وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
(99)
قَوْلُهُ ـ جَلَّ شَأنُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً} تذكيرٌ آخرُ لَنا مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ ـ بِنِعْمَةٍ أُخْرى مِنْ نِعَمِهِ الجَليلةِ المُنْبِئةِ عَنْ كَمالِ قُدْرَتِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ وسَعَةِ رَحْمَتِهِ، فهُوَ الذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً، أَيِ الْمَطَرُ، بِقَدَرٍ مِنْهُ، جلَّ جلالُه. والمُرادُ مِنَ الماءِ المَطَرُ، ومِنَ السَماءِ السَّحابُ، أَوِ الكلامُ على تَقديرِ مُضافٍ أيْ مِنْ جانِبِ السَماءِ. وقِيلَ: الكَلامُ على ظاهِرِهِ، والإنْزالُ مِنَ السَماءِ حَقيقةً إلى السَحابِ ومِنْهُ إلى الأَرْضِ، ودَحَضَ الجبائيّ قولَ مَنْ يَقولُ: إنَّ البُخاراتِ الكَثيرةَ تَجْتَمِعُ في باطِنِ الأَرْضِ، ثُمَّ تَصْعَدُ وتَرْتَفِعُ إلى الهَواءِ، ويَنْعَقِدُ السَّحابُ مِنْها ويَتَقاطَرُ ماءٌ وذلك هُوَ المَطَرُ المُنْزَلُ، بِوُجوهٍ، أَحَدُها: أَنَّ البَرَدَ قدْ يُوجَدُ في وقتِ الحَرِّ بَلْ في حَميمِ الصَيْفِ ونَجِدُ المَطَرَ في أَبْرَدِ وَقْتٍ يَنْزِلُ غَيرَ جامِدٍ وذلكَ يُبْطِلُ ما ذُكِرَ. ثانيها: أَنَّ البُخاراتِ إذا ارْتَفَعَتْ وتَصَاعَدَتْ تَفَرَّقَتْ، وإذا تَفَرَّقتْ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْها قَطَراتُ الماءِ بَلِ البُخارُ إنَّما يَجْتَمِعُ إذا اتَّصَلَ بِسَقْفٍ أَمْلَسٍ ـ كَما في بَعْضِ الحَمَّاماتِ ـ أَمَّا إذا لم يَكُنْ كَذلِكَ لَمْ يَسِلْ مِنْهُ ماءٌ كَثيرٌ، فإذا تَصاعَدَتِ البُخاراتُ في الهَواءِ وليسَ فَوْقَها سَطْحٌ أَمْلَسٌ تَتَّصِلُ بِهِ وَجَبَ أَنْ لا يَحْصُلَ مِنْها شيءٌ مِنَ الماءِ. ثالثُها: أَنَّه لو كان تَوَلُّدُ المَطَرِ مِنْ صُعودِ البُخاراتِ فهي دائمةُ الارْتِفاعِ مِنَ البِحارِ فوَجَبَ أَنْ يَدومَ هُناكَ نُزولُ المَطَرِ، وحيثُ لم يَكنْ كَذلكَ عَلِمْنا فَسادَ ذلك القولِ.
والماءُ كَثيراً ما يُذْكَرُ في القُرآنِ في صَدَدِ ذِكْرِ الحياةِ والإنْباتِ. "وهُو الذي أَنْزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً فأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شيءٍ". ودَوْرُ الماءِ الظاهرُ في إنْباتِ كُلِّ شيءٍ دَوْرٌ واضِحٌ يَعْلَمُهُ الجميع، ويَعرِفُهُ الجاهِلُ والعالِمُ. ولكنَّ دورَ الماءِ في الحَقيقةِ أَخْطَرُ وأَبْعَدُ مَدًى مِنْ هذا الظاهِرِ الذي يُخاطِبُ بِه القرآنُ الناسَ عامَّةً. فقد شارك الماءُ ابتداءً ـ بِتَقْديرِ اللهِ ـ في جَعْلِ تُرْبَةِ الأَرْضِ السَطْحِيَّةِ صالِحَةً للإنْباتِ (إذا صَحَّتْ النَظريَّاتُ التي تَفْتَرِضُ أَنَّ سَطْحَ الأَرْضِ كان في فترةٍ مُلْتَهِباً، ثمَّ صَلْباً لا تُوجَدُ فيهِ التُرْبَةُ التي تُنْبِتُ الزَرْعَ. ثمَّ تَمَّ ذلك بتعاوُنِ الماءِ والعَوامِلِ الجَويَّةِ على تحويلِها إلى