وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
(137)
قولُه ـ عزَّ وجلَّ: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} فَأَوْرَثَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ الذِينَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ، يَتَحَكَّمُ فِيهِمْ فِرْعَوْنُ وقومُه بِجَوْرِهِ وَطُغْيَانِهِ، والمُرادُ بهم بَنُو إسرائيلَ، وذُكِروا بهذا العُنْوانَ "المستضعفين" إظهاراً لكمالِ اللُّطْفِ الإلهيِّ بهم، وعظيمِ إحسانِهِ إليهم، حيثُ رَفَعَهم مِنَ حَضيضِ المَذَلَّةِ إلى أَوْجِ العِزَّةِ، وفيهِ إشارةٌ إلى أنّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتعالى ـ عندَ القُلوبِ المُنْكَسِرَةِ. فقد أخرج الإمامُ أَحمد ـ رضي اللهُ عنه ـ في كتاب الزهد عن عمرانَ بنِ موسى القصيرِ قال: قال موسى ـ عليه السلام: "يا رَبي أَيْنَ أَبْغيك؟ قال: ابْغِني عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلوبُهم مِنْ أَجْلي؛ فإني أَدْنوا مِنْهم كلَّ يومٍ باعاً، ولولا ذَلك لانهدموا". والجمعُ بينَ صِيغَتَيْ الماضي والمستقبل "كانوا يُستضعفون" للدَّلالةِ على اسْتِمْرارِ الاسْتِضْعافِ وتجدُّدِه.
قولُه: {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} أيْ جميعَ جهاتها ونواحيها، المقصودُ بمَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغارِبِهَا، قيل: هِيَ أرضُ الشامِ ـ وقيلَ: ومِصرَ أَيضاً، فقد مَلَّكَها بَني إسرائيلَ بَعْدَ الفَراعِنَةِ والعَمالِقَةِ، ومَكَّنهم مِنْ نَواحيها. وقيل ملَّكهم بقاعاً كثيرةً مِنَ الأرضِ، كان ذلك لداوود ولابنِهِ سُليمانَ من بعده ـ عليهما السلامُ ـ وهما من ذُرِّيَّتِهم، فقد مَلَّكَ سُليمانُ معظَمَ أَصْقاعِ الأَرضِ، قال ـ تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} سورة (ص)، الآية: 35. ثمَّ إنَّ كلمةَ "مَشَارِقَ" جمعُ مَشْرِقٍ، و "مغارب" جمعُ مغربٍ، ولا يوجدُ في الأرضِ مكانٌ اسمُهُ مَشْرِقٌ، وآخَرُ اسمُهُ مَغْرِبٌ، إنَّما هي مَسْألةٌ نِسْبِيَّةٌ، فهذِهِ مَشْرِقٌ بالنِسْبَةِ لِغَيرِها وغيرُها مَشْرِقٌ بالنِسْبَةِ لها، وما يُقال في المشارقِ يُقالُ في المَغارِبِ، وقد جاءتِ هذه العبارةُ في القرآنِ الكريمِ للدَلالةِ على أَنَّ لِكُلِّ مَكانٍ مَشْرقٌ ومَغْرِبٌ؛ فإذا غَرَبَتِ الشَمْسُ في مَكانٍ فهي تُشْرِقُ في مكانٍ آخَرَ. وهذا يدلُّ على أنَّ المقصودَ بمشارِقِ الأَرْضِ ومَغَارِبها كُلُّها أو مُعظَمُها وقد كان هذا الملك أيَّام نبيِ اللهِ سليمانَ، واللهُ أعلم.
قولُه: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أيْ: بَارَكَ اللهُ فِيهَا بِالخَصْبِ وَالخَيْرِ الكَثِيرِ وسَعةِ العيشِ، وبكونِها مَساكِن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والصالحين، ومعظمُ المفسّرين على أنَّ المقصودَ بها بِلادُ الشامِ.
فقد أَخْرَجَ عبدُ الرَّزاقِ، وعبدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ، وابْنُ عَساكِرَ، كلُّهم عن قَتَادَةَ في قولِهِ: "مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها التي بارَكْنا فيها" قال: (هيَ أَرْضُ الشامِ).
وأَخرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ زَيْدٍ بْنِ أَسْلَمَ في قولِهِ: "التي باركنا فيها" قال: (قُرى الشّامِ). وأخرجَ ابْنُ عَساكِرَ أيضاً، عنْ كَعْبِ الأَحْبارِ قال: إنَّ اللهََ بارَكَ في الشامِ مِنَ الفُراتِ إلى العَريشِ.
