إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
(112)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ "أَنْ يُنَزِّلَ" فَيَسْتَطِيعُ بِمَعْنَى يُطِيعُ، كَمَا قَالُوا: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، وَكَذَلِكَ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أَطَاعَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ وَكَانَ هَذَا السُّؤَالَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِمْ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ عِنْدَ غَلَطِهِمْ وَتَجْوِيزِهِمْ عَلَى اللهِ مَا لَا يَجُوزُ: "اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى. وَفي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ خُلْصَانُ الْأَنْبِيَاءِ وَدُخَلَاؤُهُمْ وَأَنْصَارُهُمْ كَمَا قَالَ: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ} الصف: 14. وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ)). وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ـ جَاءُوا بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ أُمَمَهُمْ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاطَنَهُمْ وَاخْتُصَّ بِهِمْ حَتَّى يَجْهَلُوا قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى؟ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ صَدْرَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ جُهَّالِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ)، وذاتُ أَنْواطٍ: شَجَرَةٌ بعينِها كانتْ تُعْبَدُ في الجاهليَّةِ، كان المُشْرِكونَ يَنوطونَ بها سِلاحَهُم أيْ يُعلقونَه بِها، ويَعْكِفون حَوْلَها. وَكَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} الأعراف: 138. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَشُكُّوا فِي اسْتِطَاعَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ عَالِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: هلْ يَسْتَطيعُ فلانٌ أنْ يَأتي وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُجِيبُنِي إِلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ ومنْه ما قيلَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ: هلْ تَستطيعُ أنْ تُرَيَني كيف كان رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ ـ يَتَوَضَّأُ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ قال أبو شامة: مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم ـ وإن كان ضعيفًا ـ عن ثابتٍ عنْ أَنَسٍ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عادَ عمَّه أبا طالبٍ في مَرَضٍ فقال: يا بْنَ أَخي ادْعُ ربَّك الذي تَعْبُدَهُ فيُعافِيَني. قال ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَمِّي، فقامَ أَبو طالبٍ كأنَّما نَشِطَ مِنْ عِقالٍ. فقالَ: يا بْنَ أَخي إنَّ ربَّكَ الذي تَعْبُدُ لَيُطيعُكَ. قالَ: وأَنْتَ يا عَمَّاهُ لو أَطَعْتَه، أو: لِئِنْ أَطَعْتَ اللهَ لَيُطيعَنَّكَ أي: لَيُجيبَنَّك إلى مقصودِك. والذي حَسَّن ذلك المُقابَلَةُ مِنْهُ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ للفْظِ عَمِّهِ كقولِه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} آل عمران: 54. وقيل: التقدير: هل يُطيعُ؟ فالسينُ زائدة كقولِهم: اسْتَجابَ وأَجابَ. قالَ في أضواءِ البَيانِ في إيضاحِ القرآن بالقرآن لِكَعْبٍ بْنِ سَعْدٍ الغَنَويِّ:
وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ......... فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ
وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ مَنْ قال: "إنَّ يَستطيع زائدةٌ" والمعنى: هل يُنَزَّل ربُّك، لأنَّه لا يُزال مِنَ الأفْعالِ إلَّا "كان" بشرطينِ وشَذَّ زيادةُ غيرِها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب، على أنَّ الكوفيين يُجيزون زيادةَ بعضَ الأفعالِ مُطْلَقًا، حَكَوْا: قَعَدَ فلانٌ يتهكَّم بي، وأنشدوا لحسَّانَ بْنِ المُنْذِرِ:
على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ........................ كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
وحكى البَصْريُّون على وجْهِ الشُذوذِ: "ما اصبحَ أبردَها وما أمسى أدفأَها" يَعنون الدنيا.