تُرْبَةٍ لَيِّنَةٍ وقد سُمِّيتْ هذِه العَمَليَّةُ بالحَتِّ والتَعْرِيَةِ) ثمَّ ظَلَّ الماءُ يُشارِكُ في إخْصابِ هذِهِ التُرْبَةِ، وذلك بإسْقاطِ (النِتْروجين ـ الآزوت) مِنَ الجَوِّ كُلَّما أَبْرَقَ البرقُ فاسْتَخْلَصَتِ الشَرارةُ الكَهْرُبائيَّةُ، النِتْروجينَ الصالِحَ للذوبانِ في الماءِ ليَسْقُطَ مَعَ المَطَرِ، ولِيُعيدَ الخُصوبَةَ إلى الأَرْضِ. وهُو السَمادُ الذي قَلَّدَ الإنْسانُ القوانينَ الكَوْنِيَّةَ في صُنْعِهِ، فأَصْبَحَ يَصْنَعُهُ الآنَ بِنَفْسِ الطَريقةِ! وهو المادَّةُ التي يَخْلُو وَجْهُ الأَرْضِ مِنَ النَباتِ لَوْ نَفَدَتْ مِنَ التُرْبَةِ! وكلُّ نَبْتٍ يَبْدَأُ أَخْضَرَ. والَّلفْظُ "خضراً" أَرَقُّ ظِلاً، وأَعْمَقُ أُلْفَةً مِنْ لَفْظِ "أخضر". وهذا النَبْتُ الخَضِرُ "يخرج منه حباً متراكباً". كالسَنابِلِ وأَمثالِها. "ومِنَ النَخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ". وقِنْوانٌ جَمْعُ قِنْوٍ وهُوَ الفَرْعُ الصَغيرُ. وفي النَّخلَةِ هُو العَذَقُ الذي يَحْمِلُ الثَمَرَ. ولَفْظَةُ "قِنوان" ووصفُها "دانية" يَشْتَرِكان في إلقاءِ ظِلٍّ لَطيفٍ أَليفٍ. وظِلُّ المَشْهَدِ كُلُّهِ ظِلٌّ وَديعٌ حَبيبٌ. "وجنّات من أَعنابٍ" "والزيتون والرمان". هذا النَباتُ كُلُّهُ بِفَصائِلِهِ وسُلالاتِهِ "مشتبهاً وغيرُ مُتَشابِهٍ" فـ "انظروا إلى ثمرهِ إذا أَثمَرَ وَيَنْعِهِ". انْظروا بالحِسِّ البَصيرِ، والقلبِ اليَقِظَ. انظروا إليْهِ في ازدهارِهِ، وازْدِهائهِ، عندَ كَمالِ نُضْجِهِ. انْظُروا إليْهِ واسْتَمْتِعوا بِجَمالِهِ. ولا يقولُ هُنا، كُلوا مِنْ ثَمَرِهِ إذا أَثْمَرَ، وإنَّما يَقولُ: "انْظُروا إلى ثَمَرِهِ إذا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ" لأنَّ المَجالَ هُنا مَجال جَمالٍ ومَتاعٍ، كما أَنَّهُ مَجالُ تَدَبُّرٍ في آياتِ اللهِ، وبَدائعِ صَنْعَتِهِ في مَجَالِي الحَياةِ.
قولُه: {إنَّ في ذلكم لآياتٍ لِقومٍ يُؤمنون} فالإيمانُ هو الذي يَفْتَحُ القلبَ، ويُنيرُ البَصيرةَ، ويُنَبِّهُ أَجْهِزَةَ الاسْتِقْبالِ والاسْتِجابةِ في الفِطْرَةِ، ويَصِلُ الكائنُ الإنْسانيُّ بالوُجودِ، ويَدعو الوُجدانَ إلى الإيمانِ باللهِ خالِقِ الجَميعِ. وإلاَّ فإنَّ هُناكَ قُلوباً مُغْلَقَةً، وبَصائرَ مَطْموسَةً، وفِطَراً مُنْتَكِسَةً، تَمُرُّ بهذا الإبداعِ كُلِّهِ، وبهذِه الآياتِ كُلِّها، فلا تُحِسُّ بِها ولا تَستجيبُ {إنما يستجيب الذين يسمعون} سورة الأنعام، الآية: 36، وإنَّما يُدرِكُ هذه الآياتِ الذين يُؤمِنون!
وعندما يَبْلُغُ السِياقُ إلى هذا المَقْطَعِ؛ وقد عَرَضَ على القَلْبِ البَشَرِيِّ صَفُحَةَ الوُجودِ الحافِلَةِ بِدَلائلِ وُجودِ اللهِ، ووَحْدانيَّتِهِ، وقُدْرَتِهِ، وتَدبيرِهِ، وقدْ غُمِرَ الوُجْدانُ بتلكَ الظِلالِ الكَوْنِيَّةِ المُوحِيَةِ، وقدْ وَصَلَ الضَميرُ بقلبِ الوُجودِ النابِضِ في كُلِّ حَيٍّ، الناطِقُ بِبديعِ صُنْعِ الخَلاّقِ.
