فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ
(136)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ} بعد أنْ أخذهم اللهُ ـ تعالى ـ بالعِقابِ في ذواتهم، وفي مقوِّماتِ حياتهم، وفي مُعكِّراتِ صَفْوِهم، ولم يتوبوا إلى الله ويرجعوا عن شركهم، إذاً لم يَبْقَ إلاَّ أَنْ يُهْلَكهم؛ ولذلك جاءَ الأَمْرُ بإغْراقهم، لا عن جبروتِ قُدْرَةٍ، بَلْ عَنْ عَدالةِ تَقديرٍ؛ فهم كذبوا بالآياتِ جميعِها وأَقامُوا على كُفْرِهم، فحلَّتْ عليهم نقمةُ ربِّهم حينَ حَلَّ الأَجَلُ المحدَّدُ لإهْلاكهم، والانْتِقامُ هو: سَلْبُ النِعْمَةِ بالعذابِ، فبَعْدَ أَنِ ابْتَلاَهُمُ اللهُ بِالآيَاتِ الوَاحِدَةِ بَعْدَ الأُخْرَى، وَبَعْدَ أَنْ نَكَثُوا بِوُعُودِهِمْ المَرَّةَ تِلْوَ المَرَّةِ، انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ بِأَنْ أَغْرَقَهُمْ في اليمِّ.
وقد أوجز الحقُّ هنا ولم يأتِ بتفاصيلِ قِصَّةِ الإِغْراقِ؛ لأنَّ كلَّ آيةٍ في القرآنِ تُعالجُ مَوْقِفاً، فالقِصَّةُ تأتي بإجمالٍ في مَوْضِعٍ وبإطْنابٍ في آخر، وهنا فقد أتي موقفُ الإِغراقِ بإجمالٍ فقال: "فانْتقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ".
وقولُه: {فِي الْيَمِّ} أي: فِي البَحْرِ، الذِي فَرَقَهُ مُوسَى بِضَرْبَةٍ مِنْ عَصَاهُ، فَتَجَاوَزَهُ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إلى الطَّرْفِ الآخَرِ مِنْهُ، ثُمَّ وَرَدَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمِيعُهُم دَاخِلَهُ، أَطْبَقَ عَلَيْهِم المَوْجُ فَغَرِقُوا جَمِيعاً. والمشهورُ أًنَّهُ عَربيٌّ. قال ذُو الرِّمَّةِ:
داوِيَّةٌ ودُجَى ليلٍ كأنهما ................... يَمٌّ تَراطَنَ في حافاتِهِ الرُّومُ
وليس بشيءٍ قولُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: "إنَّه البَحْرُ بالسُّرْيانيَّة". أو ما قيل: هي عِبرانيَّة، لما سبقَ أن بيّنا من أن القرآنَ كلامَ اللهِ تبارك وتعالى وكلامُ الله قديم وليس بحادث، وأنّ العربية هي أساسُ كلِّ اللغات لأنَّ آدمَ ـ عليه السلامُ ـ بها تكلم، ثم إنّ كان اختلافُ اللغاتِ بعد خلق الذرِّيَّةِ، فقد قالَ اللهُ تبارك وتعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} الآية: 22، فاخْتِلافَ الألسنةِ والأَلْوانِ من صفاةِ البشرِ والصفةُ لا تكونُ إلاَّ بعد وجود الموصوفِ لأنَّ الصفةَ لا تقوم إلا بموصوف. وبما أنّ آدم هو أقدم البشر لأنَّه أَبوهم ووالدُهم، إذاً فإنَّ لُغَتَه التي تكلم بها أقدم اللُّغاتِ وأَساسُها والثابت ـ كما تقدم ـ بيانُه أَنَّه تكلم العربية، فأنّى يسوغ بعد ذلك لمدّعٍ أنْ يدعي بأنَّ في القرآنِ مفرداتٌ من أصل غير عربي؟. والمشهورُ أَنَ "اليم" لا يِتَقَيَّدُ بِبَحْرٍ خاصٍّ. وقيل: "اَليَمّ" هو البحر الذي لا يُدرَكُ قَعْرُهُ.