وسمِّيَتْ بذلك لأنَّ قوماً مِنْ بَني كَنْعانَ تَشاءَموا إليها، أيْ تَيَاسَروا. أوْ سمِّيتْ باسمِ سامٍ بْنِ نُوحٍ ـ عليه السلامُ ـ فإنَّه بالشِينِ بالسُرْيانِيَّةِ، فالسينُ والشينُ والزايُ عندهم حرفٌ واحدٌ. أوْ لأنَّ أَرْضَها شاماتٌ، بِيضٌ وحمرٌ وسُودٌ، وعلى هذا القولِ الأخيرِ لا تُهْمَزُ، بَلْ يجوزُ همزُها عَلى الأَوَّلِ والثاني.
وأَخرَجَ أيضاً عَنْ أَبي الأَغْبَشِ، وكانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحابَ النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ البرَكَةِ التي بُورِكَ بها في الشامِ أَيْنَ مَبْلَغُ حَدِّهِ؟ قال: أَوَّلُ حُدودِهِ عَريشُ مِصْرَ، والحَدُّ الآخَرُ طَرَفُ الثنْيَةِ، والحَدُّ الآخَرُ الفُراتُ، والحَدُّ الآخَرُ جُعِلَ فيه قَبرُ هُود النبيِّ ـ عليه السلام. وأَخْرَجَ أيضاً عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ أَبي سُفْيانَ، قالَ: إنَّ رَبَّكَ قالَ لإِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَعْمِرْ مِنَ العَريشِ إلى الفُراتِ، الأَرْضَ المبارَكَةَ، وكانَ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتنَ وقَرى الضَيْفَ.
وأَخْرَجَ أيضاً عَنْ وَهْبٍ بْنِ مُنَبِّهٍ قالَ: دِمَشْقُ بَناها غُلامُ إبراهيمَ الخليلِ ـ عليهِ السَّلامُ، وكانَ حَبَشِيّاً، وَهَبَهُ لَهُ نُمْرودُ بْنُ كَنْعانَ، حينَ خَرَجَ إبراهيمُ مِنَ النَّارِ، وكان اسْمُ الغُلامِ "دمشق" فَسَمّاها عَلى اسمِهِ، وكان إبراهيمُ جَعَلَهُ عَلى كُلِّ شيءٍ لَهُ، وسَكَنَها الرُّومُ بعدَ ذلكَ بِزَمانٍ.
وأخرجَ أيضاً في معنى البركةِ عَنْ أَبي عَبْدِ الملِكِ الجُزَرِيِّ قال: إذا كانتِ الدُنْيا في بَلاءٍ وقَحْطٍ كانَ الشامُ في رَخاءٍ وعافيَةٍ، وإذا كانَ الشامُ في بَلاءٍ وقَحْطٍ كانتْ فِلسْطينُ في رَخاءٍ وعافيَةٍ، وإذا كانتْ فِلَسْطينُ في بَلاءٍ وقَحْطٍ، كانَ بيتُ المَقْدِسِ في رَخاءٍ وعافيَةٍ، وقالَ: الشامُ مُبارَكَةٌ، وفِلَسْطينُ مُقدَّسَةٌ، وبَيْتُ المَقْدِسِ قُدِّسَ أَلْفَ مَرَّةٍ.
وأخرجَ أيضاً عَنْ كعبِ الأحبارِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: مَكْتوبٌ في التوراة أَنَّ الشامَ كنزُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مِنْ أَرْضِهِ، بها كَنْزُ اللهِ مِنْ عِبادِهِ، يَعني بها قُبُورُ الأَنْبياءِ إبْراهيمَ وإسْحَقَ ويَعْقوبَ.
وأخرجَ كذلك عنْ ثابتٍ بْنِ مَعْبَدَ قال: قالَ اللهُ تَعالى: يا شامُ أَنْتِ خِيرتي مِنْ بَلَدِي، أُسْكِنُكِ خِيرَتي مِنْ عِبادي. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ في مسنده، والتِرْمِذِيُّ في سننه، والرويانيُّ في مُسْنَدِهِ، وابْنُ حِبَّانَ في صحيحه، والطَبرانيُّ، وأخرجه الحاكِمُ في مستدركه وصَحَّحَهُ، عَنْ زَيْد بْنِ ثابت قال: كُنَّا حَوْلَ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّم ـ نُؤلِّفُ القُرآنَ مِنَ الرّقاعِ، إذْ قال: ((طوبى للشامِ)) قيلَ لَهُ: ولمَ؟ قال: ((إنَّ مَلائكةَ الرَّحمنِ باسِطَةٌ أَجْنِحَتَها عَلَيْهِمْ)).
