وإسماعيلَ واليَسَعَ ويُونُسَ ولُوطاً وكُلًا فَضَّلْنا عَلى العَالَمِين.
(86)
قولُه سبحانَهُ وتعالى: {وإسماعيلَ واليَسَعَ ويُونُسَ ولُوطاً} أيْ وهَديْنا "إسماعيلَ" بْنَ إبراهيمَ كما هَدَيْنا نوحاً، ولَعَلَّ الحِكمَةَ في إفرادِ إسماعيلَ عن باقي ذُرِّيَّةِ إبْراهيمَ أنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ كان مِنْ ذُرِّيَّةِ إسماعيلَ، والكائناتُ كانتْ تَبَعاً لِوُجُودِهِ ـ عليهِ وآلِهِ الصلاةُ والسلامُ ـ فمَا جَعَلَ اللهُ إسْماعيلَ تَبَعاً لِوُجودِ إبراهيمَ ـ عليهِما السلامُ ـ ولا هِدايَتَهُ تَبَعاً لِهدايَتِهِ لِشَرَفِ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ـ فلِذا أفْرَدَهُ عنهمْ وأخَّرَهُ في الذِكْرِ، "والْيَسَعَ ويونسَ ولوطاً وكلاً" مِنْهم أيْ كلَّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ المَذكورينَ، لا بَعْضَهم دونَ بَعْضٍ.
قولُهُ: {فَضَّلْنا على العالَمين} أيْ عالَمَيِ عَصْرِهِمْ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ وغيرِهِما مِنَ المَخلوقاتِ، بالنُّبُوَّةِ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ دَليلٌ على أَنَّ الأَنْبياءَ أَفْضَلُ مِنَ المَلائكةِ عليهمُ السلامُ. وقدْ ذَكَرَ اللهُ في هذه الآياتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيّاً وهُمْ:
1 ـ داوودُ: هو بْنُ يسي مِنْ سِبْطِ يَهوذا مِنْ بَني إسرائيلَ، وقيلَ: إنَّ
اسْمَ أَبيهِ هُو إيسا، أوْ إيشا، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، ويُقالُ إنَّهُ ابْنُ إسْحاقَ بْنِ إبراهيمَ ـ على نَبيِّنا وعليهِمُ السَّلامُ. وكانت ولادتُه في "بيتَ لَحْم" سنةَ: 1085 ق.م أو: 1032. ق.م تقريباً وتُوفّيَ في أُورشليمَ سنة: 975. ق.م. أو سنة: 1000. ق.م تقريباً، وهو الذي قتلَ جالوتَ كما جاءَ في القرآنِ الكريمِ {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلكَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشَاءُ} البقرة: 251.
2 ـ سُلَيْمانُ: هو بْنُ داوودَ ـ عليهِما السَّلامُ ـ وُلِدَ بأُورْشَليمَ حوالَيْ سَنَة: 1043 ق.م وتُوفِيَ سَنَةَ: 975 ق.م. وقد جاءَ ذِكْرُ داوودَ وسُلَيْمانَ في كثيرٍ مِنْ آياتِ القُرآنِ الكَريمِ، ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمدُ للهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} النمل: 15.
3 ـ أَيّوبُ: قالَ ابْنُ جَريرٍ: هوَ ابْنُ مُوصى بْنُ رُوم بْنُ عَيْصَ بْنُ إسْحاقَ، وروى الطبراني أنَّ مُدَّةَ عُمْرِهِ كانتْ ثلاثةً وتِسعينَ سَنَةً.
4 ـ يُوسُفُ: وهو ابْنُ يَعقوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهيمَ، وكانت ولادتُه قبلَ ميلادِ عيسى ـ عليهمُ السلامُ جميعاً ـ بأَلْفَيْ سَنَةٍ تقريباً.
5 ـ موسى: وهو ابْنُ عِمْرانَ بْنِ يَصْهَر بْنِ ماهيثَ بْنِ لاوي بْنِ يَعقوبَ، وكانتْ وِلادَتُهُ حواليْ القرنِ الرّابِع عَشَرَ ق.م.
6 ـ هارونُ: وهو أَخو مُوسى لأُمِّهِ، وقيلَ لأَبيهِ وأُمِّهِ، وقيلَ ماتَ قُبَيْلَ
مُوسى بِزَمَنٍ يَسيرٍ.
7 ـ زكريّا: وهو ابْنُ أزن بْنِ بَركيا ويَتَّصِلُ نَسَبُه بِسُليْمان ـ عليهِما السلامُ ـ وكان قريبَ العَهدِ ب "عيسى" حيثُ تَوَلَّى كَفالَةَ أُمِّهِ مَرْيَمَ كما جاءَ في القرآنِ الكريمِ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} آل عمران: 37.
8 ـ يحيى: وهو ابْنُ زَكريّا ـ عليهِما السلامُ.
9 ـ عيسى: وهو ابنُ مَرْيَمَ. قالَ ابْنُ كثيرٍ. وفي ذِكْرِ عيسى في ذُرِّيَّةِ
إبْراهيمَ أوْ نُوحٍ دَلالةٌ على دُخولِ وَلَدِ البَناتِ في ذُرِّيَّةِ الرّجُلِ ـ كما تقدَّمَ ـ لأنَّ انْتِسابَ عيسى ليسَ إلاّ مِنْ جِهَةِ أُمِّ مَرْيَمَ.
10 ـ إلْياسَ: وهو ابْنُ فنحاصَ بنِ العيزار بن هارون أَخي موسى وهو المَعروفُ في كُتُبِ الإسرائيليين باسْمِ "إيليا" وقد أَرْسَلَهُ اللهُ إلى بَني إسرائيلَ حين عَبَدوا الأَوثانَ، قالَ تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} الصافات: 123 ـ 126. ويقال إنَّه كان موجوداً في زمنِ المَلِكِ "آخاب" مَلكِ بني إسرائيل حوالي سنة: 918 ق.م.
11 ـ إسماعيلُ: وهو الابْنُ الأَكْبَرُ لإبْراهيمَ ـ عليهِما السلامُ ـ وَجَدُّ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ. ونُقِلَ عَنِ الجَوالِقي أَنَّ آخرَهُ نُونٌ أي "إسماعين" قيلَ ومعناهُ: مُطيعُ اللهِ.
12 ـ اليَسَعَ: وهو ابْنُ شافاطَ، وقيل: هو ابْنُ أخْطوبَ بْنِ العَجوزِ، واللامُ زائدةٌ لأنَّهُ عَلَمٌ أعْجَمِيٌ، ودَخَلَتْ عليْه اللامُ على خلافِ القِياسِ، وقيل: هو مُعَرَّبُ يُوشَعَ، وقيلَ: هو عربيٌّ مَنْقولٌ مِنْ يَسَعُ مُضارِعُ وَسِعَ، وكانت وفاتُه حوالي سنة: 840 ق.م. ودُفِنَ بالسامرة.
13 ـ يونس: مُثَلَّثُ النُونِ، وهو ابْنُ مَتّى بِفَتْحِ المِيمِ وتَشديدِ التاءِ الفَوْقِيَّةِ، ك "حَتَّى"، مَقْصورٌ، ويُقالُ مَتَتَى بالفَكِّ وهوَ اسْمُ أَبِيهِ، ويقالُ: إنَّ "متّى" هو اسْمُ أُمِّهِ، وليس بشيءٍ، وقيلَ: إنَّهُ كان في زَمَنِ مُلوكِ الطَوائفِ مِن َالفُرْسِ، أَرْسَلَهُ اللهُ إلى أَهْلِ "نِينَوى" مِنْ بِلادِ "آشور" في حَوالَيْ القَرْنِ
الثامِنِ ق.م.
14 ـ لُوط: وهو ابنُ هاران بنِ تارح بْنِ آَزَرَ فهو ابنُ أخي إبراهيم، وجاء في (المُسْتَدْرَكِ) للحاكِمِ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ أنَّهُ ابْنُ أخي إبراهيمَ ولمْ يُصَرِّحْ باسْمِ أَبيهِ، وكانت رسالتُه إلى أَهْلِ سَدوم مِنْ شَرقِ الأُرْدُنِّ.
وثمَّةَ لَطيفَةٌ في هذا التَرتيبِ الذي ذكَرَ اللهُ ـ تَعالى ـ فيه هُنا ثمانيةَ عَشَرَ نَبِيّاً مِنْ غيرِ ترتيبٍ بِحَسَبِ الزَمانِ ولا بِحَسَبِ الفَضْلِ، يَحْسُنُ الإشارةُ إليها، وهي أنَّ اللهَ تعالى خَصَّ كلَّ طائِفةٍ مِنَ الأنبياءِ بِنَوْعٍ مِنَ الكَرامَةِ والفَضْلَ. فَذَكَرَ أَوَّلاً نُوحاً وإبراهيمَ وإسْحاقَ ويَعقوبَ لأنَّهم أُصُولُ الأَنْبياءِ وإليهم يَرْجِعُ حَسَبُهم جَميعاً. ثمَّ مِنَ المَراتِبِ المُعْتَبَرَةِ بعدَ النُبُوَّةِ المُلْكُ والقُدْرَةُ والسُلْطانُ، وقد أَعْطى اللهُ مِنْ ذلكَ داوودَ وسُليمانَ حَظّاً وافراً.
