قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
(115)
قولُه ـ تعالى جَدُّه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} بعد أنْ وعدَ فرعونُ السَّحَرَةَ بالعَطَاءَ الجَزِيلَ، وبأن يكونوا من المقرَّبين عنده، وبأن ينعم عليهم بمجالسته فيكونون أوَّلَ من يدخل عليه، وآخر من يخرُج من مجلِسِهِ، فيرفعَ من شأنِهم بين الناس، قَالُوا لِمُوسَى مخَيرين: إِمَّا أَنْ تبدأ أنتَ فتُلْقِي ما معك من سِحْرٍ أَمَامَ الجَمِيعِ، وَإِمَّا أَنْ نَبْدَأَ نَحْنُ بِإِلْقَاءِ ما عندنا. وفي قولهم هذا تأدُّب مع موسى ـ عليه السلامُ ـ ولذلك قال المفسِّرون: لقد تأدّبَ السحرةُ فمنَّ اللهُ عليهم بالإيمان بِسَبَبِ أَدبهم معَ رسولِهِ. وتخييرهم هذا له وجهان، فهو مراعاةٌ للأدبِ منْ جهةٍ، وإظهارٌ للجَلادَةِ من جهةٍ ثانيةٍ، وكأنَّهم يقصدون بأنَّ حالهم لا يختلفُ بالتقديم والتأخيرِ، فهم متمكنونُ من أمرهم، واثقون من غلبتهم وفوزهم، ولكنَّ رغبتَهم كانتْ التقديمَ، بدليلِ تغييرِهم النَظْمَ إلى ما هو أبلغُ، فتعريفِ الخَبرَ "المُلقين"، وتوسيطُ ضميرِ الفَصْلِ "نحنُ"، وتأكيدِ الضميرِ المُستترِ في "نكون" بالضميرِ المنفصِلِ "نحن".
قوله تعالى: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ} إمَّا: هنا للتخيير، ويُطْلق عليها حرفُ عطف مجازاً. قال الفرّاءُ والكسائيُّ: في باب "أمَّا" و"إمَّا" إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحةٌ، وإذا كنتَ مشتَرِطاً أو شاكّاً أوْ مُخَيِّراً فهي مَكْسورةٌ، فتقولُ فيِ المفتوحةِ: أمَّا اللهُ فاعْبُدوهُ، وأَمَّا الخَمرُ فلا تَشْرَبوها، وأَمَّا زَيْدٌ فقد خَرَج. وتقولُ إذا كنت مشترطاً: إمَّا تُعْطِينْ زيْداً فإنَّه يَشْكُرُكَ، قالَ الله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحربِ فَشَرّدْ} سورةُ الأنفالِ، الآية: 57. وتقولُ في الشَكِّ لا أَدري مَنْ قامَ إمّا زَيْدٌ وإمَّا عَمْرٌو، وتقولُ في التَخييرِ: لي بالكُوفَةِ دارٌ فإمَّا أَنْ أَسْكُنَها، وإمَّا أنْ أَبيعَها. والفرقُ بين، أَمَّا إذا أَتَتْ للشَكِّ وبين "أو" أَنَّكَ إذا قلتَ جاءَ زيدٌ أوْ عَمْرٌو، فقد يجوزُ أنْ تَكونَ قد بَنَيْتَ كلامَكَ على اليقين، ثم أَدْرَكْكَ الشَكَّ فقلت: أوْ عَمْرو، فَصارَ الشَكُّ فيهِما جميعاً، فأوَّلُ الاسمين في "أو" يجوزُ أنْ يَكونَ بحيثُ يَحْسُنُ السكوتُ عليه، ثمَّ يَعْرِضُ الشَكُّ فتَسْتَدْرِكُ بالاسْمِ الآخَرِ، أَلا تَرى أَنَّك تَقولُ: قامَ أَخوكَ وتَسكُتُ، ثمَّ تقولُ إذا شككتَ: أو أَبوك، لكنك إذا استعملتَ إمَّا فإنما تَبْني كلامَكَ مِنْ أَوَّلِ الأمرِ على الشَكِّ، ولا يجوزُ أنْ تقولَ: ضَرَبْتُ إمَّا عبدَ اللهِ وتَسْكُتُ، ثمَّ بعد ذلك تقولُ وإمّا خالداً.
ودُخولُ "أَنْ" هنا في قوله: "إِمَّا أَن تُلْقِىَ" فأدخل: "أَن" في "إِمَّا" لأنَّها في مَوْضِعِ أَمْرٍ بالاختيارِ، وهي في موضع نَصْبٍ، كقولِ القائلِ: خُذْ هذا أوْ هذا، فكأنهم قالوا اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أوْ نُلْقيَ. أمَّا قولُهِ في سورة التوبة: {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} الآية: 106. فليسَ فيهِ أَمْرٌ بالتَخيير. إذْ لا يَصلُح الأمرُ فيه، فلذلك لم يكن فيهِ "أن" واللهُ أعلم.
وفي محلِّ "أَنْ تلقي وإما أَنْ نكون" من الإعراب ثمَّةَ أوجُهٌ ثلاثةٌ: أوَّلُها النَصْبُ بفعلٍ مُقَدَّرٍ، أي: اخْتَرْ إمَّا إِلقاءكَ وإمَّا إلْقاءَنا، وهو كقولِ الأعْشى في معلَّقتِهِ الشهيرة:
قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا ........... أوْ تنزلونَ، فإنّا معشرٌ نزلُ
ثانيها: الرَّفعُ على خَبَرِ ابْتِداءٍ مُضْمرٍ تقديرُه: أَمْرُك إمَّا إلقاؤك وإمَّا إلقاؤُنا.
وثالثُها: أنْ يَكونَ مبتدأً خبرُهُ محذوفٌ تَقديرُهُ: إمَّا إلقاؤك مبدوءٌ بِه، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به.
وإنَّما أتى هنا ب "أَنْ" المصدريَّةِ قبلَ الفِعلِ لأنَّ "أَنْ" وما بعدَها هنا: إمَّا مفعولٌ وإمَّا مبتدأٌ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً، بل لا بد أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسْم، بخِلافِ قولِهِ تعالى في سورة التوبة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ} الآية: 106. فإنَّ الفعلَ بعد "إمَّا" هناك: إمَّا خبرٌ ثانٍ ل آخرون، وإمَّا صفةٌ له، والخبرُ والصفةُ يقعان جملةً فعليةً مِنْ غير حرفٍ مَصْدَرِيٍّ.