وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
(133)
قَوْلُهُ ـ تبارك وتَعَالَى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} أَيْ "الْغَنِيُّ" عَنْ خَلْقِهِ وَعَنْ أَعْمَالِهِمْ. وفيهِ رَدٌّ على الثَنَوِيَّةِ؛ الذين يَقولون: إنَّهُ ـ سبحانَه ـ إنَّما خَلَقَ الخَلائقَ لِمَنافِعَ نَفْسِهِ؛ لأنَّه لَيْسَ بِحكيمٍ مَنْ فَعَلَ فِعْلاً لا يَقْصِدُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهَ، فأخبرَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَنَّهُ غَنِيٌّ بِذاتِهِ، وإنَّما يَقْصُدُ غيرُهُ المَنْفَعَةَ بِفِعْلِهِ لِحاجَةٍ تَقَعُ لَهُ، وضَرورةٍ تُصيبُهُ يَقْصُدُ بالفِعْلِ قضاءَ الحاجَةِ ودَفْعَ الضَرورة عَنْ نَفْسِهِ، وهذا إنّما يكون عن عجزٍ وضَعْفٍ، أَمَّا اللهُ ـ سبحانَه ـ فهو القويُّ المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ ضَعْفٍ وعن كلِّ حاجةٍ، فلو كان محتاجاً إلى شيء، أوْ لو أَنَّ أَحَداً يَستَطيعُ نَفْعَهُ وضَرّهُ، لا يَكونُ إلهاً، وإنَّما خَلقَ ـ سبحانه وتعالى ـ الخلقَ لِيَتَكَرَّمَ عَليهم ولِتَظْهرَ عليهم أَسْماؤهُ وأَفعالُهُ وصفاتُه، فالرزَّاقُ يَرْزُقُ والرحمنُ يَرْحَمُ، وهكذا..، وقد بيَّنَ ـ جَلَّ وعَلا ـ الحكمةَ مِنْ خَلْقِهِ الخَلْقَ بِقَوْلِهِ: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْس إلاّ لِيَعْبُدون} سورة الذاريات، الآية: 56. قال المفسِّرون إلاَّ لِيَعْرِفون، لأنَّ المَعرفَةَ أَرْفَعُ العِبادةِ. وبالتالي فإنَّ أعمالَه ـ تعالى ـ منزّهَةٌ عنِ الغايةِ وإنَّما هي الحِكْمَةُ الإلهيَّةُ وليستِ المَنفعةُ التي اقْتَضَتْ أَنْ يخْلُقَ، فهو الغَنيُّ بذاتِه عنْ كلِّ ما سِواهُ ـ على ما أَخَبَرِ ـ وكُلُّ مَوْجودٍ سِواهُ، فإنَّه مِنْ خَلْقِهِ، وهو الذي أَوْجَدَهُ وأَمَدَّهُ، وبالتالي فالمخلوقُ هو المحتاجُ إليه ـ تعالى. و"وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ" يحتَمِلُ وجهاً آخرَ وهو أَنَّه ـ تعالى ـ غَنِيٌّ عن تَعذيبِ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ، أيْ: لا لِمَنْفَعَةٍ له في تَعذيبِهم يُعذبهم، ولا لِحاجَةٍ لَهُ في ذلك؛ ولكنَّ الحِكْمَةَ تُوجِبُه. ويُمكنُ أَنْ يكونَ قولُهُ: "وربُّك الغنيُّ" صِلَةَ قولِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}. فيكونُ المَعنى: لم يُرسِلْ إليكم، ولا امْتَحَنَكم بالذي امْتَحَنَكم لِحاجَةِ نَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْفَعَةٍ لَهُ؛ إذْ هو غَنِيٌّ بِذاتِهِ. ولا يَخفى ما في التَعَرُّضِ لِعُنوانِ الرّبوبيَّةِ مَعَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ، والإضافةِ إلى ضميرِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ مِنَ اللُّطفِ.
وقولُه: {ذُو الرَّحْمَةِ} أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ. فإنَّ الرَحْمَة َلَهم مَعَ الغِنى عَنْهم هيَ غايةُ التَفَضُّلِ. أوْ هو "ذُو الرَّحْمَةِ" بالكَفَرَةِ فلا يُعجِّلُ عليهم بالعقوبة. أو هو "ذو الرحمة" لِما أنَّه ـ سبحانه ـ خَلَقَ الخلائقَ، وجَعَلَ لِبَعْضٍ ببعضٍ الانتفاعَ بهِمْ والاسْتِمْتاعَ، وإنَّما خَلَقَهم لِمَنافِعِ أَنْفُسِهم رحمةً منه بهم. ويَحتَمِلُ كذلك قولُه: "ذُو الرَّحْمَةِ" أَنَّ مَنْ قَبِلَ رَحْمَتَه صارَ أَهْلاً لَها، فأمَّا مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رَحْمَتَهُ فإنَّهُ ذو انْتِقامٍ منه.