أخرج ابْنُ أَبي حاتم مِنْ طُرُقٍ عَنِ كلٍّ من السُدِّيِّ وابْنِ عَباسٍ ـ رضي الله عنهم ـ قولَهما: "اليَمُّ" البحرُ. وقيلَ: "اليمُّ" هو لُجَّةُ البَحْرِ ومُعْظَمُ مائهِ، واشْتِقاقُهُ مِنَ التَيَمُّمِ، لأنَّ المُسْتَنْفِعين بِهِ يَقْصُدونَه. وقالَ الهرَوِيُّ: واليَمُّ: البحرُ الذي يُقالُ لَه إِسافٌ، وفيهِ غَرِقَ فِرْعَوْنُ، وليس بشيءٍ لِقولِهِ تَعالى في سورة القصص: {فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ} الآية: 7. والمُرادُ بِهِ نِيلُ مِصْرَ، وهوَ غَيرُ الذي غَرِقَ فِيهِ فِرْعونُ.
قولُه: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: غافلين عما تضمَّنَتْهُ الآياتُ مِنَ النجاةِ والهُدى فقد كَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا لا يَتَدَبَّرُونَهَا.
وَقَدْ فَعَلَ اللهُ بِهِمْ ذَلِكَ لأنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَتَغَافَلُوا عَنْها، أو كانوا قبلَ حُلُولِ النّقمةِ التي حَلَّتْ بهم غافلين عنها.
والغفلةُ ذهولُ الذِهْنِ عَنْ تَذَكُّر شيءٍ، والمرادُ هنا هو التَغافُلُ عَنْ عَمْدٍ، وهو الإعراضُ عَنِ التَفَكُّرِ في الآيات، والنظرِ في دَلالَتِها على صِدْقِ مُوسى، والإعراضُ: صَرْفُ العَقْلِ عَنِ الاشْتِغالِ بشيءٍ ما، فإطلاقُ الغفلةِ هنا مجازٌ، وفيه تَعريضٌ بمشركي العَرَبِ في إعْراضِهم عَنِ التَفَكُّرِ في صِدْقِ الرسولِ محمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، ودَلالةِ مُعْجِزَةِ القرآن، فلذلك أُعيدَ التَصريحُ بِتَسَبُّبِ إعْراضِهم هذا في غَرقهم، مَعَ اسْتِفادَتِهِ مِنْ التَفريعِ بالفاءِ في قولِهِ: "فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ" تَنْبيهاً للسَّامعين وتحذيراً لهم وفيه انتقالٌ مِنَ القِصَّةِ إلى العبرةِ، فهو مُفَرَّعٌ عليها تَفْريعَ النَتيجَةِ على المُقدَّماتِ، والفَذْلَكَةِ على القِصَّةِ، فإنَّه يَعُدُّ أَنَّ وَصْفَ عِنادِ فِرْعونَ ومَلَئِهِ، وتكذيبِهم رسالةَ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ واقْتراحِهم عليه أنْ يَجيءَ بآية، ومشاهدتِهم آيةَ انْقلابِ العَصا ثُعْباناً، وتَغيُّرِ لَونِ يَدِهِ، ورَمْيِهم موسى بالسحر، وسوءِ المَقْصِدِ، ومعارضةِ السَحَرَةِ مُعجزةَ موسى، وتغلبِ موسى عليهم، وكيف أَخَذَ اللهُ آلَ فِرْعونَ بمصائبَ جَعَلَها آياتٍ على صِدْقِ مُوسى، وكيفَ كابَروا وعاندوا، حتى أُلجِئوا إلى أنْ وَعَدوا مُوسى بالإيمانِ وتَسريحِ بَني إسرائيلَ ليذهبوا معه، وعاهدوهُ على ذلك، فلمَّا كَشَفَ اللهُ عنهم الرِّجْزَ نَكَثُوا، فأَخْبرَ اللهُ بأنَّ ذلك تَرَتَّبَ عليْه اسْتِئْصالُ شأفةِ المُسْتَكْبرين المعاندينَ، وتحريرُ المؤمنين الذين كانوا مُسْتَضْعَفين، وذلك محَلُّ العِبرة.
