثلاثُ مَراتِبَ:
1ـ صومُ التاسِعِ والعاشِرِ والحادي عَشَرَ، وهذا أَكْمَلُها.
2ـ صومُ التاسِعِ والعاشِرِ، وعليه أَكْثَرُ الأحاديثِ.
3 ـ صَوْمُ العاشِرِ وَحْدَهُ. ولا يُكْرَهُ ـ على الصحيحِ ـ إفرادُ اليومِ العاشِرِ بالصومِ، كما قالَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ ـ رحمهُ اللهُ ـ في الاختياراتِ ص: 101.
قولُه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} وَبَعْدَ أَنْ جَاوَزَ مُوسَى بِقَوْمِهِ البَحْرَ، بِعَوْنِ اللهِ وَتَأَيِيدِهِ، مَرُّوا أَثْنَاءَ سَيْرِهِمْ بِقَوْمٍ يَعْبُدُونَ أَصْنَاماً، يُواظبون على عبادتها ويُلازِمونها، قيلَ: كانت هذه الأصنامُ عبارةً عن تماثيلِ بَقَرٍ من نُحاسٍ، وذلكَ أَوَّلَ شأنِ عِبادَةِ العِجْلِ، وهؤلاءِ القومِ هُمْ مِنَ العَمالِقَةِ، وقيلَ: مِنْ لَخْمٍ، وهم قبيلةٌ يُنْسَبونَ إلى لَخْم بْنِ عَدِيّ بْنِ عَمْرو بْنِ سَبَأٍ، وقيلَ إنَّ هؤلاءِ القوم هُمُ الجبَّارُون مِنَ الكَنْعانِيّينَ الذين أُمِرَ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ بِقِتالهمْ بعدَ وُصولِهِ إلى الشامِ.
قولُهُ: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} بَيانٌ لعظيم المِنَّةِ التي امتنَّ اللهُ بها عليهم، وهي عُبورُهمُ البَحْرَ بَعدَ أَنْ ضَرَبَهُ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ بِعَصاهُ، فأَصْبَحَ طَريقاً يابِساً يَسيرون فيهِ بأَمانٍ واطْمِئنانٍ حتى عَبروهُ إلى الناحيةِ الأُخرى، تَصْحَبُهم عنايةُ الله تعالى ولُطفِه، وتحدوهم رعايتُه. وجاوَزَ بمعنى أَصْلِ الفِعلِ الذي هُوَ جازَ، يجوزُ، أيْ: قَطَعْنا بهمُ البَحْرَ. يُقالُ: جازَ الواديَ وجاوزَهُ إذا قَطَعَهُ.
والمراد بالبحر: البحرُ الأحمرُ الذي كانَ يسمّى ببحْرِ القَلْزَمِ. لقد عاودْتهم طَبِيعتُهم الوَثَنِيَّةُ، فَرَاقَتْ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ لأولئك الْجَهَلَةِ، وَطَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهم مُوسى ـ عليه السلامُ ـ الذي جاءَ لهِدايتِهم وإنْقاذِهم مما هُمْ فيهِ مِنْ ذلٍّ وظُلْمٍ، أَنْ يَصْنَعَ لهم آلهةً مِنْ جِنْسِ الآلهةِ التي يَعْبُدُها أُولئكَ القومِ. فقَالُوا لِمُوسَى: اصْنَعْ لَنَا آلهةً مِثْلَ آلِهَتِهِمْ، أو تماثيلَ لإلهِكَ، كَهذِهِ التَماثيلِ للآلهةِ التي يَعْبُدُها هؤلاءِ القومِ، وهذا يدلُّ أنَّ الإيمانَ بالله تعالى، لم يتمكَّن من قلوبهم، بعدُ، وأنَّ عقولَهم لم تستطع بعدُ فهمَ عقيدةِ التوحيدِ وإدراكَها، وأنهم لم يتمرَّسوا في عبادةِ الإلَهِ الواحِدِ ـ جلَّ وعَلا.
قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَصَفَهُم ـ عليه السلامُ ـ بالجهلِ المُطْلَقِ عَلى أَتمِّ وَجْهٍ، حيثُ لم يَذْكُرْ لَهُ مُتَعَلَّقاً ومَفْعولاً لَتَنْزيلِهِ مَنْزِلَةَ اللازِمِ، أو لأنَّ حذفَهُ يَدُلُّ على عُمومِهِ، أيْ تجهلونَ كلَّ شيءٍ، فدَخَلَ فيهِ الجَهلُ بالرُّبوبِيَّةِ بالطَريقِ الأَوْلى بقولِهِ: "تجهلون"، فأتى بالفعلِ المُضارِعِ وأَكَّدَهُ ب "إنَّ"؛ لِبُعْدِ ما صِدَرَ مِنهم وفظاعته، بعد ما رأوا مِنْ الآياتِ الكُبرى. وهي اللغةُ القرآنيَّةُ الساميةُ، والمتبادر إلى الذهنِ أنْ يقالَ: جاهلون، لكنَّ هذا الوصفَ جاءَ فعلاً، وهي قمةُ المبالغةِ في التأكيد، فَهُمْ قَوْمٌ يَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللهِ وَجَلاَلَهُ، وَمَا يَجِب لِذَاتِهِ الكَرِيمَةِ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنِ الشَّرِيكَ وَعَنِ المُمَاثِلِ.