قولُه: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيُّها الكَفَرَةُ العُصاةُ بِالْإِمَاتَةِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِالْعَذَابِ. وقيلَ الخِطابُ لأهلِ مَكَّةَ، ففيهِ وَعيدٌ وتَهديدٌ لَهم، والعمومُ أَوْلى، ويَدْخُلُ فيهِ أَهْلُ مكَّةَ دُخولاً أَوِّليَّاً، و"إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ" لأنَّهُ غَنِيٌّ بذاتِهِ لمْ يخلقكم لِمَنافعَ نْفْسِهِ أوْ لِحاجَتِهِ، ولو كانَ خلقُه الخَلْقَ لِمَنافِعِ نفسِهِ لما أَذْهَبَهُم.
قولُهُ: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أَيْ خَلْقًا آخَرَ أَمْثَلَ مِنْكُمْ وَأَطْوَعَ، مِن نَسْلِ قومٍ لم يَكونوا على مِثْلِ صِفَتِكم، بلْ كانوا طائعين، قيلَ هُمْ أَهلُ سفينةِ نوحٍ وذُرِّيتُهم مِنْ بعدِهم مِنَ القُرون إلى زَمَنِكم. أَيْ يَسْتَخْلِفُ مِنْ بعدِكم ما يَشاءُ اسْتِخلافاً مثلَ مَا أَنْشَأَكُمْ، وَنَظِيرُهُ قولُه ـ تعالى ـ في سورة النساء: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} الآية: 133. وقولُهُ في سورةِ محمّد: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} الآية: 38. فَالْمَعْنَى يُبَدِّلُ غَيْرُكُمْ مَكَانَكُمْ. ولكنَّه ـ سبحانَه وتعالى ـ لمْ يَشَأْ ذلك، فلمْ يُهْلِكْهم، ولا اسْتَخْلَفَ
غيرَهم رحمةً لهم ولُطفاً بِهم.
قولُه تعالى: {وَرَبُّكَ الغني ذو الرحمةِ إن يشأ} يَجوزُ أَنْ يَكونَ "الغنيُّ" و"ذو الرحمة" خبريْن لـ "رَبُّك". ويَجوزُ أَنْ يَكونا وصْفَيْنِ له فيكون عندئذٍ الخبرُ قولُهُ: "إن يشأ" وما بَعدَهُ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "الغَنيُّ" وصْفاً، و"ذو الرحمة" خَبَراً، والجُملةُ الشَرطِيَّةُ خبرٌ ثانٍ أو مُستَأْنَفٌ.
وقوله: {ما يشاء} يَجوزُ أَنْ تَكونَ "ما" واقعةً على ما هو مِنْ جِنْسِ الآدَمِيِّين، وإنَّما أَتى بـ "ما" وهي لغيرٍ العاقٍلٍ للإِبْهامِ الحاصِلِ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ واقعةً على غيرِ العاقِلِ، وأنَّه يأتي بِجِنْسٍ آخَرَ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ واقعةً على النوعِ مِنَ العُقلاءِ كما تقدَّم.
قولُهُ {كَمَا أَنشَأَكُمْ} مَصْدَرٌ على غيرِ الصَدَرِ لِقولِهِ: "ويَسْتخلف"، لأنَّ معنى "يَسْتَخلفُ" يُنْشئْ . أو أَنَّها نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحذوفٍ تقديرُه: اسْتخلافاً مثلَ ما أَنشأكم.
وقولُه: {مِنْ ذرِّيَّة} مِنْ: لابتداءِ الغايةِ، أيْ: ابْتَدَأَ إنْشاءكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ، أو هي تَبْعيضِيَّةٌ، أو هي بمعنى البدل، كقولِك: أَخَذْتُ مِنْ ثَوبي دِرْهَماً. أيْ: بَدَلَهُ وعِوَضَهُ، وكونها بمَعْنى البَدَلِ قليلٌ أوْ مُمْتَنِعٌ، وما وَرَدَ مِنْهُ كقولِهِ تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} الزخرف: 60. مؤوَّلٌ، وقولُ الراجِزِ:
جاريةٌ لم تَأْكُلِ المرقَّقَا .................. ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا
أي: بَدَلَكم وبَدَلَ البَقولِ.
وهما، أي الجار والمجرور "من ذرِّيَّةِ" مُتعلِّقٌ بـ "أنشأكم".
وقرأ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ "ذَرِّيَّة" بفتحِ الذالِ، وقرأ أَبانُ بْن ُعُثْمانٍ "ذَرِيَّة" بتخفيفِ الراءِ مَكسورةً، ويُروى عنْه أَيْضاً "ذَرْية" بوزن ضَرْبَةٍ.