وأَخْرَجَ البَزَّارُ والطَبرانيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبي الدَرْداءِ ـ رضي اللهُ عنه ـ عَنِ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ قال: ((إنَّكم سَتُجَنَّدونَ أَجْناداً، جُنْداً بالشامِ ومِصْرَ والعِراقِ واليَمَنِ)). قلنا: فَخِرْ لَنَا يا رَسَولَ اللهِ. قال: ((عليكُمْ بالشَامِ، فإنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لي بالشَّامِ)).
وأَخْرَجَ أحمدُ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَوالَةَ الأَزْدِيِّ. أَنَّهُ قال: يا رسولَ اللهِ خِرْ لِي بَلَداً أَكُونُ فيه. فقال: ((عليكَ بالشَامِ إنَّ اللهَ يَقولُ: يا شامُ أَنْتِ صَفْوتي مِنْ بِلادي، أُدْخِلُ فيكِ خِيرَتي مِنْ عِبادِي)). ولَفْظُ أَحمد. ((فإنَّهُ خيرةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ يجتبي إليهِ خِيرَتَه مِنْ عِبادِهِ، فإنْ أَبَيْتُمْ فعَلَيْكم بَيَمَنِكُمْ فإنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لي بالشامِ وأَهْلِهِ)).
وأَخْرَجَ الحاكمُ وصَحَّحَهُ عَنْ عَبدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: (يأتي على الناسِ زَمانٌ لا يَبْقى فيهِ مُؤْمِنٌ إلاَّ لَحِقَ بالشامِ). وجاءَ مِنْ حديثِ أحمد، والتِرمِذِيِّ، والطَبراني، وابنِ حِبَّان، والحاكم، وصَحَّحَهُ عن زَيد بْنِ ثابت ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قال: ((طُوبى للشام)) فقيلَ لَهُ: ولم؟ قال: ((إنَّ ملائكةَ الرحمنِ باسِطَةٌ أَجْنِحَتَها عَلَيْها)).
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والتِرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وابْنُ ماجةَ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنْ قُرَّةَ عَنِ النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسَلَّم ـ قال: ((إذا فَسَدَ أَهْلُ الشامِ فلا خَيرَ فِيكم، لا تَزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتي مَنْصورينَ على النَّاسِ لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلهمْ حتّى تَقومَ الساعةُ)). وأَخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبيعةَ قال: سمعتُ أَنَّهُ لم يُبْعَثْ نَبيٌّ إلاَّ مِنَ الشامِ، فإنْ لم يَكُنْ مِنْها أُسِرِيَ بِهِ إليْها. وأَخْرَجَ الحافظُ أَبو بَكرٍ النَجّادِ في جِزْءِ التَراجُم عَنْ أَبي الدَرْداءِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قال رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّم: ((بيْنا أَنَا نائمٌ رَأَيْتُ عَمُودَ الإِسْلامِ احْتُمِلَ مِنْ تحتِ رَأْسي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهوبٌ بِهِ، فاتْبَعْتُهُ بَصَري، فَعُمِدَ بِهِ إلى الشّامِ، أَلاَ فإنَّ الإِيمانَ حينَ تَقَعُ الفِتَنُ بالشامِ)).
وأخرجه أحمد، والحاكم، وصححه بلفظ: ((إني رأيتُ عَمودَ الكِتابِ انْتُزِعَ مِنْ تحتِ وِسادَتي، فَنَظَرْتُ فإذا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إلى الشَّامِ، أَلاَ إِنَّ الإيمانَ إذا وَقَعَتِ الفِتَنُ بالشامِ)). صحيح كنوز السنة النبوية: (1/139). وأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبي ذَرٍّ الغفاري ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله علَيْهِ وسَلَّمَ: ((الشامُ أَرْضُ المحْشَرِ والمَنْشَرِ)). وأَخْرَجَه أيضاً أحمد بسندٍ صحيح.
