قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ.
(115)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ} منزِّلها: تفيدُ صيغةُ التَفعيلِ هذه أنَّ المائدة قد نَزَلَتْ مَرَّاتٍ عديدةِ، ووُرودُ الإجابَةِ منْه ـ تعالى ـ كذلك معَ كونِ الدُّعاءِ مِنْه ـ عليه السلامُ ـ بصيغةِ الأفعالِ لإظهارِ كمالِ اللُّطفِ والإحسانِ مَعَ ما فيه مِنْ مُراعاةِ ما وَقَعَ في عبارةِ السائلين، وفي تصديرِ الجُملةِ بِكلمةِ التَحقيقِ وجَعْلِ خبرها اسْمًا تحقيقٌ للوَعْدِ وإيذانٌ بأنَّه ـ سبحانَه وتعالى ـ مُنْجِزٌ لَهُ لا مَحالَةَ وإشعارٌ بالاسْتِمرارِ. وهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَجَابَ بِهِ سُؤَالَ عِيسَى كَمَا كَانَ سُؤَالُ عِيسَى إِجَابَةً لِلحَوَارِيِّينَ وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَهَا وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، فَجَحَدَ الْقَوْمُ وَكَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِهَا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلُ فِرْعَوْنَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: "فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ـ وَهُوَ الْحَقُّ ـ نُزُولُهَا لِقَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نَزَلَتْ وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْآيَاتِ لِأَنْبِيَائِهِ. وَقِيلَ: وَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: "فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ" الْآيَةَ اسْتَعْفَوْا مِنْهَا، وَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ هَذَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وهذا القول والذي قَبْلَهُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا نَزَلَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ سَلُوا اللهَ مَا شِئْتُمْ يُعْطِكُمْ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَالُوا: يَا عِيسَى لَوْ عَمِلْنَا لِأَحَدٍ فَقَضَيْنَا عَمَلَنَا لَأَطْعَمَنَا، وَإِنَّا صُمْنَا وَجُعْنَا فَادْعُ اللهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِمَائِدَةٍ يَحْمِلُونَهَا، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ فَوَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ" لَهُ: عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ـ رضي اللهً عنه ـ قَالَ: لَمَّا سألَ الحَواريّونَ عيسى بْنَ مَرْيَمَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ الْمَائِدَةَ قَامَ فَوَضَعَ ثِيَابَ الصُّوفِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْمُسُوحِ ـ وَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ مُسُوحٍ أَسْوَدَ وَلِحَافٍ أَسْوَدَ ـ فَقَامَ فَأَلْزَقَ الْقَدَمَ بِالْقَدَمِ وَأَلْصَقَ الْعَقِبَ بِالْعَقِبِ وَالْإِبْهَامَ بِالْإِبْهَامِ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ خَاشِعًا للهِ ثُمَّ أَرْسَلَ عيْنَيْه يَبْكي حتَّى جَرى الدَمْعُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَجَعَلَ يَقْطُرُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ حَمْرَاءُ مُدَوَّرَةٌ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ مِنْ فَوْقِهَا وَغَمَامَةٍ مِنْ تَحْتِهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، ـ وقد سبق رواية هذه الحديث بصيغة قريبة عند تفسيرِ الآيةِ السابقة ـ فَقَالَ عِيسَى: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا فِتْنَةً إِلَهِي أَسْأَلُكَ مِنَ الْعَجَائِبِ فَتُعْطِي فَهَبَطَتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَعَلَيْهَا مِنْدِيلٌ مُغَطًّى فَخَرَّ عِيسَى سَاجِدًا وَالْحَوَارِيُّونَ مَعَهُ وَهُمْ يَجِدُونَ لَهَا رائحة طَيِّبَةً ولم يَكُونُوا يَجِدُونَ مِثْلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ عِيسَى: أَيُّكُمْ أَعْبَدُ للهِ وَأَجْرَأُ عَلَى اللهِ وَأَوْثَقُ بِاللهِ فَلْيَكْشِفْ عَنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْهَا وَنَذْكُرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا وَنَحْمَدَ اللهَ عَلَيْهَا فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللهِ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَقَامَ عِيسَى ـ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ـ فَتَوَضَّأَ وُضُوءً حَسَنًا وَصَلَّى صَلَاةً جَدِيدَةً وَدَعَا