قولُه: {فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ كُلُّ صِنْفٍ مِنَ النَّبَاتِ. وَقِيلَ: رِزْقُ كُلِّ حَيَوَانٍ. وكان السِياقُ يَقْتَضي أَنْ يَقولَ سُبْحانَهُ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً "فَأَخْرَجَ". لكنَّه هنا قال: "فأخرجنا"؛ لأنَّ كُلَّ شيءٍ لا يُوجَدُ للهِ فيه شُبْهَةُ شَريكٍ؛ فهُوَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَطْ، ولا يقولَنَّ أَحَدٌ إنَّهُ أَنْزَلَ المَطَرَ وأَخْرَجَ النَباتَ لأنَّ الأرضَ أَرضُ اللهِ خلقها وخلقَ البذورَ، والإنْسانُ يُفَكِّرُ بِعَقْلٍ خَلَقَهُ اللهُ وبِطاقَةٍ مَخلوقةٍ لله كذلك. وأَنْتَ حينَ تَنْسِبُ الحاجاتِ كلَّها إلى صانِعِها الأَوَّلِ، فلأنَّهُ الذي فَعَلَ، لكنَّه احْتَرَمَ تَعَبَك، وهو يُوضِحُ لَكَ حِينَ قالَ: "فأخرجْنا" أَيْ أَنَا وأَسْبابي التي مَنَحْتُها لَكَ، أَنَا خَلَقْتُ الأَسْبابَ، والأَسْبابُ عَمِلَتْ مَعَكَ. فإذا نَظَرْتَ إلى مُسَبِّبِ الأَسْبابِ فهو الفاعِلُ لِكُلِّ شَيْءٍ. وإنْ نَظَرْتَ إلى ظاهِرِيَّةِ التَجَمُّعِ والحَرَكَةِ فالأَسبابُ التي باشَرَها الإنْسانُ مَوْجودَةٌ؛ لِذلك قالَ: "فأخرجْنا". وقد يُثبِتُ ـ سُبْحانَهُ ـ للإنْسانِ في بَعْضِ المَواقِفِ عَمَلاً لأنَّهُ قامَ بِهِ بِأَسْبابِ اللهِ المَمْنوحَةِ لَهُ، وقد يَنْفي عَنْه عَمَلاً آخَرَ لَيْسَ لَه فيه دَخْلٌ بأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُوَرِ؛ كقولِ الحَقِّ ـ جَلَّ وعَلا: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} الواقعة : 63 ؛64. فهنا يَنْسِبُ ـ سبحانَهُ ـ لَنَا الحَرْثَ لأنَّنا قُمْنا بِهِ ولكنْ بِأَسبابٍ مِنْهُ، إذ هو ـ سبحانَه ـ الذي أَنزلَ الحديدَ فصَنَعنا مِنْهُ المِحراثَ وهَدانا إلى تَشكيلِهِ بَعْدَ أَنْ أَلانَهُ لَنا بالنَارِ التي خَلَقَها أيضاً، وبالطاقَةِ التي أَعطانا إيَّاها، أَمَّا الزِراعَةُ فليسَ لأحَدٍ مِنَّا فيها عَمَلٌ ولِذلِكَ يَقولُ: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} الواقعة: 65. فقد أتى هنا باللامِ في قولِه: (لَجَعَلْناهُ) للتَأْكيدِ؛ لأنَّ الإنسانَ لَهُ في هذا الأمْرِ عَمَلٌ، إنَّهُ حَرَثَ وتَعَهَّدَ ما زَرَعَهُ بالرِيِّ والكَدِّ حتّى نَما وأَثْمَرَ، لكنْ قد تُصيبُهُ آفَةٌ تَقضي عَليه، فالأَسْبابُ وإنْ كانتْ قَدْ عَمِلَتْ إلاَّ أَنَّها لا تَضْمَنُ الانْتِفاعَ بِثَمَرَةِ الزَرْعِ، لأنَّ الأسبابَ لا تَتَمَرَّدُ، ولا تَتَأَبَّى على اللهِ ولا تَخْرُجُ عَلَيْهِ، إنَّها تُؤدّي ما يُريدُه اللهُ خالقُها مِنْها، وقد يُعَطِّلُها ـ سُبْحانَه.
