فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
(107)
قولُهُ ـ تباركتْ آياتُه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ أَمَامَ فِرْعَونَ فَتَحَوَّلَتْ إلَى ثُعْبَانٍ حيٍّ حقيقيٍّ ظَاهِرٍ لِلْعَيَانِ، لا شكَّ في أمره، يَسْعَى ويَتَنَقَّلُ، ما بين لحيَيْهِ ما بين السَّقْفِ إلى الأرض.
والثُّعْبان هو ذَكَر الحَيَّاتِ العظيم. واشتقاقهُ مِنْ ثَعَبْتُ المكانَ أيْ: فجَّرتُه بالماءِ، شُبِّه في انْسِيابِهِ بانْسِيابِ الماءِ، يُقالُ: ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانثعبَ. ومنْه مَثْعَبُ المطر. وفي الحديث الشريف: ((جاءَ يومَ القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دماً)). وقد وَصَفَها هنا بكونها ثُعباناً وهو العظيمُ الهائلُ الخَلْق، وقال في سورة النمل: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} الآية: 10. والجانُّ مِنَ الحيَّاتِ الخفيفُ الضئيلُ الخَلْقِ، وهذا يعني أنَّه جَمْعٌ لها بين الشيئين: أيْ كِبَرِ الجُثَّةِ كالثُعبانِ، وخفَّةِ الحَرَكَةِ وسُرعَةِ الزحفِ كالجانِّ. أو أنها في ابتداءِ أمرِها تكون كالجانِّ، ثم تتعاظمُ، ويتزايدُ خَلْقُها إلى أنْ تَصيرَ ثعباناً. أو أنها ثعبانٌ في عِظَمِ خلقِها، وجانٌّ في خفَّتِها وسُرْعَةِ حَرَكَتِها.
أخرج ابن أبي حاتم عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: لقد دخل موسى على فرعون فقال: إنَّ إلهي أرسلني إليك. فقال للقوم حولَه: ما علمتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري خُذوه. قال إني قد جئتُك بآية قال: {فائت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه} فصارت ثعباناً ما بين لحيَيْهِ ما بين السقفِ إلى الأرض، وأَدْخَلَ يَدَهُ في جَيْبِهِ فأَخْرَجَها مثلَ البرقِ تَلتَمِعُ الأبصار، فخرّوا على وجوهِهم، وأَخَذَ موسى عَصاهُ، ثمَّ خرجَ ليسَ أحَدٌ مِنَ الناسِ إلاَّ يَفِرُّ منه، فلمَّا أَفاقَ وذَهَبَ عن فِرْعونَ الرَّوعُ قال للمَلأِ حولَه: ماذا تَأمُرون؟ قالوا: أَرْجِئْهُ وأَخاه لا تأتِنا بِهِ ولا يَقْرَبْنا، وأَرْسِلْ في المدائن حاشرين، وكانَتِ السَّحَرَةُ يخشونَ مِنْ فرعون، فلما أَسْرَعَ إليهم قالوا: قد احتاج إليكم إلهُكم قال: إنَّ هذا فعل كذا وكذا. قالوا: إنَّ هذا ساحر يَسْحَرُ، أئنَّ لنا لأَجْراً إنْ كنَّا نحنُ الغالبين؟ قال: ساحرٌ يَسْحَرُ الناسَ ولا يَسْحَرُ الساحرُ الساحرَ؟ قال: نعم وإنَّكم إذاً لمنَ المُقَرَّبين.
وأَخرجَ ابْنُ المنذرِ وابْنُ أبي حاتمٍ عن الحَكَمِ قال: كانت عَصا مُوسى مِنْ عَوْسَجٍ، ولم يُسَخَّرِ العَوْسَجُ لأَحَدٍ بَعدَهُ.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباسٍ في قولِه: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: الحيَّةُ الذَكَرُ. وأخرج أبو الشيخ عن الكلبي قال : حية صفراء ذكر.
ورُوي عن عليٍّ ـ كرَّمَ الله تعالى وجهَهُ ـ أنها كانت من لَوْز. وأخرج عبد بن حميد. وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها عصا آدم ـ عليه السلامُ ـ أعطاها لموسى مَلَكٌ حين توجَّه إلى مَدْيَنَ فكانَتْ تُضيءُ لَهُ باللّيل، ويَضْرِبُ بها الأرضَ بالنّهارِ فيَخْرُجُ لَه رِزْقُهُ، ويَهُشُّ بها على غَنَمَه، والمشهورُ أنها كانت مِنْ آسِ الجنَّةِ وكانتْ لآدَمَ ـ عليه السلامُ ـ ثمَّ وَصَلَتْ إلى شُعيبٍ فأَعطاهُ إيّاه.
قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} إذا: الفجائيَّة. وفيها ثلاثةُ مَذاهِبَ: ظَرفُ مَكانٍ، أوْ زَمانٍ أوْ حَرْفٌ، وقد تقدَّمَ. قيل هي ظرفُ مكان هنا من حيثُ كانت خبراً عن جُثَّةٍ، وليس الأمرُ كذلك بل هي خبرٌ عن "هي" أي ال "ثعبان".