وَقَدْ كَانُ حواريوا عيسى ـ عليه السلامُ ـ عَالِمِينَ بِاسْتِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ عِلْمَ دَلَالَةٍ وَخَبَرٍ وَنَظَرٍ فَأَرَادُوا عِلْمَ مُعَايَنَةٍ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى} البقرة: 260. عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمَ خَبَرٍ وَنَظَرٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ الْمُعَايَنَةَ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا رَيْبٌ وَلَا شُبْهَةٌ، لِأَنَّ عِلْمَ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَدْ تَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ، وعلمَ المُعايَنَةِ لا يَدْخُلُهُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: "وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا" كما قالَ إبْراهيمُ: {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} البقرة: 260. وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ ما قَالَه ابْنُ الْحَصَّارِ: وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ مُخْبِرًا عَنْ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى: "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ" لَيْسَ بِشَكٍّ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلَطُّفٌ فِي السُّؤَالِ، وَأَدَبٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَوَارِيُّونَ كَانُوا هم خِيرَةَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْجَهْلُ بِاقْتِدَارِ اللهِ تَعَالَى على كلِّ شيءٍ مُمْكِنٍ؟! قَالَتْ السيدةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ الله عَنْهَا: كَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمَ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ" وَلَكِنْ "هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَسْألَ رَبَّكَ". وكذلك قال مجاهدٌ، وهو تأييدٌ لِقراءةِ مَنْ قَرَأَ: "هل تستطيع ربَّك" وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَقْرَأَنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ "هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ" قَالَ مُعَاذٌ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ ـ مِرَارًا يَقْرَأُ بِالتَّاءِ: "هَلْ تَسْطِيعُ رَبَّكَ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَةَ رَبِّكَ فِيمَا تَسْأَلُهُ. وَقِيلَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ أَوْ تَسْأَلَهُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ كَمَا قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} يوسف: 82. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ.
قولُه: {قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} اتَّقُوا اللهَ: أَيِ بتَرك مَعَاصِيَهُ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ عِنْدَ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، فإنَّ اللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ لِعِبَادِهِ. "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِمَا جِئْتُ بِهِ من عندِه فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فيه غِنى.
قولُه تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ ربُّكَ} قَرَأَ الجُمهورُ "يَسْتَطيع" بياءِ الغَيِبَةِ و"رَبُّكَ" مَرْفوعًا بالفاعِلِيَّةِ، وقرأ الكِسائيُّ: "تَسْتَطيعُ" بتاءِ الخَطابِ لِعيسى، و"ربَّك" بالنَّصْبِ على التَعظيمِ، وقاعدتُه أنَّه يُدْغِم لامُ "هل" في أَحرُفٍ مِنْها هذا المَكانُ، وهي قراءَةُ أُمِّ المؤمنين السيدة عائشة ـ رضيَ اللهُ عنها. وبِها قَرَأَ مُعاذٌ أيضًا وعليٌّ وابْنُ عبَّاسٍ وسَعيد بْنُ جُبَيرٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهم جميعًا.
قولُه: {أَن يُنَزِّلَ} في قراءةِ الجَماعةِ في مَحَلِّ نَصْبٍ مَفعولًا بِهِ أيْ: الإِنزالَ. وقال أبو البقاءِ: والتَقديرُ: على أنْ يُنزَّل، أوْ في أنْ يُنزَّلَ، ويجوزُ ألَّا يُحتاجَ إلى حَرْفِ جَرٍّ على أنْ يَكونَ "يَسْتطيع" بمعنى يُطيقُ. وإنَّما احْتَاجَ إلى تقديرِ حَرْفَيْ الجَرِّ في الأوَّل لأنَّه حَمَل الاسْتِطاعةَ على الإِجابةِ، وأمَّا قولُه أخيراً "إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق" فإنَّما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأيِ الزَمخشريِّ مِنْ كونِهم لَيْسوا بِمؤمنين. وأَمَّا في قراءةِ الكِسائيِّ فقالوا: هيَ في مَحَلِّ نَصْبٍ على المَفعوليَّةِ بالسُؤالِ المُقدَّرِ أيْ: هلْ يَستطيعُ أنْتَ أنْ تَسألَ ربَّك الإِنزالَ، فيكون المَصْدَرُ المُقدَّرُ مُضافاً لِمَفعولِهِ الأوَّل وهو "ربُّك" فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انْتِصِبَ. وفيه نظرٌ مِنْ أنَّهم أَعْمَلوا المَصْدرَ مُضْمَرًا، وهو لا يَجوزُ عندَ البَصْريّين، يُؤَوِّلون ما وَرَدَ ظاهرُه ذلك. ويَجوزُ أنْ يَكونَ "أن ينزَّل" بَدَلًا مِنْ "ربك" بَدَلَ اشْتِمالٍ، والتقديرُ: هل تَستطيعُ أي: هل تُطيقُ إنْزالَ اللهِ تَعالى مائدةً بسببِ دُعائك؟ وهو وجهٌ حَسَنٌ.