وأخرج ابنُ أبي شَيبةَ عنْ أبي أَيوبٍ الأنْصاريِّ قال: لَيُهاجِرَنَّ الرَّعْدُ والبرْقُ والبرَكاتُ إلى الشام)). وأَخْرَجَ ابنُ عساكر، وأَحمد بسندٍ حسَنٍ عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَمَ ـ قال: ((اللّهمَّ بارِكْ لَنا في شامِنا ويَمَنِنا. قالوا: وفي نجدِنا. ـ وفي لفظ: وفي مشرقنا ـ قال: هناك الزلازل والفتن ومِنْ هُنَالِكَ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَلَهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الشَّرِّ)). مُسندُ الصَّحابَةِ في الكُتُبِ التِسْعَةَ: (14/90). /5642/. وأَخْرجَ ابنُ عساكر عن ابنِ عمرو ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: قال رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((الخيرُ عَشَرَةُ أَعْشارٍ، تِسْعَةٌ بالشَّامِ وواحدٌ في سائرِ البُلْدانِ، والشَرُّ عَشَرَةُ أعشارٍ واحدٌ بالشامِ وتِسْعَةٌ في سائرِ البُلْدان، وإذا فَسَدَ أَهْلُ الشامِ فلا خَيرَ فيكم)). وأخرجَ التِرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم: ((إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ، لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى مَنْصُورِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)). ورواه كذلك أحمد في مسنده، وابنُ حبَّانَ في صحيحِهِ. وهو حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قولُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} ونَفَذَتْ كَلِمَة اللهِ الحُسْنَى تَامةً، ف "تمَّت" أي مَضَتْ عَلَيْهم واسْتَمَرَّتْ، وهو مِنْ قولهم: مَضى على الأمْرِ إذا اسْتَمَرَّ، فتَمامُ الكَلِمَةِ تحقُّقُ وعدِها، شَبَّهَ تحَقُّقَها بالشَيْءِ إذا اسْتَوفى أَجْزاءَهُ، وتمامُ الكلمةِ بهذا المعنى ظُهورُ تَعَلُّقِها التَنْجيزي في الخارِجِ على نحوِ قَوْلِ مُوسى ـ عليهِ السلامُ: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} سورةُ المائدةِ، الآية: 21. والمُرادُ مِنَ الكَلِمَةِ وَعْدُهُ تَعالى لبني إسرائيلَ بالتمكين لهم والنَّصْرِ على فرعونَ وقومِهِ الذين استضعفوهم فاسْتَرقُّوهم وأَذَلُّوهم. ف "كلمةُ ربِّكَ الحُسْنى" هي صِفَةُ تَشريفٍ كما يُقالُ: "الأسماءُ الحُسْنى"، أيْ كَلِمَةُ رَبِّكَ المُنزَّهَةُ عَنِ الخُلْفِ، وهي ما كانَ وَعَدَهُم به مِنْ هَلاكِ عَدُوِّهم واستخلافِهم في الأَرْضِ بقولِهِ على لسانِ نبيِّهم ـ عليه السلامُ: {عَسَى رَبُّكُم أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُم وَيَسْتَخْلِفَكُم} سورة الأعراف، الآية: 129. وفي قولِه: "ربِّك" التِفاتٌ مِنَ التَكَلُّمِ إلى الخِطابِ لأنَّ ما قَبْلَهُ مِنَ القَصَصِ كانَ غيرَ مَعْلومٍ لَهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وأَمَّا كوْنُهُ ـ جَلَّ شأنُه ـ مُنجِزاً وعدَه ومجْرياً قضاهُ وقدَرَه فهو معلوم لَهُ ـ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ـ أو أَنَّ في هذا الالْتِفاتِ إشارةٌ لهُ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ بأنَّ كلِمَةَ رَبِّكَ في شأنِكَ ستتمُّ أيضاً. وسمّاها الحُسْنى لأنَّه وَعَدَهم بما يُحِبّونَ. ويمكنُ أنْ يكونَ المقصودُ بِكَلِمَةِ اللهِ الحُسْنى هو قولُه تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِنَ لَهُم فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} سورةُ القَصص، الآتين: 5 و 6.