قولُهُ تَعالى: {واليَسَع} قرأ الجمهور: "الْيَسَعَ" بِلامٍ واحدةٍ وفَتْحِ الياءِ بعدَها، وقرأ الأَخَوان حمزةُ الزَيَّاتِ وعَلِيٌّ بْنُ حَمْزَةَ الكِسائيّ، وكذلك قَرَأَ خَلَفٌ البَزّارُ: اللَّيْسَع، بِلامٍ مُشَدَّدَةٍ وياءٍ ساكِنَةٍ بعدَها، فقِراءةُ الجُمهورِ على أنَّهُ مَنْقولٌ مِنْ فعلٍ مُضارِعٍ، والأَصْلُ: يَوْسِعُ كيَوْعِدُ، فوَقَعَتِ الواوُ بيْنَ ياءٍ وكَسْرَةٍ تَقديريَّةٍ، لأنَّ الفتحةَ إنَّما جِيءَ بها لأجلِ حَرْفِ الحَلْقِ فحُذِفَتْ لِحَذْفِها في يَضَعُ ويَدَعُ ويَهَبُ وبابُهُ، ثمَّ سُمِّيَ بِهِ مُجَرَّداً عنْ ضميرٍ، وزِيدتْ فيهِ الأَلِفُ واللامُ على حَدِّ زيادَتِها في قولِ ابْن مَيَّادَةَ في
الوَليدِ بْنِ يَزيد:
رأيت الوليدَ بنَ اليزيد مبارَكاً ................ شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ
وكقولِ أَبي النَّجْمِ العِجْلِيِّ:
باعَدَ أمَّ العمرو مِنْ أَسيرِها ................... حُرَّاسُ أبوابٍ على قصورِها
وقيلَ: الألفُ واللامُ فيه للتَعريفِ كأنَّه قَدَّرَ تَنْكيرَهُ. أو على أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لا اشْتِقاقَ لَهُ، لأنَّ اليَسَعَ يُقالُ لَهُ يُوشَع بْنُ نُونٍ فَتى مُوسى، فالألفُ واللامُ فيه زائدتان أوْ مُعَرِّفَتان كما تقدَّم قبلَ ذلك، وهلْ "أل" لازمةٌ له على تقدير زيادتِها؟ فقالَ الفارسيُّ: إنَّها لازِمَةٌ شُذوذاً كَلُزومِها في "الآن" وقالَ ابْنُ مالِكٍ: ما قارنتِ الأَداةُ نَقْلَهُ كالنَّصْرِ والنُعمانِ، أوْ ارْتجالَهُ
كاليَسَعَ والسَمَوْءَلِ فإنَّ الأَغْلَبَ ثُبوتُ "أل" فيه، وقد تُحْذف.
وأمَّا قِراءَةُ الأَخَوَيْنِ وخلف فأصلُهُ لَيْسَعَ ك ضَيْغَمَ وَصَيْرَفَ وهوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، ودُخولُ الأَلِفِ واللامِ فيهِ على الوَجْهيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ. واخْتارَ أبو عُبيدٍ قراءةَ التَخْفيفِ فقالَ: سَمِعْنا اسْمَ هذا النَبِيِّ في جَميعِ الأَحاديثِ: "اليَسَعَ"، ولَمْ يُسَمِّهِ أَحَدٌ مِنْهم اللَّيْسَعَ. وهذا لا حُجَّةَ فيهِ لأنَّهُ رُوي اللفظَ بأحدِ لُغَتَيْهِ، وإنَّما آثَرَ الرُواةُ هذِهِ اللَّفْظَةَ لِخِفَّتِها لا لِعَدَمِ صِحَّةِ الأُخْرى. وقالَ الفَرَّاءُ في قِراءةِ التَشديدِ: هي أَشْبَهُ بِأَسْماءِ العَجَمِ. وقدْ تَقَدَّمَ أَنَّ في نونِ "يُونُسَ" أي: "يونُس ويونِس ويونَس" ثَلاثَ لُغاتٍ وكذلكَ في سَينِ يُوسُف.
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(87)
قولُهُ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} أي: ومِنْ آباءِ هؤلاءِ الأَنبياءِ وذُرِّيّاتِهم وإخوانِهم مَنْ هَدَيْناهُ إلى الطريقِ المُسْتَقيمِ. أيْ: فَضَّلْنا هؤلاءِ الأنبياءَ واخترناهم وهديْناهم إلى الطريقِ الواضِحِ. و"من" أي بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وليس كُلَّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ وإخوةِ يوسُف. وهذا في غيرِ الآباءِ لأنَّ آباءَ الأنْبياءِ كلَّهم مَهْدِيُّونَ مُوَحِّدون، وهذا مُخْتَلَفٌ فيهِ نَظراً إلى آباءِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ ـ وقولِه تعالى: {وتَقَلُّبَكَ في الساجدين} الشعراء: 219. في أَحَدِ أَوْجُهِ تَفْسيرِها ـ كما سَيأتي في مَوْضِعِهِ بإذْنِ اللهِ، ولا يَخفى أنَّ إضافَةَ الآباءِ والأَبْناءِ والإخوانِ إلى ضَميرِهم لا يَقتَضي أَنْ يَكونَ لِكُلٍّ منهم أَبٌ أوِ ابْنٌ أوْ أَخٌ.
قولُهُ: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} اصطفيناهم، واجْتِباءُ اللهِ العَبْدَ تخصيصُه تَعالى إيَّاهُ بفيضٍ إلهيٍّ يَتَحَصَّلُ لَهُ مِنْهُ أَنْواعٌ مِنَ النِّعَمِ بِلا سعيٍ مِنَ العَبْدِ، وذلك للأنبياءِ وبعضِ مَنْ يُقارِبُهم مِنَ الصِدِّيقينَ والشُهَداءِ. والاجْتِباءُ الجَمْعُ على طَريقِ الاصْطِفاءِ قال تعالى: {فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} القلم: 50.
وقولُهُ: {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهديناهم: أيْ وَفَّقْناهُم وبَصَّرْناهم، وأَرْشَدْناهُم وحَبَّبْنا لهم، و"صراطٍ مُستقيمٍ" طريقٍ قويمٍ مضمونٍ مُوصِلٍ إلى رِضا اللهِ وجَنَّتِهِ في الآخِرَةِ، ومُؤَدٍّ إلى السَعادَةِ وراحةِ النَّفسِ والضَميرِ وطُمَأْنينَةِ القَلْبِ في الدُنْيا، لا يَضِلُّ مَنْ سَلَكَهُ، ولا يُفْلِحُ مَنْ تَرَكَهُ.
قولُه تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ} متعلِّقٌ بفعلٍ مُقدَّرٍ أيْ: وهَدَيْنا أوْ فَضَّلْنا مِنْ آبائهم، و"مِنْ" ابْتدائيَّةٌ. أي وهديْنا مِنْ آبائِهم وذُرِّياتِهم وإخوانِهم جماعاتٍ. ويُمْكِنُ أنْ يَكونَ "وَمِنْ آبَائِهِمْ" معطوفاً على {كلاًّ} و"من" تَبْعيضِيَّةٌ، أي: وفضَّلنا بَعضَ آبائهم وذُرِّياتِهم وإخوانِهم. وجعَلَهُ بعضُهم عَطفاً على {نُوحاً} الأنعام: 84، و"من" واقعةٌ مَوْقِعَ المَفعولِ بِهِ مُؤوَّلاً بِـ "بعض".
وقولُه: {واجتَبَيْناهم} يَجوزُ أنْ يُعْطَفَ على {فَضَّلنا}، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مُسْتَأْنَفاً، وكرَّرَ لَفظَ الهِدايةِ تأكيداً وتَمْهيداً لِبَيانِ ما هُدُوا إليهِ، ولأنَّ الهِدايةَ أَصْلُ كُلِّ خيرٍ.
ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
(88)
قولُهُ ـ جَلَّ شأنُه: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، فـ "ذلك" أيْ الهُدى إلى الطريقِ المُستقيمِ أوْ ما يُفْهَمُ مِنَ النَّظْمِ الكَريمِ مِنْ مَصَادِرِ الأَفْعالِ المَذْكورَةِ أوْ ما دانوا به، وما في ذلك مِنْ معنى البُعْدِ لِما مَرَّ مِراراً "هُدَى الله" والإضافةُ للتَشريفِ "يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء" هِدايَتَهُ "مِنْ عِبَادِهِ" وهُمُ المُسْتَعِدُّون لِذلك، وفي تعليقِ الهِدايَةِ بالمَوصولِ إشارةٌ إلى عِلِّيَّةِ مَضْمونِ الصِلَةِ، ويُفيدُ ذلك أَنَّه تعالى مُتَفَضِّلٌ بالهِدايةِ.
قولُهُ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَلَوْ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ أَحَداً، لَهَلَكَ عَمَلُهُمْ، وَلَضَاعَ أَجْرُ أَعَمْالِ الخَيْرِ التِي عَمَلُوهَا، وَهَذا تَشْدِيدٌ لأَمْرِ الشِّرْكِ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ. فـ "حَبِطَ" أيْ بَطُلَ وسَقَطَ "عَنْهُمْ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" أي ثوابِ أَعْمالِهم الصالحةِ، مَعَ فَضْلِهم وعُلُوِّ شأنِهِم، فكيفَ بِمَنْ عَداهُم وهُمُ هُمْ وأَعْمالُهُم أَعْمالُهم.
