تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(101)
قولُهُ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أي قرى قومِ نوحٍ وهودَ وصالحٍ ولوطَ وشُعيبٍ، البائدةُ التي تقدَّم ذكرُها واستعمل اسم الإشارة "تلك" للبُعدِ. "نقصَُّ عليك من أخبارها" عن غاية غَوايةِ الأممِ المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أتتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة، والحجج الظاهرة الواضحة البينة، وهو كقولِهِ في سورة هود: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} الآية: 120. فهذا هو المرادُ من سردِ القِصصِ بالنسبة لرسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أَوضحَه الحَقُّ ـ تبارك وتعال ـ في غير موضعٍ من القرآن الكريم، كما هي للعظة والعبرة، ليتعظ من كان له قلب ولبٌّ، قال تعالى في سورة ق: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} الآية: 37.
قولُهُ: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فالمرسلون جميعاً ـ عليهمُ السلامُ ـ جاؤوا أقوامهم بالبراهين القاطعة، والحجج الواضحة البيِّنةِ، والمعجزات الباهرة، لكنَّ أقوامهم جميعاً قابلوهم بالجحود والإنكار، وكذَّبوهم وعَذبوهم، فإذا ما لقيت ـ يا رسول الله ـ من أمتك وقومك شيئاً من العناد والإِصرارِ والمكابرة، فاعلم أنك لَسْتَ بِدْعاً مِنَ الرُسُلِ؛ لأنَّ كلَّ رسولٍ قد قوبل بمثل هذا الإِلحاد، من الذين أرسل إليهم. وإذا كان لكلُّ رسول من البلاء بقدر ما في رسالتِهِ من العلوِّ، فلا بدَّ أنْ تُلاقيَ أنتَ من الابتلاءات ما يساوي ابتلاءاتِ الرُسُلِ جميعاً لأنَّ رسالتك هي الخاتمة الجامعة الشاملةُ لكلِّ الرسالات، وأنت الرسولُ الخاتم لجميع المرسلين. ولتَعلم ـ يا محمد ـ أنّنا نَنْصُر رسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهلِ الكفر بنا، وليعلمَ مكذبوك من قومِك ما عاقبةُ أمرِ مَنْ كذَّب رُسُلَ اللهِ، فيرتَدِعوا عن تَكذيبِكَ، ويُنيبوا إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه.
قولُهُ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أخرج الطبري عن السُدِّيِّ أنَّ قالَ: ذلك يومَ أَخذَ مِنْهُمُ الميثاق فآمَنُوا كرْهًا. وعليه فالمعنى: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك، وذلك يوم أخذِ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم ـ عليه السلام.
وأخرج أيضاً عن الربيع بن أنس قال، يحقُّ على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء، ويَدَعوا علمَ ما أخفى الله عليهم، فإنَّ علمه نافذٌ فيما كان وفيما يكون، وفي ذلك قال: "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، قال: نَفَذَ عِلمُه فيهم، أيُّهم المطيعُ مِنَ العاصي حيثُ خلقهم في زمان آدم. وتصديقُ ذلك حيث قال لنوح: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، سورة هود، الآية: 48، وقال في ذلك: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، سورة الأنعام، الآية: 28، وفي ذلك قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} سورة الإسراء، الآية: 15، وفي ذلك قال: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} سورة النساء، الآية: 165، ولا حُجَّةَ لأحدٍ على الله تعالى.
وقال آخرون: معنى ذلك: "فما كانوا" لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، "ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" هلاكهم، كما قال جل ثناؤه: {ولو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه}.
فقد روى الطبريُّ بسنده عن مجاهد، في قول الله: "بما كذبوا من قبل"، قال: كقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.
وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا، فأخبر جل ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم.
ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين وَرِثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها، الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده كان وجهًا ومذهبًا.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} تقدم أنَّ الطبعَ هو الختمُ، فقد ختم الله على قلوب الكافرين لأنها ملئت كفراً وإلحاداً ولم يبق فيها متَّسع لشيءٍ غير ذلك. فكما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم، يا محمد، في هذه السورة، حتى جاءهم بأسُ الله فهلكوا به "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين" ، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومك.
قوله تعالى: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عليك من أنبائها} تلك: مبتدأٌ، مشارٌ بها إلى ما بعده، و"القرى" خبره، و جملةُ "نقصُّ" حالٌ، أي قاصّين، وهو كقوله في سور النمل: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} الآية: 52. والحالُ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب، كما تلزم الصفة في قولك: (هو الرجل الكريم) ألا ترى أنك لو اقتصرت على (هو الرجل) لم يكن مفيداً، ويجوزُ أن تكون "القرى" صفةً لتلك، و "نقصُّ" هو الخبر، ويجوز أن يكون "نَقُصُّ" خبراً بعد خبرٍ. ويجوز أن يكون "نقصُّ" على حاله من الاستقبال أي: قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب. وفي قوله "القرى" ب "أل" تعظيمٌ وهو كقوله تعالى: {ذلك الكتابُ}، وكقول الرسول ـ عليه الصلاةُ والسلام: ((أولئك الملأُ من قريش)) وكقول أُميَّة بن الصلت:
تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ ............... شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
و "مِنْ" للتبعيض كما تقدَّم، لأنَّه إنما قَصَّ على رسوله ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما.
قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ} ما: موصولةٌ اسميةٌ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل، أي: بما كذَّبوه. ولا يجوز أن يُقَدَّر "به" وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق. وهي نافية واللامُ في "ليؤمنوا" للجحودِ، ونفيُ الفعلِ معها أبلغ.
وقال هنا: {بِمَا كَذَّبُواْ} فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي يونس ذكره فقال: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ} سورة يونس، الآية: 74، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله: {ولكن كَذَّبُواْ} سورة الأعراف، الآية: 96. استمرَّ حَذْفُه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} سورة يونس، الآية: 74. وقوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} سورة يونس، الآية: 73. فناسب ذكرَه موافقةٌ. والظاهرُ أنَّ الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى، وقيل إنَّ الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى، والضمير في "كذَّبوا" لأسلافهم. أي: فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء.