قولُه: "فجزاءُ" الفاءُ جوابُ الشرطِ أوْ زائدةٌ لِشَبَهِ المُبْتَدَأِ بالشَرْطِ،
فعَلى الأوَّلِ الجُملةُ بعدَها في مَحَلِّ جَزْمٍ، وعلى الثاني في محلِّ رفعٍ، وما بعد "مَنْ" على الأوَّلِ في مَحَلِّ جَزْمٍ لِكَوْنِهِ شَرْطًا، وعلى الثاني لا مَحَلَّ لَهُ لكونِه صِلَةً. وقَرأَ أهلُ الكُوفةِ: "فجزاءٌ مثلُ" بتنوينِ "جَزاء" ورَفعَه ورَفَعَ "مثل"، وباقي السَبْعةِ بِرَفْعِهِ مُضافًا إلى "مثل"، وقرأ محمد بْنُ مُقاتِلٍ بتنوينٍ "جزاءً" ونَصْبِهِ ونَصْبِ "مثلَ" والسُلَمِي قرأ برفعِ "جزاء" مُنَوَّنًا ونَصْبِ "مثل"، وقَرأَ عبدُ اللهِ: "فجزاؤُه" برفعِ "جزاء" مضافًا لِضميرِ "مثل" رَفْعًا.
فأمَّا قِراءةُ الكُوفيِّين فلأَنَّ "مثل" صِفَةٌ لـ "جزاء" أي: فعَلَيْهِ جَزاءٌ مَوصوفٌ بِكونِهِ "مثلَ ما قتله" أي مماثِلَه. وجَوَّزَ مَكِيٌّ وأبو البَقاءِ وغيرُهُما أَنْ يَرتفِعَ "مثل" على البدلِ، وذَكرَ الزَّجَّاجُ وجْهًا غريبًا وهو أنْ يَرْتَفِعَ "مثل" على أنَّه خبرٌ لـ "جزاء" ويكونُ "جزاء" مبتدأً، قال، والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مِثْلُ ما قَتَلَ. ويُؤيِّدُ هذا الوجهَ قراءةُ عبدِ اللهِ:"فجزاؤُه مثلُ" إلَّا أنَّ الأَحْسَنَ أنْ يُقَدَّرَ ذلك المَحذوفُ ضَميرًا يَعودُ على المَقتولِ لا أَنْ يُقَدِّرَه: "فجزاءُ ذلك الفعل"، و"مثل" بمعنى مماثلُ، قالَه جَماعةٌ وهو معنى اللفظِ، فإنِّها في قوَّةِ اسْمِ فاعلٍ، إلَّا أَنَّ مَكِّيًّا تَوَهَّمَ أَنَّ "مِثْلًا" قد يَكونُ بمَعنى غيرِ مماثلٍ فإنَّه قال: "ومثل" في هذه القراءة ـ يعني قراءة الكوفيين ـ بمعنى مُماثِل، والتقديرُ: فجزاءٌ مماثلٌ لِما قَتَلَ يَعني في القِيمَةِ أوْ في الخِلْقَةِ على اختلافِ العُلَماءِ، ولو قَدَّرْتَ مِثْلًا على لَفْظِهِ لَصارَ المَعنى: فعليْه جزاءٌ مثلُ المَقتولِ مِنْ الصَيْدِ، وإنَّما يَلزمُه جزاءُ المَقتولِ بِعَيْنِهِ لا جَزاءٌ مثلُه، لأنَّه إذا وَدَى جزاءً مثلَ المَقتولِ صارَ إنَّما وَدَى جَزاءَ ما لَمْ يُقْتَلْ؛ لأنَّ مثلَ المقتولِ لمْ يَقْتُلْه، فصَحَّ أنَّ المَعنى: فعليْه جَزاءٌ مماثِلٌ للمقتولِ، ولِذلك بَعُدَتِ القِراءةُ بالإِضافةِ عندَ جَماعةٍ. قلتُ: "مثل" بمَعنى مُماثِلٍ أَبَدًا فكيفَ يَقولُ "ولو قَدَّرْتَ مِثْلًا على لَفْظِهِ"؟ وأيضًا فقولُه: "لَصارَ المَعنى إلى آخرِه" هذا الإِشكالُ الذي ذَكَرَهُ لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذِه القِراءةِ أَصْلًا، وإنَّما ذَكَرَهُ النَّاسُ في قِراءةِ الإِضافةِ كَما سَيأتي، وكأنَّه نَقَل هذا الإِشكالَ مِنْ قِراءةِ الإِضافةِ إلى قِراءةِ التَنوين.
وأمَّا قراءةُ باقي السَّبْعَةِ فاسْتَبْعَدَها جماعةٌ، قال الواحِدِيُّ: "ولا يَنبَغي إضافةُ الجَزاءِ إلى المِثْلِ لأنَّ عليْه جَزاءَ المَنقولِ لا جَزاءَ مِثْلِهِ فإنَّهُ لا جَزاءَ عليْه لَمَّا لَمْ يَقْتُلْهُ" وقالَ مَكِّيٌّ بَعدَ ما قَدَّمْتُه عنْه: "ولذلك بَعُدَتِ القِراءةُ بالإِضافةِ عندَ جَماعةٍ لأنَّها تُوجِبُ جَزاءً مِثْلَ الصَيْدِ المَقْتُولِ" قلتُ: ولا الْتِفاتَ إلى هذا الاسْتِبعادِ فإنَّ أَكْثرَ القُرَّاءِ عليْها. وقدْ أَجَابوا عن ذلك بأَجوِبَةٍ سَديدَةٍ، لَمَّا خَفِيَتْ على أُولئِكَ طَعَنوا في المُتواتِرِ، منْها: أنَّ "جزاء" مَصْدَرٌ مُضافٌ لِمَفعولِهِ تَخفيفًا، والأَصْلُ: فعَلَيْهِ جَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتلَ، أي: أنْ يَجْزِيَ مَثْلَ ما قَتَلَ، ثمَّ أُضيفَ، كَما تَقولُ: عجِبتُ مِنْ ضَرْبٍ زيدًا، ثمَّ: مَنْ ضَرْبَ زَيْدٍ. وبَسْطُ ذلك أنَّ الجَزاءَ هُنا بمَعنى القَضاءِ والأصلُ: فعليْهِ أنْ يُجْزَى المَقتولُ مِنَ الصَيْدِ مِثلَه مِنَ النَّعَمِ، ثمَّ حُذِفَ المَفعولُ الأَوَّلُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانِيهِما، كَقَولِكَ: زيدٌ فقيرٌ ويُعجِبُني إعطاؤك الدرهمَ، أيْ: إعْطاؤك إيَّاهُ. ومِنْها: أَنَّ "مثل" مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِهم: مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذلك، أي: أَنْتَ لا تَفْعَلُ ذلك، ونَحوَ قولِهِ تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} البَقَرةُ: 137. أي: بما آمَنتم بِهِ وكَقولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الشورى: 11. فـ "مثل" زائدةٌ، وهذا خَلافُ الأَصلِ، فالجَوابُ ما قَدَّمْتُه. و"ما" يَجوزُ أَنْ تكونَ مَوصُولَةً اسْمِيَّةً أوْ نَكِرَةً مَوْصوفَةً، والعائدُ مَحذوفٌ على كِلا التقديرينِ أي: مِثْلُ ما قَتلَه مِنَ النَعَمِ.
فَمَنْ رَفَعَ "جزاء" رَفَعَهُ بالابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحذوفٌ تَقديرُهُ: فعليْهِ جزاءٌ. أو أَنَّهُ خبرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تقديرُهُ: فالواجِبُ جَزاءٌ: أوهو فاعلٌ بِفِعْلٍ مَحذوفٍ أيْ: فيَلْزَمُهُ أوْ يَجِبُ عليْهِ جَزاءٌ. أَو هو مُبتَدَأٌ وخبرُهُ "مثل"، وقدْ تقدَّمَ أنَّ ذلكَ مَذْهَبُ أَبي إسْحاقٍ الزَجَّاجِ، وتَقَدَّمَ أَيْضًا رفعُ "مثل" في قراءةِ الكُوفِيِّين على أَحَدِ ثَلاثةِ أَوْجُهٍ: النَّعتِ والبَدلِ والخَبَرِ حيثُ قلْنا: "جزاء" مُبتَدَأٌ عندَ الزَجّاجِ.
وأَمَّا قراءةُ {فجزاؤه مثلُ} فظاهرةٌ أيْضًا. وأَمَّا قراءةُ "فَجزاءٌ مِثْلَ" بِرَفْعِ "جزاء" وتَنوينِهِ ونَصْبِ "مثل" فعلى إعمالِ المَصْدَرِ المُنَوَّنِ في مفعولِه، وقدْ تقدَّمَ أنَّ قراءةَ الإِضافةِ منْه، وهو نَظيرُ قولِهِ ـ تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} البلد: 1415. وفاعلُه مَحذوفٌ أيْ: فجَزاءُ أَحدِكم أوْ القاتِلِ، أيْ: أنْ يُجْزَى القاتلُ للصِيْدِ. وأمَّا قِراءةُ: "فجزاءً مثلَ" بِنَصْبِهِما فجَزاءً مَنْصوبٌ على المَصْدَرِ أوْ على المَفعولِ بِهِ، "ومثلَ" صفتُهُ بالاعْتِباريْن، والتَقديرُ: فلْيَجْزِ جَزاءً مثلَ، أو: فلْيُخْرِجْ جَزاءً، أو فلْيُغَرَّمْ جَزاءً مِثلَ.
قولُه: {مِنَ النَّعَمِ} صِفةٌ لـ "جزاء" مُطْلَقًا، أي: سواءً رُفِع أمْ نُصِبَ،
نُوِّن أمْ لَم يُنَوَّنْ، أي: إنَّ ذلك الجزاءَ يَكونُ مِنْ جِنْسِ النَّعَمِ، فهذا الوَجْهُ لا يَمْتَنِعَ بِحالٍ. أو هو مُتَعَلِّقٌ بنفسِ "جزاء" لأنَّه مَصدَرٌ، إلَّا أنَّ ذلكَ لا يَجوزُ إلَّا في قراءةِ مَنْ أَضافَ "جزاء" إلى "مثل" فإنَّه لا يلْزَمُ منْه مَحذورٌ، بِخلافِ ما إذا نَوَّنتَه وجعلتَ "مثلَ" صفتَه أوْ بَدَلًا منْه أوْ خَبرًا لَه فإنَّ ذلك يَمْتَنِعُ حينئذٍ، لأنَّكَ إنْ جَعَلْتَه مَوْصوفًا بـ "مثل" كان ذلك مَمنوعًا مِنْ وجْهيْنِ، أَحَدُهُما: أنَّ المَصْدَرَ المَوْصوفَ لا يَعمَلُ وهذا قد وُصِفَ. الثاني: أنَّهُ مصدرٌ فهوَ بمنزلَةِ المَوصولِ والمَعمولُ مِنْ تَمامِ صِلَتِهِ، وقدْ تقرَّرَ أنَّه لا يُتْبَعُ المَوصولُ إلَّا بعدَ تَمامِ صِلَتِه لِئَلَّا يلْزَمَ الفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ. وإنْ جَعَلْتَه بَدَلًا لَزِمَ أَنْ يُتْبَعَ المَوصولُ قبلَ تمامِ صِلَتِه، وإنْ جَعَلْتَهُ خَبرًا لَزِمَ الإِخْبارُ عنْ المَوصولِ قبلَ تمامِ صِلَتِهِ، وذلك كلُّهُ لا يَجوزُ. الثالثُ: أَنْ يكونَ حالًا مِنْ عائدِ المَوصولِ المَحذوفِ فإنَّ التَقديرَ: فجزاءً مثلَ الذي قَتَلَهُ حالَ كونِهِ مِنَ "النَّعَمِ"، وهذا وَهْمٌ لأنَّه المَوصوفَ بِكونِهِ مِنَ النَّعَمِ إنَّما هُو جَزاءُ الصَّيْدِ المَقتولِ، وأَمَّا الصَيْدُ نَفْسُهُ فلا يَكونُ مِنَ النَّعَمِ، والجُمهورُ على فتحِ عيْنِ "النَّعَم"، وقرأ الحسنُ بِسُكونِها، وهي لُغةٌ وقيل اسْتَثْقَلَ الحركةَ على حرفِ الحَلْقِ كما قالوا: "الشَّعْر" في "الشَّعَر".
قولُه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا} في مَوضِعِ رَفْعٍ صِفةً لـ "جزاء" أوْ في مَوضِعِ نَصْبٍ على الحَالِ منْهُ أوْ على النَّعْتِ لـ "جزاء" فيمَنْ نَصَبَه، وخَصَّصَ أَبو البَقاءِ كونَه صِفَةً بقراءةِ تَنوينِ "جزاء" والحالَ بقراءةِ إضافتِه، ولا فرقَ، بَلْ يَجوزُ أَنْ تكونَ الجُملةُ نَعتًا أوْ حالًا بالاعتباريْنِ؛ لأنَّه إذا أُضيفَ إلى "مثل" فهو باقٍ على تَنكيرِهِ لأنَّ "مِثْلًا" لا يتعرَّفُ بالإِضافة، وكذا خصَّصَ مَكِّيٌّ الوَصْفَ بقراءةِ إضافةِ الجَزاءِ إلى "مِثْل" فإنَّه قال: ومِن النَّعَمِ في قراءةِ مَنْ أضاف الجزاءَ إلى "مِثْل" صفةً لِـ "جَزاء"، ويَحْسُنُ أَنْ تتعلَّق "من" بالمَصْدَرِ فلا تَكونُ صِفَةً، وإنَّما المَصْدرُ مُعَدَّى إلى "مِنَ النعم"، وإذا جَعَلْتَه صِفَةً فـ "مِنْ" مُتَعَلِّقةٌ بالخبرِ المَحذوفِ وهو "فِعليَّة" وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهيْن، أحدُهُما: قد تقدَّمَ وهو التَخصيصُ بقراءةِ الإِضافةِ. والثاني: أنَّه حينَ جَعَلَ "مِنَ النَّعَمِ" صِفَةً عَلَّقَها بالخَبَرِ المَحذوفِ لِما تَضَمَّنَهُ مِنَ الاسْتِقرارِ، وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ إذا وَقَعَ صِفَةً تَعَلَّقَ بمحذوفٍ، ذلك المَحذوفُ هو الوَصْفُ في الحَقيقةِ، وهذا الذي جَعَلَه مُتَعَلِّقًا لِهذِه الصِفَةِ ليسَ صِفَةً للمَوصوفِ في الحقيقةِ بلْ هو خَبَرٌ عنه، أَلا تَرى أنَّك لو قلتَ: عندي رَجلٌ مِنْ بَني فلانٍ، أنَّ "مِنْ بني" متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقةِ لا بقولِك "عندي" ويُمكِنُ أَنْ يقال: ـ وهو بعيدٌ جدًا ـ إنَّه أَرادَ التَعَلُّقَ المَعْنَوِيَّ، وذلك أنَّ العامُلَ في المَوصوفِ عاملٌ في صفَتِهِ، و"عليه" عاملٌ في "جزاء" فهو عاملٌ في صفتِه، فالتَعَلُّقُ مِنْ هذه الحَيثيَّةِ، ولكنْ إنَّما يَتَأتَّى ذلك حيثُ جَعَلْنا الخبرَ عامِلًا في المُبْتَدَأِ، أوْ قلنا: إنَّ الجارَّ يَرفَعُ الفاعلَ ولو لم يُعتَمَدْ، وإنَّما أَذكُرُ هذه التوجيهاتِ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولُهم بالكُلِّيَّةِ. والأَلِفُ في "ذوا" علامةٌ لرفعِ مثَّنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ هذه اللفظةِ وتصاريفِها.