قولُهُ: {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً} أَيْ أَخْضَرَ كالبقول، والخَضِرُ: رُطَبٌ، والخَضِرُ: المادَّةُ الخَضْراءُ في النَباتِ، وهي مادَّةُ الحياةِ. وهى مِنْ أَسرارِ قُدْرَةِ الباري تعالى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالسُّلْتَ (ضَرْبٌ من الشعيرِ أَبْيَضٌ لا قِشْرَ لَه) وَالذُّرَةَ وَالْأَرُزَّ وَسَائِرَ الْحُبُوبِ.
قولُهُ: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً} يَعني أَنَّه يَركَبُ بَعْض حبِّهِ عَلَى بَعْضٍ كَالسُّنْبُلَةِ.
قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ} الطَّلْعُ يُسَمَّى أَيْضاً الْكُفُرَّى قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ الْإِغْرِيضِ. وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا. وَالطَّلْعُ، مَا يُرَى مِنْ عِذْقِ النَّخْلَةِ. وَالْقِنْوَانُ: جَمْعُ قِنْوٍ، وَتَثْنِيَتُهُ قِنْوَانٌ كَصِنْوٍ وَصِنْوَانٍ (بِكَسْرِ النُّونِ). وَجَاءَ الْجَمْعُ عَلَى لَفْظِ الِاثْنَيْنِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الِاثْنَانِ صِنْوَانِ وَالْجَمْعُ صِنْوَانٌ (بِرَفْعِ النُّونِ). وَالْقِنْوُ: الْعِذْقُ وَالْجَمْعُ الْقِنْوَانُ وَالْأَقْنَاءُ، قَالَ:
قد أبصرت سعدى بها كتائلى ................... طَوِيلَةَ الْأَقْنَاءِ وَالْأَثَاكِلِ
الكتائلُ جَمْعُ كَتيلةٍ وهيَ النَخْلَةُ الطَويلةُ. والأَثاكِلُ: جَمْعُ الإثْكالِ والأُثْكولُ (لُغةٌ في العِثكالِ والعُثكولِ) وهو العَذَقُ الذي تَكونُ فيهِ الشَماريخُ.
و"أَقْنَاءُ" جَمْعُ الْقِلَّةِ. و"قَنْوَانٌ" بِفَتْحِ الْقَافِ، وضَمِّها. فَعَلَى الْفَتْحِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ غَيْرُ مُكَسَّرٍ، بِمَنْزِلَةِ رَكْبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْبَاقِرِ وَالْجَامِلِ، لِأَنَّ فِعْلَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ، وَضَمُّ الْقَافِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قِنْوٍ وَهُوَ الْعِذْقُ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) وَهِيَ الْكِبَاسَةُ، وَهِيَ عُنْقُودُ النَّخْلَةِ. وَالْعِذْقُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) النَّخْلَةُ نَفْسُهَا. وَقِيلَ: الْقِنْوَانُ الْجُمَّارُ. "دَانِيَةٌ" قَرِيبَةٌ، يَنَالُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ. وقيل: مِنْهَا دَانِيَةٌ وَمِنْهَا بَعِيدَةٌ، فَحُذِفَ، كما هُو قولُه: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أيْ والبَرْدَ، وَخَصَّ الدَّانِيَةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ مِنَ الْغَرَضِ فِي الْآيَةِ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ وَالِامْتِنَانِ بِالنِّعْمَةِ، وَالِامْتِنَانُ فِيمَا يَقْرُبُ مُتَنَاوَلُهُ أكثر.
قَوْلُهُ: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ} أَيْ وَأَخْرَجْنَا جَنَّاتٍ. أَيْ وَلَهُمْ جَنَّاتٌ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا" وَحُورًا عِينًا" حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَأَنْشَدَ:
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمْ ................ أَوْ مِثْلَ أُسْرَةِ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارِ
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ "وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ" أَخْرَجْنَاهَا، كَقَوْلِكَ: أَكْرَمْتُ عَبْدَ اللهِ وَأَخُوهُ، أَيْ وَأَخُوهُ أَكْرَمْتُ أَيْضًا. فَأَمَّا الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: "وَجَنَّات" بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى "قِنْوانٌ" لَفْظًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ في المعنى مِنْ جِنْسِها.
قولُه: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أَيْ مُتَشَابِهًا فِي الْأَوْرَاقِ، أَيْ وَرَقُ الزيتونِ يُشبِهُ وَرَقَ الرُّمانِ في اشْتِماله عَلَى جَمِيعِ الْغُصْنِ وَفِي حَجْمِ الْوَرَقِ، وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي الذَّوَاقِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "مُتَشابِهاً" فِي النَّظَرِ "وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ" في الطَعمِ، مِثل الرُمّانتيْن لَونُهُما واحدٌ وطعمُهُما مُخْتَلِفٌ. وَخُصَّ الرُّمَّانُ وَالزَّيْتُونُ بِالذِّكْرِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمْ وَمَكَانِهِمَا عِنْدَهُمْ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}. رَدَّهُمْ إِلَى الْإِبِلِ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ مَا يَعْرِفُونَهُ.
