قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُهُ: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ما زَالَ سياقُ الآياتِ الكريمة يتحدَّث عن تفاصيلِ قصَّةِ موسى مَعَ فِرْعونَ، فبَعْدَ أنْ قدَّمَ مُوسى ما طلبه منه فرعون من الآيةِ، فأراه العصا التي تحوَّلت بقدرة الله تعالى إلى ثعبان عظيمٍ صعقَ أنفسهم هلَعاً وخوفاً، واليَدَ التي تحوَّلت إلى مصباحٍ منيرٍ كأنها الشمسُ في رابعة النهار، أو كأنها فلقةُ القمر، وشاهدُ فرعونُ وملؤه هاتين الآيتين العظيمتين، وقالوا: {إنْ هذا لَساحِرٌ عَليم} فاتهموا موسى ـ عليه السلامُ ـ بالسياسةِ، والطمع في كرسيِّ الحكم، وأنَّه يريد إخراجَهم مِنْ بِلادِهم ليَستولي عليها هو وقومُه مِنْ بَني إسرائيل، وسألهم فرعون الرأيَ والمشورة قائلاً: {فماذا تأمُرون}؟ وبمَ به عليَّ تُشيرون؟. وبَعدْ َأَنْ قَلَّبُوا أَوْجُهَ الرَّأْيِ، أجابوهُ قائلين: "أرجه وأخاه" أي أوقفهما عندك، وأَخِّرِ البَتَّ فِي أَمْرِهِما، وإجابتهما إلى ما يطلبان منك، وقد سَبَقَ أن وعده أن يؤمن برسالته من ربه إذا ما كفَّ عنه أذى عصاه حين أصبحت ثعباناً يهم بابتلاعه.
وقيل إنَّ المقصود ب "أرجه" احبسْهُ، وهذا الرأي مدعومٌ بقولِهِ تعالى في سورة الشعراء: {لأجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين}، الآية: 29. وهو بعيدٌ لأنَّه لم يثبت ذلك تاريخياً ثم إنَّ فرعون وملأه كانوا حينها في حالةٍ منَ الخوفِ والهلع مما رأوا مِنْ مُعجِزَةِ مُوسى، ما يجعلهم بعيدين عن التفكير بمثل هذا الأمر أو الجرأة عليه، أمّا قولُه: {لأجعلنك ..} فقد كان قبل أن يرى ما رأى. ثمِّ إنَّ الأرجاء في كلام العربِ يعني التأخير كما سبق بيانُه.
و"أرجه" هي إمَّا بالهمزِ من أَرْجَأَ يرجئُ إرجاءً، والمعنى أَخِّرْهُ، كما جاء في سورة في الآية 106. من سورة التوبة بحق الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إحدى غزواته فقال {وآخرون مُرْجَوْنَ ..} أي مؤخَّرون للحكم عليهم. وقد قرِئَ "أرجِهْ" بدون همْزٍ للتَسْهيل، وإمّا أن يكون مِنَ الرَّجاءِ، أيْ: أطْمِعْهُ وعِدْهُ بما يجعلُه يَنْتظر.
وقد طلبوا الإرجاءَ بعد طلب فرعون مشورتهم كما تقدمَ بقوله {فماذا تأمرون} وكأنَّه يريد منهم رأياً مستعجلاً لكنَّ المسألةَ أَخْطَر من أن يُتَصَرَّف فيها تصرفاً سريعاً، بلْ تحتاج إلى وقت كافٍ ومتَّسع للتفكر والتدبير والتدبّرِ. ولأنهم اتهموا موسى بالسحر، فإنَّ الأمر يتطلب مشاركة أهل الاختصاص في هذا المجال، فيرى الجميع كيفيّة مواجهة هذه المشكلة، فهي مسألة ليست هينة لأن فيها نقض ألوهية فرعون، وفي هذا دك لسلطان الفرعون وإنهاءٌ لانتفاعِهم هُم مِن هَذا السلطان. وقد كان السحرُ منتشراً بكثرة في المدائن آنذاك، والسحرةُ المهرةُ كثرٌ ولذلك قالوا: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}.
قولُهُ: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} وَأَرْسِلْ فِي مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ "حاشرين" أي أرسلْ رجالاً يَجْمَعُون لَكَ السَّحَرَةَ الخبراءَ في فَنِّ السِّحْرِ للمُناظَرَةِ، وَكَانَ السَّحَرَةُ كَثيرينَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ.
قيل: المقصود بالمدائن هي مدائنُ صعيدِ مصرَ وكان رؤساءُ السحرةِ ومَهَرتُهم بأقصى مدائنِ الصعيد. قال ابنُ عبَّاسٍ، وابْنُ إسحاقَ والسُّدِّيُّ: قال فرعون لمَّا رأى مِنْ سُلطانِ اللهِ في العَصا ما رَأَى: إنَّا لا نُغالِبُ إلاَّ بمن هو أعلمُ مِنْه، فاتخذَ غِلماناً مِنْ بني إسرائيلَ فبعثَ بهم إلى قريةٍ يُقالُ لها الفرحاءُ يُعلمونهم السِّحْرَ، فعلموهم سِحْراً كَثيراً، وواعَدَ فِرْعونُ مُوسى مَوعِداً فبَعثَ إلى السَحَرَةِ فجاءوا ومُعَلِّمُهم معهم، فقال لَهُ: ماذا صَنَعْتَ؟ قال: قدْ علَّمْتُهم سِحْراً لا يُطيقُه سَحَرَةُ أَهْلِ الأَرْضِ، إلاَّ أَنْ يَكونَ أَمْراً مِنَ السّماءِ، فإنَّه لا طاقةَ لهم بِهِ، ثم بَعَثَ فِرْعونُ في مملكتِهِ، فلم يَتْرُك في سُلْطانِهِ ساحراً إلاَّ أَتى به.