قوله تعالى: {ذلك هُدَى اللهِ} ذلك: اسْمُ إشارةٍ والمُشارُ إليه هو المَصْدَرُ المَفهومُ مِنَ الفِعْلِ قَبْلَهُ: إمَّا الهِدايَةُ، وإمَّا الاجْتِباءُ، أيْ: ذلك الاجْتِباءُ هُدىً، أو ذلك الهُدى إلى الطريقِ المُستقيمِ هُدَى اللهِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ "هدى الله" خبَراً، ويَجوزُ أنْ يَكونَ بَدَلاً مِنْ "ذلك"، والخَبَرُ "يهدي به"، وعلى الأَوَّلِ يَكونُ "يهدي" حالاً والعاملُ فيه اسْمُ الإِشارةِ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ خَبَراً ثانياً. و"مِنْ عبادِه" تَبْيِينٌ أوْ حالٌ: إمَّا مِنْ "مَنْ" وإمَّا مِنْ عائدِهِ المَحذوفِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ
(89)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أُولئك: الإشارةُ إلى الثمانيةَ عَشَرَ نبيّاً المَذكورينَ في الآية 86 السابقة والمعطوفين عَليهِمْ في قولِهِ تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} الآية: 87. باعْتِبارِ اتِّصافِهم بِما ذُكِرَ مِنَ الهِدايَةِ وغيرِها مِنَ النُّعوت الجَليلةِ. والمُرادُ بالإيتاءِ التَفهيمُ التامُّ لِما فيهِ مِنَ الحَقائقِ والتَمْكينِ مِنَ الإحاطَةِ بالجَلائلِ والدَّقائقِ. و"الكتاب" أيْ جِنْسَه. و"الحكم" هو الفصلُ بيْنَ الناسِ بالحَقِّ، أوِ الحِكْمَةُ وهي مَعْرِفَةُ حَقائقِ الأمورِ أو الاثنين معاً، "والنبوة" الرِسالةَ لأنَّ المَذكورينَ كانوا رُسُلاً وقيل إنَّ بعضَهم لم يَكُنْ مُرْسَلاً ك "داوودَ" عليه السلام، وإنْ كان لهُ كِتابٌ، وكذلك يُوسُفُ بْنُ يَعقوبَ ـ عليهِما السلامُ، وقالوا إنَّ المَقصودَ في قولِهِ تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبَيِّنات} غافر: 34. هو يوسُفُ بْنُ إفراثيم بْنِ يوسفَ بْنِ يعقوبَ، وهو غريبٌ. وقيل إنَّما ذُكِرَ الأَعَمُّ لأنَّ بَعْضَ مَنْ دَخَلَ في عُمومِ آبائهم وذُريَّاتِهم ليْسوا رسلاً.
قولُهُ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤلاء} بها: أَيْ بِآيَاتِنَا، أو بهذِهِ الثَلاثةِ "الكتابَ والحكمَ والنبوّةَ" أو بالنُبُوَّةِ الجامِعةِ للباقي. "هَؤُلَاءِ" أَيْ كُفَّارُ عَصْرِكَ يَا مُحَمَّدُ، وقال ابنُ عباسٍ وقتادةُ ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أيْ أهلُ مَكَّة، بِدَلالةِ الإشارةِ والمَقامِ. وقيلَ: المُرادُ كلُّ الكُفَّارِ بِنُبُوَّتِهِ ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ مُطلَقاً، لأنَّ كُفْرَهم بِهِ وبما أُنزِلَ عليْه مِنَ القُرآنِ يَستلزِمُ كفرَهم بما بجميع ما يُصدِّقُه.
قولُه: {فَقَدْ وَكَّلْنا بِها} أَيْ وَكَّلْنَا بِالْإِيمَانِ بها ورعايَتِها والقيامِ بحُقوقِها "قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ" يُريدُ الْأَنْصَارَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي النَّبِيِّينَ الَّذِينَ قَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدُ:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ". وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ.
قولُهُ تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتابَ} أولئك: مُبْتَدَأٌ وَ"الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتابَ" خَبَره.
قولُه: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً} إنْ: أداةُ الشرط، "يَكْفُرْ" فعلُ الشرطِ، وجوابُهُ مَحذوفٌ يَدُلُّ عليه جُملةُ "فَقَدْ وَكَّلْنَا". والهاء في "بها" تعودُ على الثلاثةِ الأشياءِ وهي: الكتابُ والحكمُ والنُبوَّةُ. وقيل: تعودُ على النبوَّة فقط لأنَّها أَقْرَبُ مذكورٍ. والباءُ في "بها" متعلقةٌ بخبر ليس، وقُدِّم على عاملها للفواصل. ونُوِّنَ "قَوْماً" للتفخيم. وهو مفعولُ "وَكَّلْنَا". والباء في "بكافرين" زائدةٌ للتوكيدِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ. (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ} أي وهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً إلى الحَقِّ والصِّراطِ المُستقيمِ، والالْتِفاتُ إلى الاسْمِ الجَليلِ للإشعارِ بِعِلَّةِ الهِدايَةِ وحِفْظِ المَهْدي إليْهِ اعْتِماداً على غايةِ ظُهورِهِ.