قَوْلُهُ: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ} توجيه رَبّانيٌّ مباشرٌ إلى تَمَلّي الجَمَالِ الباهرِ في ازْدهارِ الحياةِ وازدهائها، للنَظَرِ والتَمَلِّي والاسْتِمتاعِ الواعي. أَيْ نَظَرَ الِاعْتِبَارِ لَا نَظَرَ الْإِبْصَارِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّفَكُّرِ. وَالثَّمَرُ فِي اللُّغَةِ جَنَى الشَّجَرِ. قالَ مُجاهِدٌ: الثمرُ أَصْنافُ المالِ، والتَمْرُ ثَمَرُ النَّخْلِ. وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: انْظُروا إلى الأَمْوالِ التي يَتَحَصَّلُ مِنْهُ الثَّمَرُ، فَالثُّمُرُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ ثِمَارٍ وَهُوَ الْمَالُ الْمُثْمِرُ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ ثُمْرُهُ" بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَرٌ جَمْعُ ثَمَرَةٍ مِثْلَ بَدَنَةٍ وَبَدَنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَرٌ جَمْعُ جَمْعٍ، فَتَقُولُ: ثَمَرَةٌ وَثِمَارٌ وَثَمَرٌ مِثْلَ حِمَارٍ وَحُمُرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ ثَمَرَةٍ كَخَشَبَةٍ وَخَشَبٍ لَا جَمْعَ الْجَمْعِ. و"وَيَنْعِهِ" يُقَالُ: يَنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ، وَالثَّمَرُ يَانِعٌ. وَأَيْنَعَ يونع و(التَمْرُ مُونِعٌ). وَالْمَعْنَى: وَنُضْجُهُ. من يَنَعَ وَأَيْنَعَ إِذَا نَضِجَ وَأَدْرَكَ. قَالَ الْحَجَّاجُ فِي خُطْبَتِهِ: أَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ، وَهُوَ الْمُدْرِكُ الْبَالِغُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْنَعَ أَكْثَرَ مِنْ يَنَعَ، وَمَعْنَاهُ أَحْمَرُ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ ((إِنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ مِثْلَ الْيَنَعَةِ)) وَهِيَ خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ، يُقَالُ: إِنَّهُ الْعَقِيقُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ يَنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ وَيَيْنَعُ يَنْعًا وَيُنُوعًا، أَيْ نَضِجَ. وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ، قالَ مالكٌ ـ رضي اللهُ عنه: الْإِينَاعُ الطِّيبُ بِغَيْرِ فَسَادٍ وَلَا نَقْشٍ. وقَالَ مالك: والنَّقشُ أَنْ يَنْقُشَ أَهْلُ البَصَرِ الثَّمَرَ حَتَّى يُرْطَبَ، يُرِيدُ يُثْقَبُ فِيهِ بِحَيْثُ يُسَرَّعُ دُخُولُ الْهَوَاءِ إِلَيْهِ فَيُرْطَبُ مُعَجَّلًا. فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْعَ الْمُرَادَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْبَيْعَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ مِنْ ذَاتِهِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ. وَفِي بَعْضِ بِلَادِ التِّينِ، وَهِيَ الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ، لَا يَنْضَجُ حَتَّى يُدْخَلَ فِي فَمِهِ عُودٌ قَدْ دُهِنَ زَيْتًا، فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةُ الْهَوَاءِ وَعَادَةُ الْبِلَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْتِ الطِّيبِ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ لِمَنْ تَدَبَّرَ وَنَظَرَ بِبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، نَظَرَ مَنْ تَفَكَّرَ، أَنَّ الْمُتَغَيِّرَاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُغَيِّرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: "انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ". فَتَرَاهُ أَوَّلًا طَلْعًا ثُمَّ إِغْرِيضًا إِذَا انْشَقَّ عَنْهُ الطَّلْعُ. وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى ضَحْكًا أَيْضًا، ثُمَّ بَلَحًا، ثُمَّ سَيَّابًا، ثُمَّ جِدَالًا إِذِ اخْضَرَّ وَاسْتَدَارَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، ثُمَّ بُسْرًا إِذَا عَظُمَ، ثُمَّ زَهْوًا إِذَا احْمَرَّ، يُقَالُ: أَزْهَى يُزْهِي، ثُمَّ مُوَكَّتًا إِذَا بَدَتْ فِيهِ نُقَطٌ مِنَ الْإِرْطَابِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الذَّنَبِ فَهِيَ مُذْنِبَةٌ، وَهُوَ التَّذْنُوبُ، فَإِذَا لَانَتْ فَهِيَ ثَعْدَةٌ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِرْطَابُ نِصْفَهَا فَهِيَ مُجَزَّعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَ ثُلُثَيْهَا فَهِيَ حُلْقَانَةٌ، فَإِذَا عَمَّهَا الْإِرْطَابُ فَهِيَ مُنْسَبِتَةٌ، يُقَالُ: رُطَبٌ مُنْسَبِتٌ، ثُمَّ يَيْبَسُ فَيَصِيرُ تَمْرًا. فَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى بِانْتِقَالِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَتَغَيُّرِهَا وَوُجُودِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا. وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْبَعْثِ، لِإِيجَادِ النَّبَاتِ بَعْدَ الْجَفَافِ.
وَهَذَا الْيَنْعُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ جَوَازُ بَيْعِ التَّمْرِ وَبِهِ يَطِيبُ أَكْلُهَا وَيَأْمَنُ مِنَ الْعَاهَةِ، هُوَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا بِمَا أَجْرَى اللهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَادَةِ وَأَحْكَمَهُ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ. ذَكَرَ المُعَلَّى ابْنُ أَسَدٍ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ عَسَلِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا طَلَعَتِ الثُّرَيَّا صَبَاحًا رُفِعَتِ الْعَاهَةُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ)). وَالثُّرَيَّا النَّجْمُ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَطُلُوعُهَا صَبَاحًا لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً تَمْضِي مِنْ شَهْرِ أَيَّارَ، وَهُوَ شَهْرُ مَايُو. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنُ الْأَصْفَرُ مِنَ الْأَحْمَرِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الْجَوَائِحَ فِي الثِّمَارِ بِهَذِهِ الْآثَارِ، وَمَا كَانَ مِثْلَهَا مِنْ نَهْيِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَذْهَبَ الْعَاهَةُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: طُلُوعُ الثُّرَيَّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدِي لَمْ أَعْدُهُ، وَالْأَصْلُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَاعَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَقَبَضَهُ كَانَتِ الْمُصِيبَةُ مِنْهُ، قَالَ: وَلَوْ كُنْتُ قَائِلًا بِوَضْعِ الجوائحِ لَوَضَعْتُها فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى وَضْعِهَا، لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَبِهِ كَانَ يَقْضِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَضَعُوهَا عَنِ الْمُبْتَاعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى عُمُومِ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ اعْتَبَرُوا أَنْ تَبْلُغَ الْجَائِحَةُ ثُلُثَ الثَّمَرَةِ فَصَاعِدًا، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ أَلْغَوْهُ وَجَعَلُوهُ تَبَعًا، إِذْ لَا تَخْلُو ثَمَرَةٌ مِنْ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْقَلِيلُ مِنْ طِيبِهَا وَأَنْ يَلْحَقَهَا في اليَسيرِ مِنْها فَسَادٌ. وَكَانَ أَصْبَغُ وَأَشْهَبُ لَا يَنْظُرَانِ إِلَى الثَّمَرَةِ وَلَكِنْ إِلَى الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا وُضِعَ عَنْهُ. وَالْجَائِحَةُ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَعَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ السَّرِقَةُ جَائِحَةً، وَكَذَا فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ. وَفِي الْكِتَابِ أَنَّهُ جَائِحَةٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ وَالنَّاسُ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَا أَصَابَ الثَّمَرَةَ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عَفَنٍ أَوْ بَرَدٍ، أَوْ عَطَشٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ كَسْرِ الشَّجَرِ بِمَا لَيْسَ بِصُنْعِ آدَمِيٍّ فَهُوَ جَائِحَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَطَشِ، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ جَائِحَةٌ. وَالصَّحِيحُ فِي الْبُقُولِ أَنَّهَا (فِيهَا جَائِحَةٌ) كَالثَّمَرَةِ. وَمَنْ بَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ فُسِخَ بَيْعُهُ وَرُدَّ، لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَمَرَةَ، فَبِمَ أَخَذَ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ))؟ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَصَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ. وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى تَمَسُّكًا بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ. وَخَصَّصَهُ الْجُمْهُورُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَعْلُومٌ يَصِحُّ قَبْضُهُ حَالَةَ الْعَقْدِ فَصَحَّ بَيْعُهُ كسائر المبيعات.