وقيلَ: المُرادُ ب "كلمة ربِّكَ" عِلْمُهُ الأزَليُّ، والمعنى: مَضى واسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ ما كان مُقدَّراً لهم مِنْ إهْلاكِ عَدُوِّهم، وتوريثِهِمُ الأرْضَ، وقيلَ: أُريدَ بالكَلِمَةِ وعْدُهُ ـ سبحانَه ـ لهم بالجَنَّةِ، ولا يخفى أَنَّ السياقَ يأباه. و "الحسنى" تأنيثُ "الأَحْسَنِ" وهو صِفَةٌ للكَلِمَةِ، ووُصِفَتْ بِذلكَ لما فيها مِنَ الوَعْدِ بما يحبُّونَ ويَسْتَحْسِنون.
وقولُهُ: {بِمَا صَبَرُواْ} أيْ بصبرهم على طاعةِ رَبِّهم ـ سبحانَه، أَوْ بصبرِهم على أَذَى فِرْعون، أوِ المقصودُ كِلاهما معاً. قال القاضي أبو محمَّدٍ رَأَيْتُ للحسَنِ البَصْرِيِّ ـ رضي للهُ عنه ـ أنَّه احْتَجَّ بقولِهِ تَعالى: "وتمت كلمة ربك ..." إلى آخر الآية، على أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُخْرَجَ على مُلوكِ السُّوءِ، وإنَّما يَنْبَغِي أَنْ يُصْبَرَ عَلَيْهِمْ، فإنَّ اللهَ تَعالى يُدَمِّرُهم، ورَأَيتُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ قالَ: إذا قابَلَ النّاسُ البَلاءَ بمِثْلِهِ وَكَلَهُمُ اللهُ إليْهِ، وإذا قابَلوهُ بالصَبْرِ وانْتِظارِ الفَرَجِ أَتى اللهُ بالفَرَجِ، ورُوي هذا القول أَيْضاً عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ. وعَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ أَخْرَجَ كذلك ابْنُ المُنْذِرِ وغَيرُهُ أنَّه قال: لو أنَّ الناسَ إذا ابْتُلوا مِنْ قِبَلِ سُلْطانهم بِشَيْءٍ صَبروا ودَعَوا اللهَ تَعالى، لم يَلْبَثوا أَنْ يَرْفَعَ اللهُ تَعالى ذَلِكَ عَنْهُمْ، ولكِنَّهُم يَفْزَعون إلى السَيْفِ فَيُوكَلُونَ إلَيْهِ، ثمَّ تَلا هذه الآيَةَ، وفي روايةٍ أَخْرى عَنْهُ قال: ما أُوتِيَتْ بَنُو إسرائيلَ ما أُوتِيَتْ إلاَّ بِصَبرِهم، وما فَزِعَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ إلى السَيْفِ قَطُّ فجاءَتْ بخير.
قولُهُ: {وَدَمَّرْنَا} وَدَمَّرَ المَبَانِي، ويرفعون ويعلون من صروح عالية، وَخَرَّبَ المَزَارِعَ التِي كَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَدْ أَقَامُوهَا، من حدائقَ زاهرةٍ وأعناب زاهية، وَما اسْتَصْلَحُوهُ منها وَعَرَشُوهَ. وأَوْرَثَ أَرْضَهم ودِيارَهُم وأَمْوالَهم قوماً آخرينَ غَيرَهُم، واللهُ يَفعَلُ ما يَشاءُ، ويحكُمُ ما يُريدُ. والتدميرُ: التَخْريبُ الشديدُ، ودَمَّرَ الشَيْءَ جَعَلَهُ دامراً، مِنَ الدَمارِ بفتحِ الدالِ. ويُقالُ دَمَرَ القومُ (بفتحِ الميمِ) يَدْمُرون (بِضَمِّ الميمِ) دماراً، إذا هَلَكُوا جميعاً، فهم دامرون. والظاهرُ أنَّ إطلاقَ التَدميرِ على إهلاكِ المَصْنوعِ مجَازِيٌّ علاقتُه الإطلاقُ، لأنَّ الظاهرَ أَنَّ التدميرَ حقيقتُه إهلاكُ الإنْسانَ.
وقولُه: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} أي: ما شادَهُ فرعونُ مِنَ المَصانِعِ، وإسنادُ الصُنْعِ إليْهِ مجازٌ عَقْلِيٌّ، لأنَّه الآمرُ بالصُنْعِ، وأَمَّا إسنادُه إلى قومِ فِرْعونَ فهو على الحقيقةِ العَقْلِيَّةِ بالنِسْبَةِ إلى القومِ، لا بالنِسْبَةِ إلى كُلِّ فَرْدٍ على وَجْهِ التَغْليبِ. وقال ابنُ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: "ما كانوا يصنعون" يريدُ الصانِعَ.