وقولُهُ: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} أي فَاهْتَدِ، يَا مُحَمَّدُ، بِهُدَاهُمْ، وَاقْتَدِ بِهِمْ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ، وَالعَفْوِ عَنْهُم، الِاقْتِدَاءُ طَلَبُ مُوَافَقَةِ الْغَيْرِ فِي فِعْلِهِ. فقيل: المعنى اصبِرْ كما صَبَروا. وقيل: مَعْنَى "فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" التَّوْحِيدُ وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا عُدِمَ فِيهِ النَّصُّ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ أُخْتَ الربيع أمَّ حارثةَ جَرَحَتْ إنساناً فاختصموا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ((الْقِصَاصَ الْقِصَاصَ)) فقالت أمُّ الربيع: يا رسول الله أيُقْتَصُّ مِنْ فُلانة؟! والله لا يُقْتَصُّ منها. فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَلامُ: ((سُبْحَانَ الله يا أمَّ الربيعِ القصاص كتابُ اللهِ)). قَالَتْ: وَاللهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا. قَالَ: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)). فَأَحَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على قولِه: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة: 45. وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى نَصٌّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ التَّوْرَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهَا وَأَحَالَ عَلَيْهَا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا وُجِدَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: وهو الذي تقتضيه أصول مالك وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وأصحاب الشافعي والمعتزلة، لقوله تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً}. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ: إِلَّا فِيمَا قُصَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ مِمَّا لم يأت من كِتَابِكُمْ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ "ص" فَقَالَ: سَأَلْتُ ابن عباس عن سجدة "ص" فقال: أو تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إِلَى قَوْلِهِ: "أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"؟ وَكَانَ دَاوُودُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ. فتَعيَّنَ أَنَّ الاقتداءَ المَأْمورَ بِهِ ليسَ إلاَّ في الأخلاقِ الفاضِلَةِ والصِفاتِ الكامِلَةِ كالحُلْمِ والصَبْرِ والزُهْدِ وكَثْرَةِ الشُكْرِ والتَضَرُّعِ ونَحْوِها، ويَكونُ في الآيةِ دليلٌ على أنَّه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أَفْضَلُ منهم قَطْعاً لِتَضَمُّنِها أَنَّ اللهَ تَعالى هَدَى أُولئكَ الأنبياءَ ـ عليهِمُ السلامُ إلى فَضائلِ الأَخْلاقِ وصفاتِ الكَمالِ، وحيثُ أُمِرَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ أنْ يَقْتَدي بِهداهُمْ جَميعاً امْتَنَعَ ـ للعِصْمَةِ ـ أنْ يُقالَ: إنَّه لم يَمْتَثِلْ فلا بُدَّ أَنْ يُقالَ: إنَّهُ ـ عليْه الصلاةُ والسَّلامُ ـ قدْ امْتَثَلَ وأَتى بِجميعِ ذَلكَ وحَصَّلَ تلكَ الأَخْلاقَ الفاضِلَةَ التي في جميعِهم، فاجْتَمَعَ فيه مِنْ خِصالِ الكَمالِ ما كان مُتَفَرِّقاً فيهم، وحينئذٍ يَكونُ أَفْضَلَ مِنْ جَميعِهم قَطْعاً كما أَنَّه أَفضَلُ مِنْ كُلِّ واحدٍ مِنْهم. وفي أَمْرِهِ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَلامُ ـ بالاقْتِداءِ بِهُداهُم دونَ الاقْتِداءِ بِهم ما لا يَخْفَى مِنَ الإشارَةِ إلى عُلُوِّ مَقامِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ. وفى قولِهِ: "فَبِهُدَاهُمُ اقتده" تعريضٌ بالمُشْرِكين، إذْ أَنَّ النَبِيَّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ ما جاءَ إلاَّ على سُنَّةِ الرُسُلِ كُلِّهم، وأَنَّهُ ما كان بِدْعاً مِنْهم، أَمَّا هُمْ فقدِ اخْتَلَقوا لأَنْفُسِهم عِباداتٍ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطان.
قولهُ: {قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أيْ لا أطْلُبُ مِنْكمْ "عَلَيْهِ" أيْ على القُرآنِ أَوْ على التَبْليغِ فإنَّ مَساقَ الكلامِ يَدُلُّ عليهِما وإنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُما، و"أَجْراً" أَيْ جُعْلًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، كَما لَمْ يَسْأَلْهُ الأَنْبياءُ مِنْ قَبْلي مِنْ أُمَمِهم، وهذا مِنْ جُمْلَةِ ما أُمِرْنا بالاقْتِداءِ بِهِ مِنْ هُداهُمْ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ ـ لأنَّ عَدَمَ أَخْذِ الأجْرِ على الإحْسانِ مِنَ مكارِمِ الأَخْلاقِ والأفعالِ الحِسان. وعلى هذا جَرى الأَنبياءُ الأَوْلياءُ والعُلَماءُ مِنْ أَهْلِ الإرشادِ إذْ لا أجْرَ للتَعليمِ والإرشادِ، فلا يَجوزُ الطمَعُ بالدُنيا لأهلِ الآخِرَةِ ولا لأهلِ اللهِ تعالى وإنَّما خِدمةِ الدينِ مُجرَّدَةً عَنِ الأغراضِ مُطْلَقاً. وقد تقدَّمَ لنا تفصيلٌ في ذلك.
قولُهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ} إِنْ هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ. "إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ" أَيْ هُوَ مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ. وَأَضَافَ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" لِوُقُوعِ الْهِدَايَةِ بِهِمْ. وَقَالَ: {ذلِكَ هُدَى اللهِ} الأنعام: 88. لأنَّه الخالقُ للهِدايَةِ. واسْتُدِلَّ بالآيَةِ على عُمومِ بِعْثَتِهِ ـ عليْه الصلاةُ والسَّلامُ ـ إلى الجِنِّ والإنْسِ وأَنَّ دَعوَتَه قدْ عَمَّتْ جَميعَ الخَلائقِ، لِقَوْلِهِ: "للعالمين" فما هذا القُرآنُ إلاَّ تَذكيراً ومَوْعِظَةً للخلقِ أَجمعينَ في كلِّ زَمانٍ ومَكانٍ.
قولُهُ تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ} أُولئك: مَفعولٌ مقدَّمٌ لـِ {هَدَى اللهُ}، وجَعْلُهُ بعضُهم مُبْتَدَأً على حَذْفِ العائدِ، أيْ: هَداهُمُ اللهُ، كقولِه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} المائدة: 50. برفع "حكم" وفي هذا الوجهِ ضَعفٌ.
وقولُه: {بِهداهُم} مُتَعَلِّقٌ ب "اقْتَدِ". وتقديمُهُ مُفيدٌ للاخْتِصاصِ.
وقولُه: {عَلَيْهِ} الهاءُ تَعودُ على القرآنِ أوِ التَبْليغِ، أُضْمرا وإنْ لم يَجْرِ لَهُما ذِكْرٌ لِدَلالَةِ السِياقِ عَليهِما.
وقولُه: {إنْ} نافيةٌ ولا عملَ لَها ـ على المَشْهور ـ ولو كانت عاملةً لبَطَلَ عَمَلُها ب "إلاَّ".
وقولُه: {للعالَمين} متعلِّقٌ ب "ذكرى" واللامُ مُعَدِّيَةٌ، أيْ: إنْ القرآنُ إلاَّ تَذكيرُ العالَمين. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مُتَعَلِّقةً بمَحذوفٍ على أَنَّها صِفَةٌ لـِ "ذكرى".
قولُهُ: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} الاقتداءُ في الأَصْلِ: طَلَبُ المُوافَقَةِ، ويُقالُ: قُدْوَةٌ وقِدْوٌ، وأَصْلُهُ مِنَ القِدْوِ وهُو أَصْلُ البِناءِ الذي يتَشَعَّبُ مِنْهُ تَصريفُ الاقْتِداءِ.
وقرأَ الأَخَوانِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "اقتدِ" بِحَذْفِ هذه الهاءِ في الوَصْلِ، وأثبتها ساكنةً الباقون وصْلاً ووَقْفاً، إلاَّ ابْنَ عامرٍ فقد قرأَ بكَسْرِها، ونَقَل ابنُ ذكوانَ عنْه وجهيْنِ، أَحَدُهُما: الكَسْرُ مِنْ غيْرِ وَصْلٍ بِمَدَّةٍ. والآخَرُ وصْلُه بِمَدَّةٍ، أمَّا في الوَقْفِ فإنَّ القُرَّاءَ اتَّفَقوا على إثباتِها سَاكِنَةً، كما اخْتَلَفوا أَيْضاً في قولِهِ تعالى في سورة الحاقَّةِ: {مَالِيَهْ} و{سُلْطَانِيَهْ} الآيتين: 28و29، وفي {مَاهِيَهْ} الآية: 10. من سورة القارعة، بالنسبة إلى الحذف والإِثبات، واتَّفَقوا على إثْباتِها في {كِتَابيَهْ} الحاقة: 19. و{حِسَابِيَهْ} الحاقة: 20.