قولُهُ تَعالى: {فَأَخْرَجْنَا نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} فَأَخْرَجْنَا: فِيهِ التفاتٌ من غَيْبةٍ إلى تَكَلُّمٍ بِنونِ العَظَمَةِ، والباءُ في "بِه" للسَبَبِيَّةِ، وقولُهُ: "نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ" قيلَ: المُرادُ كُلُّ ما تَسَمَّى نَباتاً في اللُّغةِ. وقالَ الفَرّاءُ: رَزَقَ كُلَّ شيءٍ أيْ: ما يَصْلُحُ أَنْ يَكونَ غِذاءً لِكُلِّ شيءٍ، فيكونُ مَخْصوصاً بالمُتَغذَّى بِهِ. وقالَ الطَبَريُّ: هوَ جَميعُ ما يَنْمُو مِنَ الحَيوانِ والنَباتِ والمَعادِنِ؛ لأَنَّ كُلَّ ذلك يَتَغَذَّى بالماءِ. ويَتَرَتَّبُ على ذلك صِناعَةٌ إعْرابِيَّةٌ، وذلك أَنَّا إذا قُلْنا بِقولِ غَيْرِ الفَرَّاءِ كانتْ الإضافَةُ راجعةً في المَعنى إلى إضافةِ شِبْهِ الصِفَةِ لِمَوْصوفِها، إذْ يَصيرُ المَعنى على ذلك: فأَخْرَجْنا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ مُنْبَتٍ فإنَّ النَباتَ بمَعنى المُنْبَتِ، ولَيْسَ مَصْدَراً ك هو في {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} نوح: 17. وإذا قُلْنا بقولِ الفَرّاءِ كانتِ الإِضافةُ إضافةً بَيْنَ مُتَبايِنَيْنِ، إذْ يَصيرُ المَعنى: غِذاء كلِّ شيء ٍأوْ رَزَقَهُ، وللفرَّاءِ في هذِهِ الآيَةِ القَولان المتقدِّمان فإنَّه قال: "رَزَقَ كُلَّ شَيْءٍ" قالَ: وكذا جَاءَ في التَفْسيرِ وهُوَ وَجْهُ الكَلامِ، وقدْ يَجوزُ في العَرَبيَّة أَنْ تُضيفَ النَباتَ إلى كُلِّ شيءٍ، وأَنْتَ تُريدُ بِكُلِّ شيءٍ النباتَ أيْضاً، فيَكونُ مِثلَ قولِهِ: {حَقُّ اليقين} الواقعة: 95. واليَقينُ هُوَ الحَقُّ.
قولُه: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} الظاهرُ أَنَّ الهاءَ تَعودُ على النَباتِ، و"مِنْ" على بابِها مِنْ كَوْنِها لابْتِداءِ الغايَةِ أَوْ تَكونُ للتَبْعيضِ، ولَيْسَ بِذلك. أو تَعودُ على الماءِ وتَكونُ "مِنْ" سَبَبِيَّةً، و"أخرجنا منه" أي: بِسَبَبِهِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ راجعةً على النَّباتِ، وعلى الأوَّلِ يكونُ "فأخرجنا" بدلاً مِن "أخرجنا" أيْ يُكتَفى في المَعنى بالإِخبارِ بالجُملةِ الثانيةِ، وذلك بناءً على عَوْدِ الضَميرِ في "منه" على الماءِ فلا يَصِحُّ أنْ يُجعَلَ بَدَلاً مطلقاً، لأنَّ البَدَلِيَّة لا تُتَصَوَّرُ على جَعْلَ الهاءِ في "منه" عائدةً على النَباتِ. والظَاهِرُ أنَّ "فأخرجنا" عَطفٌ على "فأخرجنا" الأوَّل.
والخَضِرُ بمَعْنى الأَخضرِ كَ "عَوِر وأَعْوَر". وهو منِ اخْضَرَّ يَخْضَرُّ فهو خَضِرٌ وأَخْضَر ك اعوَّرَّ فهو عَوِرٌ وأَعْورُ" والخُضْرة أَحَدُ الأَلْوانِ وهيَ بينَ البَياضِ والسَوادِ لكنَّها إلى السَوادِ أَقْرَبُ، ولِذلكَ أُطْلِقَ الأَسْوَدُ على الأَخْضَرِ وبالعَكْسِ، ومِنْهُ "سَوادُ العِراقِ" لِخُضْرَةِ أَرْضِهِ بالشَجَرِ. وقال تَعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} الرحمن: 64. أيْ: شديدتا السَوادِ لِريِّهِما. والمُخاضَرَةُ: مُبايَعَةُ الخُضَرِ والثِمارِ قبلَ بُلوغِها، والخَضِيرةُ نَخْلةٌ يَنْتَثِرُ بُسْرُها أَخْضَرَ. وقولُهُ عليْهِ الصَلاةُ والسلامُ: ((إيَّاكم وخَضْراءَ الدِّمَن)). فسَّرَهَ هُو ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ بقولِهِ: ((المَرْأَةُ الحَسْناءُ في المَنْبتِ السُوءِ)). والدِّمَنُ: مَطارِحُ الزِّبالَةِ وما يُسْتَقْذَرُ، فقد يَنْبُتُ فيها ما يَسْتَحْسِنُهُ الرائي.