وقولُهُ: {مائدة} مفعول "يُنَزِّلُ" والمائدةُ: الخِوُانُ عليه طعامٌ، فإنْ لم يَكُنْ عليْه طَعامٌ فَلَيْسَتْ بمائدةٍ، هذا هو المَشهورُ، إلَّا أنَّ الراغبَ قال: والمائدةُ: الطَبَقُ الذي عليْه طَعامٌ، ويُقالُ لِكِلِّ واحدٍ منها مائدةٌ وهو مخالِفٌ لِمَا عليه المُعْظَمُ، وهذه المسألةُ لَها نَظائرُ في اللُّغةِ، لا يُقالُ للخِوانِ مائدةٌ إلَّا وعليْه طَعامٌ وإلَّا فهو خِوانٌ، ولا يُقالُ كأسٌ إلّا وفيها خَمْرٌ وإلَّا فهيَ قَدَحٌ، ولا يُقالُ ذَنوبٌ وسَجْلٌ إلَّا وفيْه ماءٌ، وإلَّا فَهُوَ دَلْوٌ، ولا يُقالُ جِرابٌ إلَّا وهو مَدْبوغٌ وإلا فهو إهابٌ، ولا قَلَمٌ إلَّا وهو مَبْرِيٌّ وإلَّا فهوَ أُنْبوبٌ.
واخْتَلَفَ اللُّغويُّون في اشْتِقاقِها، فقالَ الزَجَّاجُ: هي مِنْ مادَ يَميدُ إذْ تُحَرَّكُ، ومنْه قولُه تعالى: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} الأنبياء: 31. ومنْه: مَيْدُ البَحْرِ. وهو ما يُصيبُ راكبَهُ، فكأنَّها تَميدُ بما عَلَيْها مِنَ الطَعامِ، قال: وهي فاعِلُه على الأصلِ. وقال أبو عبيدٍ: هي فاعلة بمَعنى مَفْعولَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنْ "مَادَهُ" بمعنى أَعطاهُ، وامْتَادَهُ بمعنى اسْتَعْطاهُ فهي بمعنى مَفْعولَة. قالَ: "كعِيشة راضِية" وأصلُها أنَّها مِيدَ بِها صاحِبُها أيْ: أُعْطِيها، والعربُ تقول: ما دَني فلانٌ يَميدُني إذا أَحْسَنَ إليَّ وأَعطاني. وقال أَبو بَكْرٍ بْنُ الأنْباريِّ: سُمِّيَتْ مَائدةً لأنَّها غِياثٌ وعَطاءٌ، مِنْ قولِ العَرَبِ: مادَ فلانٌ فلانًا إذا أَحْسَنَ إليه، وأنشدَ لِرُؤبةَ:
نُهْدِي رُؤُوسَ المتْرَفينَ الأنْدَادْ ................ إلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ
أي: المُحْسِنُ لرعيَّتِه، وهي "فاعِلَةٌ" مِنَ المَيْدِ بمعنى مُعْطِيَة فهو قريبٌ مِنْ قولِ أَبي عُبيدٍ في الاشْتِقاقِ، إلَّا أَنَّها عندَه بمَعْنى فاعِلَهْ على بابِها. وابْنُ قُتيْبَةَ وافَقَ أبَا عُبَيْدٍ في كونِها بمَعنى مَفعولةٍ، قال: لأنَّها يُمادُ بها الآكلونَ أيْ يُعْطَوْنَها. وقيل: هيَ مِنْ المَيْدِ وهوَ المَيْلُ، وهذا هو معنى قولِ الزَجّاجِ.
قولُهُ: {مِنَ السَماءِ} يَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وأَنْ يَتَعلَّقَ بمَحذوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ لـ "مائدة" أي: مائدةً كائنةً مِنَ السَماءِ أي: نازلةً منها.