دُعَاءً كَثِيرًا ثُمَّ جَلَسَ إِلَى السُّفْرَةِ فَكَشَفَ عَنْهَا فَإِذَا عَلَيْهَا سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا شَوْكٌ تَسِيلُ سَيَلَانَ الدَّسَمِ وَقَدْ نُضِّدَ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ الْبُقُولِ مَا عَدَا الْكُرَّاثَ وَعِنْدَ رَأْسِهَا مِلْحٌ وَخَلٌّ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ على واحدٍ منها خَمْسُ رُمَّانَاتٍ وَعَلَى الْآخَرِ تَمَرَاتٌ وَعَلَى الْآخَرِ زَيْتُونٌ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا زَيْتُونٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ وَعَلَى الثَّالِثِ بَيْضٌ وَعَلَى الرَّابِعِ جُبْنٌ وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَجَاءُوا غَمًّا وَكَمَدًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَجَبًا فَقَالَ شَمْعُونُ وَهُوَ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ: يَا رُوحَ اللهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ: أَمَا افْتَرَقْتُمْ بَعْدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تُعَذَّبُوا. فَقَالَ شَمْعُونُ: وَإِلَهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ سُوءً. فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللهِ لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةٌ أُخْرَى قَالَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا سَمَكَةُ احْيَيْ بِإِذْنِ اللهِ فَاضْطَرَبَتِ السَّمَكَةُ طَرِيَّةً تَبِصُّ عَيْنَاهَا، فَفَزِعَ الْحَوَارِيُّونَ فَقَالَ عِيسَى: مَا لِي أَرَاكُمْ تَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ فَإِذَا أُعْطِيتُمُوهُ كَرِهْتُمُوهُ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تُعَذَّبُوا. وَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا عَلَيْهَا طَعَامٌ مِنَ الدُّنْيَا ولا مِنْ طَعامِ الجَنَّةِ ولكنَّه شيءٌ ابْتَدَعَهُ اللهُ بِالْقُدْرَةِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ فَقَالَ عِيسَى: يَا سَمَكَةُ عُودِي كَمَا كُنْتِ فَعَادَتْ مَشْوِيَّةً كَمَا كَانَتْ فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللهِ كُنْ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقَالَ عِيسَى: مَعَاذَ اللهِ إِنَّمَا يَأْكُلُ منها مَنْ طَلَبَها وسَأَلَها فأَبَى الْحَوَارِيُّونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ مُثْلَةً وَفِتْنَةً فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهَا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْمُجَذَّمِينَ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْعُمْيَانَ وَأَهْلَ الْمَاءِ الْأَصْفَرِ، وَقَالَ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةِ نَبِيِّكُمْ وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَكُونُ الْمَهْنَأُ لَكُمْ وَالْعَذَابُ عَلَى غَيْرِكُمْ فأَكَلوا حتّى صَدَروا عَنْ سبعةِ آلافٍ وثلاثَمئةٍ يَتَجَشَّئُونَ، فَبَرِئَ كُلُّ سَقِيمٍ أَكَلَ مِنْهُا، وَاسْتَغْنَى كلُّ فَقِيرٍ أَكَلَ مِنْهُا حَتَّى الْمَمَاتِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِا فَمَا بَقِيَ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا شَيْخٌ وَلَا شَابٌّ وَلَا غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا جَاءُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ فَضَغَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عِيسَى جَعَلَهَا نُوَبًا بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا كَنَاقَةِ ثَمُودَ تَرْعَى يَوْمًا وَتَشْرَبُ يومًا فنَزَلَتْ أَربعينَ يَومًا تَنْزِلُ ضُحًا فلا تَزالُ حتَّى يَفئَ الْفَيْءُ مَوْضِعَهُ وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَلَا تَزَالُ مَنْصُوبَةً يُؤْكَلُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ طَارَتْ صُعُدًا فَيَأْكُلُ مِنْهَا النَّاسُ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى السَّمَاءِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا حَتَّى تَتَوَارَى عَنْهُمْ فَلَمَّا تَمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا عِيسَى اجْعَلْ مَائِدَتِي هَذِهِ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ فَتَمَارَى الْأَغْنِيَاءُ فِي ذَلِكَ وَعَادَوُا الْفُقَرَاءَ وَشَكُّوا وَشَكَّكُوا النَّاسَ فَقَالَ اللهُ يَا عِيسَى: إِنِّي آخِذٌ بِشَرْطِي فَأَصْبَحَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ خِنْزِيرًا يَأْكُلُونَ الْعَذِرَةَ يَطْلُبُونَهَا بِالْأَكْبَاءِ وَالْأَكْبَاءُ هِيَ الْكُنَاسَةُ وَاحِدُهَا "كبا" بعد ما كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَيَنَامُونَ عَلَى الْفُرُشِ اللَّيِّنَةِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عَلَى عِيسَى يَبْكُونَ، وَجَاءَتِ الْخَنَازِيرُ فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ قُدَّامَ عِيسَى فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَتَقْطُرُ دُمُوعُهُمْ فَعَرَفَهُمْ عِيسَى فَجَعَلَ يَقُولُ: أَلَسْتَ بِفُلَانٍ؟ فَيُومِئُ بِرَأْسِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْكَلَامَ فَلَبِثُوا كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ومنهم مَنْ يَقولُ: أَرْبَعةَ أيَّامٍ،ثُمَّ دَعَا اللهَ عِيسَى أَنْ يَقْبِضَ أَرْوَاحَهُمْ فَأَصْبَحُوا لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبُوا؟ أبْتَلَعَتْهُمْ الْأَرْضُ أَوْ مَاذا صَنَعُوا؟!. وفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ كَانَ طَعَامُ الْمَائِدَةِ خُبْزًا وَسَمَكًا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كانوا يَجِدونَ في السَمَكِ طَيِّبَ الطَعَامِ، وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَتْ مَائِدَةً تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ثِمَارٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى أَقْرِصَةً مِنْ شَعِيرٍ وَحِيتَانًا. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأُمِرُوا أَلَّا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ وَلَا نَعْلَمُ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَصْلًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُنْزِلَ على المائدة كلُّ شيءٍ إِلَّا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَ عَلَيْهَا كلُّ شيءٍ إِلَّا السَّمَكَ وَاللَّحْمَ. وَقَالَ كَعْبٌ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مَنْكُوسَةً مِنَ السَّمَاءِ تَطِيرُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهَا كُلُّ طَعَامٍ إِلَّا اللَّحْمَ. قُلْتُ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا فَصَحَّ مَوْقُوفًا عَنْ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ وَاللهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا طَعَامٌ يُؤْكَلُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِهِ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ ثَانِيَةً لِبَعْضِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ كَعْبٌ: اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاجْتَمَعُوا فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُظْهِرَ لَنَا عَيْنًا سَاحَّةً بِهَذَا الْمَكَانِ، وَرِيَاضًا خُضْرًا وَعَبْقَرِيًّا قَالَ: فدعا اللهَ فإذا عَيْنٌ سَاحَّةٌ وَرِيَاضٌ خُضْرٌ وَعَبْقَرِيٌّ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُطْعِمَنَا شَيْئًا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فَدَعَا اللهُ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ بُسْرَةٌ فَأَكَلُوا مِنْهَا لَا تُقَلَّبُ إِلَّا أَكَلُوا مِنْهَا لَوْنًا ثُمَّ رُفِعَتْ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ، فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا الْمَائِدَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عِيسَى قَالَ: فَدَعَا فَنَزَلَتْ فَقَضَوْا مِنْهَا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ رُفِعَتْ وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. مَسْأَلَةٌ: جَاءَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْمَذْكُورِ بَيَانُ الْمَائِدَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ سُفْرَةً لَا مَائِدَةً ذَاتَ قَوَائِمَ وَالسُّفْرَةُ مَائِدَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَوَائِدُ الْعَرَبِ. خَرَّجَ أَبُو عَبْدِ اللهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: يُونُسُ هَذَا هُوَ أَبُو الْفُرَاتِ الْإِسْكَافُ. وهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ اتَّفَقَ عَلَى رِجَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الخِوان هو شيءٌ مُحْدَثٌ فَعَلَتْهُ الْأَعَاجِمُ وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ لِتَمْتَهِنَهَا، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ عَلَى السُّفَرِ وَاحِدُهَا سُفْرَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنَ الْجُلُودِ وَلَهَا مَعَالِيقٌ تَنْضَمُّ وَتَنْفَرِجُ فَبِالِانْفِرَاجِ سُمِّيَتْ سُفْرَةٌ لِأَنَّهَا إِذَا حُلَّتْ مَعَالِيقُهَا انْفَرَجَتْ فَأَسْفَرَتْ عَمَّا فِيهَا فَقِيلَ لَهَا السُّفْرَةُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لِإِسْفَارِ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عَنِ الْبُيُوتِ وَقَوْلُهُ: وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ لِأَنَّهَا أَوْعِيَةُ الْأَصْبَاغِ، وَإِنَّمَا الْأَصْبَاغُ لِلْأَلْوَانِ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ سِمَاتِهِمِ الْأَلْوَانُ وَإِنَّمَا كَانَ طَعَامُهُمُ الثَّرِيدَ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتُ اللَّحْمِ. وَكَانَ يَقُولُ: ((انْهَسُوا اللَّحْمَ نَهْسًا فَإِنَّهُ أَشْهَى وَأَمْرَأَ)). فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَائِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ كَانَ الضب حراما مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ السيدة عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرَّجُلِ مَا دَامَتْ مَائِدَتُهُ مَوْضُوعَةً خَرَّجَهُ الثِّقَاتُ وقيل: إن المائدة كل شي يُمَدُّ وَيُبْسَطُ مِثْلَ الْمِنْدِيلِ وَالثَّوْبِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَكُونَ مَادَّةُ الدَّالِّ مُضَعَّفَةٌ فَجَعَلُوا إِحْدَى الدَّالَيْنِ يَاءً فَقِيلَ: مَائِدَةٌ، وَالْفِعْلُ وَاقِعٌ بِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَمْدُودَةً وَلَكِنْ خُرِّجَتْ فِي اللُّغَةِ مَخْرَجَ فَاعِلٍ كَمَا قَالُوا: سِرٌّ كَاتِمٌ وَهُوَ مَكْتُومٌ وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ وَهِيَ مَرْضِيَّةٌ وَكَذَلِكَ خُرِّجَ فِي اللُّغَةِ مَا هُوَ فَاعِلٌ عَلَى مَخْرَجِ مَفْعُولٍ فَقَالُوا: رَجُلٌ مَشْئُومٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَائِمٌ وَحِجَابٌ مَسْتُورٌ وَإِنَّمَا هُوَ سَاتِرٌ قَالَ فَالْخِوَانُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ بِقَوَائِمِهِ وَالْمَائِدَةُ مَا مُدَّ وَبُسِطَ وَالسُّفْرَةُ مَا أَسْفَرَ عَمَّا فِي جَوْفِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَضْمُومَةٌ بِمَعَالِيقِهَا وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ فِعْلُ الْمُلُوكِ وَعَلَى الْمِنْدِيلِ فِعْلُ الْعَجَمِ وَعَلَى السُّفْرَةِ فِعْلُ الْعَرَبِ وَهُوَ السُّنَّةُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُه تعالى: {مُنَزِّلُهَا} قرَأَ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصِمٌ بالتَشْديدِ، فقيلَ: إنَّ أَنْزَل ونَزَّل بمَعْنى، وقَدْ تقدَّمَ تحقيقُ ذلك. وقيل: التَشديدُ للتَكْثيرِ، ففي التَفسيرِ أَنَّها نَزَلتْ مرَّاتٍ متعدِّدةٍ، وأمَّا نُنزِّلُ فقُدِّم تحقيقُ الخلافِ
فيه.
قولُهُ: {بَعْدُ} متعلِّقٌ بـ "يكفر"، وبُني لقَطْعِه عن الإِضافة، إذِ الأصلُ: بعدَ الإِنزالِ. و"منكم" متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ مِنْ فاعِلِ "يَكْفُرْ"
وقولُه: {عَذَابًا} فيه وجهان، أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد نحو: "عطاء" و"نبات" لـ "أعطى" و"أنبت"، وانتصابُه على المصدريَّةِ بالتقديرين المذكورين. والثاني ـ أجازه أبو البقاء ـ أن يكون مفعولًا به على السِّعَة، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عندَ النُّحاةِ ثلاثةُ أنواعٍ: معمولُ الصفةِ المُشَبَّهَةِ، والمصدرُ، والظرفُ المُتَّسَعُ فيهما، أمَّا المصدرُ فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ فنحو: "يومَ الجُمُعَةِ صُمْتُه"، ومِنْهُ قولُه:
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمًا وعامرًا .............. قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
قال الزمخشري: ولو أُريدَ بالعذابِ ما يُعَذَّبُ بِهِ لَكانَ لا بُدَّ مِنَ الباءِ. قلتُ: إنَّما قالَ ذلك لأنَّ إطلاقَ العذابِ على ما يُعَذَّبُ بِه كثيرٌ، فخاف أن يُتَوهَّم ذلك، وليس لِقائلٍ أنْ يقولَ: كان الأصلُ: بعذابٍ، ثمَّ حَذَفَ الحرفَ فانْتَصَبَ المجرورُ به، لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مَعَ "أَنْ" بشرطِ أَمْنِ الَّبْسِ.