قولُهُ: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتُراكِباً} أيْ: مِنَ الخَضِرِ. والجُمهورُ على "نُخْرج" مُسْنَداً إلى ضَميرِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ. وقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ والأَعْمَشُ "يَخْرُجُ حبٌّ" بِياءِ الغَيْبَةِ مَبْنِيّاً للمَفعولِ، و"حَبٌّ" قائماً مَقامَ فاعِلِه، وعلى كِلْتا القراءتيْنِ تَكونُ الجُمْلَةُ صِفَةً لـ "خَضِراً" كما هوَ ظاهِرٌ، وجوَّزوا فيها أنْ تَكونَ مُستَأْنَفَةً، و"متراكب" رَفعاً وَنصْباً صِفَةٌ لـ "حَبّ" بالاعْتِباريْنِ.
قوْلُهُ: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} يَجوزُ في هذْه الجُملَةِ أَنْ يَكونَ "من النخل" خبراً مُقدَّماً، و"من طَلْعِها" بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ بإعادَةِ العامِلِ فهو كقولِهِ تعالى في سورةِ المُمْتَحِنَة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ} الآية: 6. و"قِنْوان" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وهذِهِ جُمْلَةٌ ابْتِدائيَّةٌ عُطِفَتْ على الفِعْلِيَّةِ قَبْلَها. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "قِنْوان" فاعلاً بالجارِّ قبلَهُ أي بـ "مِنَ النخل"، و"من طلعها" باقٍ على ما تَقَدَّمَ مِنَ البَدَلِيَّةِ. كما يجوزُ أَنْ تَكونَ المَسأَلَةُ مِنْ بابِ التَنَازُعِ، أيْ أَنَّ كُلاًّ مِنَ الجارَّيْن يَطْلُب "قِنْوان" على أنَّه فاعلٌ، فإنْ أَعْمَلْتَ الثاني ـ وهُو المُختارُ عندَ البَصْريّين ـ أَضْمَرْتَ في الأوَّلِ، وإنْ أَعْمَلْتَ الأوَّلَ ـ وهو المختارُ عندَ الكُوفيِّين ـ أَضْمَرْتَ في الثاني، فيَرْتَفِعُ "قِنْوان" على أَنَّهُ فاعِلُ "مِنْ طلعها" فيكون في "من النخل" ضَميرٌ يُفسِّرُهُ "قنوان" وإنْ رَفَعْتَ "قنوان" بقولِه: "ومن النخل" على قولِ مَنْ أَعْمَلَ أَوَّلَ الفعليْنِ جازَ، وكان في "من طلعها" ضميرٌ مَرفوعٌ. وثمةَ وجه رابعٌ وهو: أَنْ يَكونَ "قنوان" مُبْتَدَأً و"من طلعها" الخبرُ، وفي "من النخل" ضَميرٌ تَقديرُه: ونَبَتَ مِنَ النَخْلِ شَيْءٌ أَوْ ثَمَرٌ، فيَكونُ "من طلعها" بَدَلاً مِنْه. وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ لأنَّهُ كيفَ يُجْعَلُ "مِنْ طلعها" بَدَلاً بَعدَ أَنْ جُعِلَ الخَبَرَ؟ فإنْ قِيلَ: يُجْعَلُ بَدَلاً مِنْه لأنَّ "من النخل" خبرٌ للمُبْتَدَأِ. فالجواب أَنَّه قد قُدِّمَ هذا الوجهُ وجُعِلَ مُقابلاً لهذا فلا بُدَّ أَنْ يَكونَ هذا غيرَهُ، فإنَّه جاء قبلَ ذَلك أنَّ في رَفْعِهِ وجْهان أَحَدُهُما: هو مُبْتَدَأٌ وفي خَبَرِهِ وجَهان، أَحَدُهُما هو "من النخل" و"من طَلْعِها" بَدَلٌ بإعادَةِ الجَارَّ. ومنه يظهر لنا أنَّ الوجهَ الأولَ في إعراب هذه الجملةِ هو أَحْسَنُ الوُجوهِ.