قولُهُ تعالى: {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمِّ} الفاءُ الأولى سَبَبِيَّةٌ، أيْ بِسَبَبِ نُكْثِهم بعهودِهم التي كانوا يقطعونها على أنفسهم في كلِّ مرَّةٍ كان يَنْزِل بهم بلاءٌ مِنَ اللهِ، وكانوا يَرْجونَ نَبيَ اللهِ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ أنْ يَدْعُوَا اللهَ ليكشِفَ البلاءَ عنهم، وكانوا يَعِدونَه بأنْ يُؤمِنوا بالله ورسالتِه إليهم، إنْ هو كشفَ العذاب عنهم، ثم يَعودون إلى كُفرِهِم حين يَكْشِفُ اللهُ عنهمُ العذابَ، ويَنْكُثونَ عهودَهم. وإذا أُرَيدَ بالانْتِقامِ نَفْسُ الإِغراقِ، فالفاءُ الثانيةُ مُفَسِّرةٌ عِندَ مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك، وإلاَّ كان التقدير: فأرَدْنا الانتقامَ.
قولُهُ: {فِي اليَمِّ} جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ ب "أَغْرَقْناهم". وهو ما كان مِلحاً زُعافاً، ويُطْلَقُ أيضاً على النهرِ الكَبيرِ العَذْبِ الماءِ، ولا يجمع "اليَمّ"، لا جمعَ تكسيرٍ ولا جمعَ سلامةٍ.
قوله: {بأنهم} الباءُ للسببية، أيْ: أغْرَقْناهم بسببِ تَكذيبِهم بآياتنا، وكونِهم غافلين عن آياتنا. فالظاهر أنَّ الضميرُ في "عنها" يعودُ على الآيات. وقيلَ: يجوزُ أَنْ يَعودَ على النِقْمَةِ المدلولِ عليها ب "انتقمنا". ويُعْزى هذا لابْنِ عبَّاسٍ، وكأنَّ القائلَ بذلك تَخيَّل أنَّ الغفلةَ عنِ الآياتِ عُذْرٌ لهم مِنْ حيثُ إنَّ الغَفلةَ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الإِنسان.
وقال الجمهور: إنهم تعاطَوا أسبابَ الغفلة فُذُمُّوا عليها كما يُذَمُّ الناسِي على نِسْيانِهِ لِتَعاطيهِ أَسبابَه.
وقولُهُ: {وكانوا عنها غافلين} الضميرُ المجرورُ في "عنها" يعود للآيات، والغفلةُ هنا مجازٌ عَنْ عَدَمِ الذِكْرِ والمُبالاةِ بها، وتَفَكُّرِهم فيها بحيثُ صاروا كالغافلين عَنْها بالكُلِّيَّةِ، وإلاَّ فالمُكَذِّبُ بأمرٍ لا يَكونُ غافِلاً عنه للتنافي بين الأمرين، وفي ذلك إشارةٌ إلى أَنَّ مَنْ شاهَدَ مِثل هذه الآياتِ لا يَنْبَغي لَه أَنْ يُكَذِّبَ بها مَعَ عِلْمِه بها. وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنَّ الضَميرَ للنّقمةِ، وأُريدَ بها الغَرَقُ ـ كما يَدُلُّ عليْهِ ما قَبْلَهُ، وعَليه فيجوزُ في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ حاليَّةً بتقدير "قد"، ولا مجازَ في الغَفْلَةِ حينئذٍ، والأَوَّلُ أَوْلى كما لا يخفى.