قولُهُ: {لا أُعَذِّبُهُ} الهاءُ فيها ثلاثةِ أَوْجُهٍ، أَظْهَرُها: أنَّها عائدةٌ على "عذاب" الذي تقدَّمَ أنَّه بمعنى التعذيب، التقدير: فإني أعذَّبه تعذيبًا لا أعذِّبُ مثلَ ذلك التعذيبِ أحدًا، والجملةُ في محلِّ نَصْبِ صفةٍ لـ "عذابًا" وهذا وجه سالم من تَكَلُّفٍ ستراه في غيره. ولَمَّا ذَكرهُ أبو البقاءِ هذا الوجهَ أَعْني عودَها على "عذابًا" المتقدم. قال: وفيه على هذا وجهان، أحدُهما: على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، أي: لا أُعَذِّبُ بِهِ أحدًا، والثاني: أنَّه مفعولٌ بِهِ على السَّعَةِ. وأمَّا قوله "حُذِف الحرف" فقد عرفتَ أنَّه لا يَجوزُ إلَّا فيما اسْتُثْنِيَ.
الثاني مِنْ أَوْجُهِ الهاءِ: أَنَّها تعود على "مَن" المتقدمة في قوله: {فَمَن يَكْفُرْ} والمعنى: لا أُعذَّبُ مثلَ عذابِ الكافرِ أَحَدًا، ولا بُدَّ مِنْ تَقديرِ هذيْن المُضافيْن لِيَصِحَّ المعنى. قال أبو البقاء في هذا الوجه: وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: لا أعذب الكافر أي: مثل الكافر، أي: مثل عذاب الكافر. الثالث أنَّها ضميرُ المَصْدَرِ المؤكد نحو: "ظَنَنْتُهُ زيدًا قائمًا" ولَمَّا ذَكَرَ أبو البقاءِ هذا الوجهَ اعْتَرضَ على نَفسِه فقال: فإنْ قلتَ: "لا أعذِّبه" صفةٌ لـ "عذاب" وعلى هذا التَقديرِ لا يعودُ مِنَ الصِفَةِ على الموصوفِ شيءٌ.
قيلَ: إنَّ الثاني لمَّا كان واقعًا مَوْقِعَ المَصْدَرِ والمصدرُ جِنْسٌ و"عذابًا" نَكِرةٌ كان الأوَّل داخلًا في الثاني، والثاني مشتملٌ على الأوَّلِ وهو مثل: "زيد نعم الرجل"، فجَعَلَ الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذَكَرَهُ مِنْ أنَّ الربطَ بالعمومِ إنَّما ذَكره النَّحْويُّون في الجملةِ الواقعةِ خبرًا لِمُبتدأ، ولذلك نَظَّرَه أبو البقاء بـ "زيدٌ نِعْم الرجل" وهذا لا يَنبغي أنْ يُقاسَ عليه، لأنَّ الربطَ يحصُل في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذَكَره واردٌ عليْه في الوجهُ الثاني؛ فإنَّ الجملةَ صفةٌ لـ "عذابًا" وليس فيها ضميرٌ، فإنْ قيل: ليست هناك بصفةٍ، قيل: يَفْسُدُ المعنى بتقديرِ الاسْتِئنافِ، وعلى تقديرِ صِحَّتِه فلْتَكُنْ هنا أيضًا مُسْتَأْنَفَةً. و"أحدًا" منصوبٌ على المفعول الصريحِ. و"من العالمين" صفةٌ لـ "أحدًا" فيتعلَّق بمحذوف.