فأمَّا قراءةُ الأخوين فالهاءُ عندَهُما للسَكْتِ فلِذلكَ حَذَفاها وَصْلاً إذْ مَحَلُّها الوقفُ، وأَثْبتاها وقفاً إتْباعاً لِرَسْمِ المُصحَفِ، وأَمَّا مَنْ أَثْبَتَها ساكنةً فتَحْتَمِلُ عِندَه وجْهيْنِ أَحَدُهُما: هي هاءُ سَكْتٍ، ولَكِنَّها ثَبَتَتْ وَصْلاً إِجْراءً للوَصْلِ مُجْرى الوَقْفِ كقولِهِ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر} البقرة: 259. في أَحَدِ الأَقْوالِ، وقد تقدَّمَ. والآخرُ: أَنَّها ضميرُ المَصْدَرِ سُكِّنَتْ وصْلاً إجراءً للوَصْلِ أَيْضاً مُجْرى الوَقْفِ نحوَ: {نُؤْتِهِ} آل عمران: 145. و{فَأَلْقَهِ} النمل: 28. و{أَرْجِهْ} الأعراف: 111. {نُوَلِّهِ} و{وَنُصْلِهِ} النِّساء: 115.
واختُلِفَ في المصدرِ الذي تَعودُ عَلَيْه هذِه الهاءُ فقيل: الهُدى، أيْ: اقْتَدِ الهُدى، والمعنى: اقْتَدِ اقْتِداءَ الهُدى، ويَجوزُ أنْ يَكونَ "الهُدى" مَفعولاً مِنْ أَجْلِهِ أيْ: فبِهُداهُمُ اقْتَدِ لأَجْلِ الهُدى، وقِيلَ: تعود على الاقْتِداءِ أيْ: اقْتَدِ الاقْتِداءَ. ومِنْ إضْمارِ المَصْدَرِ قولُه:
هذا سُراقةُ للقرآنِ يدرسُه ............... والمرءُ عند الرُّشا إن يَلْقَها ذيبُ
وهو واحدٌ من خمسين بيتاً استشهد بها سيبويه في كتابه ولم يذكر اسمَ قائلها، وقولهُ: يدرُسهُ، أي: يَدْرُسُ الدَّرْسَ، ولا يَجوزُ أَنْ تَكونَ الهاءُ ضَميرَ القرآن، لأن الفعل قد تعدَّى لَه، وإنَّما زِيْدتِ اللامُ تَقْويَةً لَهُ حَيْثُ تقَدَّمَ مَعْمُولُه ولذلكَ جَعَلَ النُّحاةُ نَصْبَ "زَيْداً" مِنْ قولِكَ "زيداً ضربتُه" بِفعلٍ مُقَدَّرٍ خِلافاً للفَرَّاءِ. وقالَ ابْنُ الأَنْباري: إنَّها ضَميرُ المَصْدَرِ المُؤكَّدِ النائبِ عَنِ الفِعْلِ، وإنَّ الأَصْلَ: اقْتَد اقْتَد، ثمَّ جُعِلَ المَصْدَرُ بَدَلاً مِنَ الفِعْلِ الثاني، ثمَّ أُضْمِرَ فاتَّصَلَ بالأَوَّلِ.
وأَمَّا قِراءةُ ابْنِ عامرٍ فالظاهرُ فيها أَنَّها ضميرٌ وحُرِّكَتْ بالكَسْرِ مِنْ غيرِ وَصْلٍ، وهوَ الذي يُسَمِّيهِ القُرَّاءُ الاخْتِلاسَ تارةً، وبالصِلَةِ تارةً أُخرى وهُوَ المُسَمَّى إشْباعاً، كما قُرِئَ: "أَرْجِهِ" ونَحْوُهُ، وإذا تَقرَّرَ هذا فقولُ ابْنِ مُجاهدٍ عنِ ابْنِ عامرٍ، يُشِمُّ الهاءَ الكَسْرَ مِنْ غيرِ بُلوغِ ياءٍ، وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ هذهِ الهاءَ هاءُ وَقْفٍ لا تُعْرَبُ في حالٍ مِنَ الأَحْوالِ، أَيْ لا تُحَرَّكُ وإنَّما تَدْخُلُ لِتَبِيْنَ بها حَرَكَةُ ما قَبْلَها وليسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّها ضَميرُ المَصْدَرِ. وقدْ رَدَّ الفارسيُّ قولَ ابْنِ مُجاهِدٍ بِما تَقَدَّمَ. والوَجْهُ الثاني: أَنَّها هاءُ سَكْتٍ أُجْرِيَتْ مُجْرى هاءِ الضَميرِ، كما أُجْريَتْ هاءُ الضَميرِ مُجْراها في السُكونِ، وهذا ليس بجيِّدٍ، وقولُ المُتنبّي:
واحَرَّ قلباهُ ممَّن قلبُه شَبِمُ .............. وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
رُويَ: "قَلباهُ و"قلباهِ" بِضَمِّ الهاءِ وكَسْرِها على أَنَّها هاءُ السَّكْتِ شُبِّهَتْ بِهاءِ الضَميرِ فَحُرِّكتْ، والأَحْسَنُ أَنْ تَجْعَلَ الكَسْرَ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ لا لِشِبَهِها بالضَميرِ، لأنَّ هاءَ الضَميرِ لا تُكْسَرُ بَعْدَ الأَلِفِ فَكَيْفَ بِما يُشْبِهُها؟