واختلفوا في عددهم، فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، وهما رأسا القومِ، وسبعونَ مِنْ بَني إسْرائيل. وعن ابن عباسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أنهم كانوا سَبعينَ ساحراً أَخذوا السِحْرَ مِنْ رَجلين من أهلِ نينَوى مدينةِ يونسَ ـ عليه السلام ـ بالمَوْصِل من العراق. وقال الكَلْبِيُّ: كان الذين يُعلمونهم رَجلين مجوسيين من أهلِ نينوي، وكانوا سَبعينَ غيرَ رئيسيهم. وقيل في عددهم غير ذلك والله أعلم.
قوله تعالى: {أَرْجِهْ} في هذه الكلمة هنا، وفي سورة الشعراء سِتُّ قراءاتٍ في المَشهورِ المُتَواتِرِ، ثلاثٌ مع الهمزِ وثلاثٌ مَعَ عَدَمِه.
فأمَّا الثلاث التي مع الهمز فأوّلُها قراءةُ ابْنِ كَثيرٍ، وهشامٌ عَنِ ابْنِ عامرٍ: أَرْجِئْهو بهمزةٍ ساكنة وهاء متصلة بواو. وثانيها قراءة أبي عمرو: أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلاَّ أنَّه لم يَصِلْها بواو. الثالثة: قراءةُ ابْنِ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: أَرْجِئْهِ بهمزةٍ ساكنةٍ وهاءٍ مكسورَةِ مِنْ غيرِ صِلَةٍ.
وأَمَّا الثلاثُ التي مَعَ غير الهمز فأوَّلها قراءةُ عاصمٍ وحمزةَ: أَرْجِهْ بكسرِ الجيمِ وسُكونِ الهاءِ وَصْلاً وَوَقْفاً. ثانيها قراءة الكسائي: أَرْجِهي بهاءٍ مُتَّصِلَةٍ بياءٍ. وثالثُها: قراءةُ قالون بهاءٍ مَكْسورةٍ دونَ ياءٍ.
فأمَّا ضمُّ الهاء وكسرُها فقد عُرِف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمُه فلُغتان مشهورتان، يُقالُ: أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قُرِئ قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ} الأحزاب: 51. بالهمزِ وعَدَمِه. وهذا كقولهم: توضَّأْتُ وتوضَّيْتُ. وهَلْ هما مادَّتان أَصْلِيَّتان أَمِ المبدلُ فَرْعُ الهمز؟ احتمالان.
وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة ابنِ ذَكوان، فقال الفارسيُّ: ضمُّ الهاءِ مع الهمزِ لا يجوزُ غيرُه، وروايةُ ابنِ ذَكوان عن ابنِ عامرٍ غَلَطٌ. وقال ابنُ مجاهد: وهذا لا يجوز، لأنَّ الهاءَ لا تُكْسَرُ إلاَّ بعدَ كَسْرةٍ أَوْ ياءٍ ساكنةٍ. وقالَ الحُوفيُّ: ومِنَ القرَّاءِ مَنْ يَكْسرُ مَعَ الهمزِ وليس بجيِّدٍ. وقال أبو البقاء: ويُقْرأُ بكسرِ الهاءِ مَعَ الهمزِ وهو ضعيفٌ، لأنَّ الهمزةَ حرفٌ صَحيحٌ ساكنٌ فليسَ قبلَ الهاءِ ما يَقتَضي الكسرَ.
وقد اعتذر الناسُ عن هذه القراءة على سبيلِ التَنازُلِ بوَجْهَين: أَحَدُهما: أنَّ الهمزةَ ساكنةٌ والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصينٍ، ولَهُ شَواهدُ مذكورةٌ في موضعها، فكأنَّ الهاءَ وَلِيَتِ الجيمَ المكسورةَ فلِذلك كُسِرت. الثاني: أَنَّ الهمزةَ كثيراً ما يَطْرأُ عليها التغييرُ، وهي هنا في مَعْرِضِ أَنْ تُبْدَلَ ياءً ساكنةً لِسُكونِها بعدَ كَسْرةٍ فكأنها وَلِيَتْ ياءً ساكنةً فلِذلك كُسِرَتْ.
وقد اعتَرضَ أَبو شامةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أَوْجُهٍ. الأوَّلُ: أنَّ الهمزَ معتدٌّ به حاجزاً بإجماعٍ في {أَنبِئْهُمْ} سورةُ البقرة، الآية: 33. و {نَبِّئْهُمْ} سورة القمر، الآية: 28، والحكمُ واحدٌ في ضمير الجمعِ والمفردِ فيما يرجع إلى الكسر والضمِّ. الثاني: أنَّه كان يلزمُهُ صلةُ الهاء إذ هي في حكمٍ كأنها قد وَلِيَتِ الجيم. الثالث: أنَّ الهمزَ لو قُلِبَ ياءً لكان الوجهُ المختارُ ضمُّ الهاءِ مَعَ صَريحِ الياءِ نَظراً إلى أنَّ أصلَها همزة، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاءَ مع صريح الهمزة.