وقولُه: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} يُنْشِئونَ مِنْ جنَّاتٍ ذاتِ العرائشِ. والعريشُ: ما يُرْفَعُ مِنْ دَوالي الكُرومِ، ويُطْلَقُ أَيْضاً على النخلاتِ العديدةِ تُرَبّى في أَصْلٍ واحدٍ، ولَعَلَّ جَنّاتِ القبْطِ كانَتْ كذلك كما تَشْهَدُ بِهِ بَعْضُ الصُوَرِ المَرْسومةِ على هَياكِلِهمْ نَقْشاً ودَهْناً. ويجوزُ أنْ يكونَ "يَعْرِشُونَ" بمعنى "يَرْفعون" أيْ يُشَيِّدون مِنَ البِناءِ مِثل الأهرامِ والهياكِلِ وهوَ المناسب لِفِعْلِ "دَمَّرْنَا"، فشبَّهَ البِناءَ المَرْفوعَ بالعَرْشِ. ويجوزُ أنْ يكونَ "يعرشون" اسْتِعارَةٌ لِقُوَّةِ المُلْكِ والدَوْلَةِ.
وبهُذه الآيةِ المباركةِ تنْتهي قِصَّةُ سيدنا موسى ـ عليه السَّلامُ ـ معَ فرْعَوْنَ ومَلائِهِ، فقد كانتِ العاقِبَةُ لَهُ ولمنْ آمّنَ معهُ والحمدُ لله. ومنْ هذه القصةِ نستخلصُ الآتي:
1- عندَ نُزولِ البلاءِ بالإنسانِ يظهَرُ ضعفُه، فيفزَعُ إلى الله تَعالى، فيدعوهُ ويَتضرَّعُ إليه، لكنَّه إذا استجاب الله دعاءه ورَفَع عنه ما نزلَ به من كربٍ وبلاءٍ، فإنَّه سرعان ما ينسى ما كان فيه وما حلَّ عليه، ويعودُ إلى عاداتِهِ، وما كان عليهِ من شِرْكٍ ومعاصٍ. إلاَّ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالحاً فإنَّه يعتبرُ مما مرَّ مِنْ شدَّةٍ ويكون ذلك بالنسبة له مناسبة لتجديد عهده مع الله، ويعلن توبته ورجوعه إلى ربِّه، ويَشْكُرُه على نَعمائه.
2- إنَّ سببَ البلاء في الدنيا، والعذابِ في الدنيا والآخرة، التكذيبُ بآياتِ اللهِ والإعراضُ عنها، والغفلةُ عن اللهِ ـ تبارك وتعالى.
3- بينت لنا مظاهرَ عظمةِ اللهِ وعظيمَ قُدَرَته، وصدقَ وعدِهِ، وعَظيمَ مِنَّتِه على خَلْقِه، وحُسْنَ تَدبيرِهِ ـ سبحانه وتعالى ـ فمَنْ صَبرَ على مُقاساة الذُّلِّ في اللهِ وَضَعَ اللهُ على رأسِهِ قَلَنْسُوَةَ العِرفانِ، فهو العزيزُ سُبحانَهُ، لا يُشْمِتُ بأوليائه أعداءهم، ولا يُضيعُ ـ مِنْ جميلِ عَهْدِهِ ـ جزاءَهم.
4 ـ إنَّ ما حلَّ ببني إسرائيلَ من ذلٍّ وعبوديَّةٍ واضطهادٍ، وتشرُّدٍ وعذابٍ دامَ فيهم أجيالاً إنَّما كانَ، بسبب غدرِهم بأخيهم يوسف حسداً له وحقداً عليه، لحبِّ أبيه له، وإنَّما كانَ حبُّ يعقوبَ ليوسفَ ـ عليهما السلامُ ـ لتفرُّسِهِ فيه، أو لبشارة اللهِ له بأنَّه سيكون من بعدِ وريثَ أنوارِ النبوَّة، لأنَّ الأنبياءَ ـ عليهِمُ السلامُ ـ إنَّما يحبُّونَ لله ويكرهونَ فيه، وهو مقدَّمٌ عندهم على ما يخصُّ طبيعتهم البشريَّةِ. واللهُ أعلم.