قال القاضي البيضاوي ـ رحمه اللهُ ـ في تَفْسيرِهِ: ذَكَرَ ما أَحْدَثَهُ بَنُو إسْرائيلَ مِنَ الأُمورِ الشَنيعةِ بَعْدَ أَن مَنَّ اللهُ تعالى عليهم بالنِعَمِ الجِسامِ، وأراهم مِنَ الآياتِ العِظامِ، وفيه تَسلِيَةٌ لِسيِّدِنا رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عمّا كان يَرى مِنْهم ويَلْقى مِنْ التشغيب، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يَغْفُلُوا عَنْ محاسَبَةِ أَنْفُسِهم ومُراقبةِ أَحْوالهم.
ذُكِرَ أَنَّ يَهوديًّا قالَ لِعَلِيٍّ ـ رَضيَ اللهُ عنه: كيفَ اخْتَلَفْتُم وضَرَبْتُمْ وُجوهَ بَعْضِكُمْ بالسيفِ، ونَبِيُّكم قَريبُ عَهْدٍ بِكُمْ؟ فقالَ: أَنْتُمْ لم تجُفَّ أَقدامُكم مِنْ ماءِ البَحْرِ حتى قُلتم: "اجْعَلْ لَنا إلهاً كما لهم آلهة".
قولُهُ تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ} كقولِهِ في سورةِ البَقَرَةِ: {فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ} الآية: 50, مِنْ كونِ الباءِ يجوزُ أَنْ تَكونَ للتَعْدِيَةِ، وأَنْ تَكونَ للحاليَّةِ كقولِ أبي الطيِّبِ المُتنبي:
فمرَّتْ غيرَ نافرةٍ عليهمْ .................. تَدوسُ بنا الجماجمَ والتَّريباوقد تقدَّم ذلك. وجاوَزَ بمعنى جازَ. ففاعَل بمعنى فَعَل.
قولُهُ: {يَعْكُفُونَ} صِفَةٌ لِ "قوم".
قوله: {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} الكافُ في محلِّ نَصْبِ صِفَةٍ ل "إِلهاً"، أي: إلهاً مماثلاً لإِلههم. و "ما" موصولةٌ حرفيَّةٌ، أي: تَتَأوَّل بمصدرٍ، وعلى هذا فَصِلَتُها محذوفة، وإذا حُذِفت صلةُ "ما" المصدرِيَّةِ فلا بُدَّ مِنْ إبْقاءِ مَعْمُولِ صِلَتِها كقولهم: "لا أُكَلِّمُكَ ما أَنَّ حِراءَ مَكانَه" أي: ما ثَبَتَ أَنَّ حراءَ مَكانَه. وكذا هنا فتقديرُه: كما ثَبَتَ لهمْ آلهةٌ، ف "آلهة" فاعلٌ ب "ثبت" المُقَدَّرِ. وقال بعضهم: بجوازِ أَنْ تَكونَ الجُمْلةُ بعدَ "ما" صِلةً لها، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مُقَدَّرٌ بالفعل. لكنَّ هذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ "ما" المَصْدَريَّةَ لا تُوْصَلُ بالجُملةِ الاسميَّة على المشهور، وعلى رأيِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلك فيَشْتَرِطُ فيها غالباً أن تُفْهِم الوقتَ كقول الشاعرِ:
واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ ...... فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُولكنَّ مرادَه أنَّ الجارَّ مقدَّرٌ بالفعل، وحينئذ تَؤُولُ إلى جملة فعليَّة أيْ: كما استقرَّ لهم آلهةٌ.ويجوزُ في "ما" أنْ تَكونَ كافَّةً لِكافِ التَشْبيهِ عَنِ العَمَلِ فإنها حرفُ جَرٍّ. وهذا كما تُكَفُّ "رُبَّ"، فيَليها الجُمَلُ الاسميَّةُ والفِعليَّةُ، ولكنْ ليس ذلك على سبيلِ الوُجوبِ، بَلْ يجوزُ في الكاف وفي "رب" معَ "ما" الزائدة بعدَهما وَجْهانِ: العملُ والإِهمالُ، ومن ذلك قولُ الشاعر عَمْرٍو بْنِ البرَّاقةَ النِهْمِيِّ الهمدانيِّ:
ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه ............... كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌوقولُ الآخر: رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ ..................... وعناجيجُ بينهنَّ المَهارىيُروى بِرَفْعِ "الناس" و "الجامل" وجرِّهما. هذا إذا أَمْكَنَ الإِعْمالُ. أَمَّا إذا لم يمكن تَعَيَّن أَنْ تَكونَ كافَّةً كهذِهِ الآيةِ إذا قِيلَ بأنَّ "ما" زائدة.
أخيراً يجوزُ في "ما" أنْ تَكونَ أيضاً بمعنى "الذي"، وأنْ يكون "لهم" صلتها، وحينئذٍ يكون فيها ضميرٌ مَرْفوعٌ مَستترٌ، و "آلهة" بَدَلٌ مِنْ ذلكَ الضَميرِ، والتَقديرُ: كالذي استقرَّ هو لهم آلهة.
قرأ العامةُ: {جاوزنا} وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاءٍ ويَعقوب: "جَوَّزنا" بالتَشْديدِ، وهو أَيْضاً بمعنى فَعَل المجرَّدِ ك "قَدَرَ" و "قدَّر".
وقرأ العامَّةُ: {يعكُفون} بضمِّ الكافِ، وقرأَ الأخَوَان (حمزة والكِسائي): "يَعْكِفون" بِكَسْرِه، ويُروى عنْ أَبي عَمْرو ابنِ العلاء أَيضاً. وهما لُغَتان في المضارع ك "يَعْرِشون" و "يَعرُشون". بكسر الراء وضمها أيضاً. وقد تقدَّم، كما تقدم في سورة البقرة معنى العكوف واشتقاقُه.