قولُهُ تَعالى: {وأَوْرَثْنَا} يَتَعَدَّى لاثْنَينِ لأنَّه قَبلَ الهمزَةِ كان مُتَعَدِّياً لواحدٍ نحو: وَرِثْتُ العِلْمَ، فاكْتَسَب بالهمزةِ مفعولاً آخرَ، فالمفعولُ الأَوَّلُ "القومَ" و "الذين" صلتُه وهو في محلِّ نَصْبٍ نعتاً لَهُ. وأمَّا المفعولُ الثاني: فالأَظْهَرُ فِيهِ أَنَّهُ "مَشَارِقَ". وعليه فقولُهُ: "التي بَارَكْنَا فِيهَا" نَعْتٌ لمشارِقِ ومَغَارِبِ.
وقولُهُ: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} منصوبٌ على الظَرْفِ ب "يُسْتَضْعفون". والتقديرَ: يُسْتَضْعفونَ في مَشارقِ الأرضِ ومَغارِبها، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وَصَلَ الفِعْلُ فنصَبَ بِنفسِه.
قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} الباء حرف جرٍّ للسببيَّةِ، و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، أي: بِسَبَبِ صَبرِهم، ومُتَعَلَّقُ الصَبرِ محذوفٌ أي: على أَذَى فِرْعَوْنَ وقومِه، والجارُّ متعلِّقٌ ب "تَمَّت".
قولُه: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} يجوزُ في هذا الآيةِ أَوْجُهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ "فرعون" اسمَ كان، و "يصنع" خبرٌ مُقدَّمٌ، والجُملةُ الكونِيَّةُ صِلةُ "ما"، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: ودَمَّرْنا الذي كان فرعونُ يَصْنَعُه.
ويمكن أن تكون "كان" زائدةً، و "ما" مَصْدَرِيَّة، والتقدير: ودمَّرْنا ما يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ، أيْ: صُنْعَهُ. ويَنْبَغي أَنْ يجيءَ هذا الوجهُ أَيْضاً وإنْ كانتْ "ما" موصولةً اسميَّةً على أَنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُه: ودمَّرْنا الذي يَصْنَعُهُ فِرعَونُ. أو أَنَّ "ما" مَصدريَّةٌ أيضاً، و "كان" ليست زائدةً بل ناقصةٌ، واسمُها ضميرُ الأمرِ والشَأْنِ، والجملةُ مِنْ قولِهِ "يصنع فرعون" خبرُ كان فهي مُفسِّرةٌ للضمير. "وقيل: "كان" ليست زائدةً، ولكن "كان" الناقصة لا يُفصل بها بين "ما" وبين صِلَتِها، وقد ذكرْنا ذلك في قولِه: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} سورة البَقرة، الآية: 10. وعلى هذا القول تحتاجُ "كان" إلى اسم. ويَضْعُفُ أنْ يَكونَ اسمُها ضميرَ الشأنِ؛ لأنَّ الجملةَ التي بَعدَها صِلَةُ "ما" فلا تَصْلُح للتَفسيرِ، فلا يحصُل بها الإِيضاحُ، وتمامُ الاسْمِ والمُفَسِّرِ يجِبُ أنْ يَكونَ مُسْتَقِلاً، فتَدعو الحاجةُ إلى أَنْ تَجْعلَ "فرعون" اسْمَ "كان" وفي "يصنع" ضميرٌ يَعودُ عليه.
قرأ العامَّةُ: {كلمتُ ربِّكَ} بإفرادِ "كلمت"، وقرأَ الحسن وعاصمٌ في روايةٍ له: {كلمات} ورُويَتْ عن أبي عَمْرٍو كذلك بالجَمْعِ لأنها مَواعيدُ.
وقرأ ابْنُ كَثيرٍ، ونافع، وأبو عَمْرو، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وحَفْصٌ عنْ عاصِمٍ، بِكَسْرِ الراءِ، وقرأ الباقون: ابنُ عباسٍ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ ـ في روايةٍ أخرى عنه، والحَسَنُ، وأبو رجاء، ورجاء، ومجاهد، بضَمِّها، وكذلكَ في سُورةِ النَّحلِ، وهما لُغتانِ فصيحتان لكنَّ الكسرَ أفصحُ. وقرأَ إبراهيمُ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ: "يُعَرَّشون" و "يُعَكِّفون" بضمِّ الياءِ فيهِما وفَتْحِ العينِ وتشديدِ الراءِ والكافِ وكسرِهما. وقَرئَ في الشَواذِّ: "يَغْرسون" مِنْ غَرْسِ الأَشجارِ.