وقرَأَ الجُمهورُ: {ذَوا} بالألِفِ، وقرَأَ مُحَمَّدٌ بْنُ جَعفَرٍ الصادِقِ: "ذو"
بلفظِ الإِفْرادِ قالوا: ولا يريدُ بذلك الوحدةَ بل يريدُ: يَحكُمُ بِهِ مَنْ هُوَ مِنْ أهْلِ العَدْلِ. وقيل: أَرادَ الإِمامُ: فعلى هذا تكونُ الوِحْدَةُ مقصودةً. و"منكم" في محلِّ رفعٍ صِفَةً لـ "ذوا" أيْ إنَّهُما يَكونان مِنْ جِنْسِكم في الدين، ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ صِفَةً لـ "عَدْل" لأنَّه مصدرٌ، يَعني أنَّ المصدرَ ليس مِنْ جِنْسِهم فكيفَ يُوصَفُ بِكونِه مِنهم؟
قولُه: {هَدْيًا بالغَ الكعبة} هَدْيًا: حالٌ مِنَ الضَميرِ في "به" والمعنى: يَحكُمُ بِهِ مُقَدِّرًا أنْ يُهْدَى، يَعني أنَّه حالٌ مُقدَّرةٌ ولا مُقارِنَةٌ، وهو كقولِكَ: معَهُ صقرٌ صائدًا بِه غدًا، أيْ مُقَدِّرًا الصَيْدَ. أوْ حالٌ مِنْ "جزاء" سواءً قُرِئَ مرفوعًا أوْ مَنصوبًا، مُنَوَّنًا أو مُضافًا. أو هو منصوبٌ على المصدرِ، أي: يُهديه هَدْيًا، أو هو منصوبٌ على التمييزِ. أو هو منصوبٌ على مَحَلِّ "مثل" فيمَنْ خَفَضَه، لأنَّ مَحَلَّهُ النَّصبُ بعملِ المَصْدَرِ فيهِ تقديرًا كما تقدَّم تحريرُه. وهناك وجهٌ سادسٌ بأنَّه بَدَلٌ مِنْ "جزاء" فيمَنْ نَصَبَهُ، والوجهُ الأولُ أظهرُ. و"بالغَ الكَعبةِ" صفةٌ لـ "هَدْيًا" ولم يتعرَّفْ بالإِضافةِ لأنَّه عاملٌ في الكَعْبَةِ النَّصبَ تقديرًا، ومثلُه قولُه: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} الأحقاف: 24. وقولُ جَرِير:
يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ ............... لاقَى مباعَدةً منكم وحِرْمانا
في أنَّ الإِضافةَ فيها غيرُ مَحْضَةٍ. وقرأ الأعرجُ: "هَدِيًّا" بكسرِ الدالِ وتشديدِ الياءِ.
قولُهُ: {أَوْ كَفَّارَةٌ} عَطفٌ على قولِه: "فَجَزَاءٌ" و"أو" هنا للتَخييرِ،
ونُقِل عنِ ابنِ عباسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما ـ أنَّها ليسَتْ للتخيير، بلْ للتَرتيبِ، وهذا على قراءةِ مَنْ رَفَعَ "فجزاءٌ" فقد جَعَلَها خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّه قيل: أوِ الواجبُ عليه كفارةٌ، وأمَّا مَنْ نَصَبَه فيجوزُ أَنْ تُقَدَّرَ: فعليْه أنْ يَجْزيَ جَزاءً أوْ كَفَّارَةً، فتَعْطِفَ "كفَّارةً" على "أَنْ يَجْزي" يَعني أنَّ "عليه" يَكونُ خبرًا مقدَّمًا، وأَنْ يَجْزيَ "مبتدأً مؤخرًا، فَعُطِفَتِ "الكفَّارةُ" على هذا المبتدأ.
وقرأ نافعٌ وابْنُ عامرٍ بإضافةِ "كفارة" لِما بعدَها، والباقون بتنوينِها ورفعِ ما بعدَها. فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضِحَةٌ، ورَفْعُ "طعام" إمَّا على أنَّه بَدَلٌ مِنْ "كفَّارة" إذْ هي مِنْ جِنْسِهِ. أو على أنَّه بيانٌ لها كما تقدَّمَ، ورَدَّهُ الشيخُ أبو حيَّان بأنَّ مذهبَ البَصْرييّنَ اخْتِصاصُ عَطْفِ البَيانِ بالمَعارفِ دونَ النَكِراتِ. وأبو عليٍّ الفارسيُّ يُخالِفُ في ذلك ويَستَدِلُّ بأدِلَّةٍ، منها: {شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} النور: 35، فـ "زيتونةٍ" عندَهُ عطفُ بيانٍ لـ "شجرة"، وكذا قولُه تعالى: {مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} إبراهيم: 16، فـ "صديدٍ" عندَه بَدَلٌ من "ماءٍ" والبَدَلُ فيهِما مُحتَمَلٌ فلا حُجَّةَ لَهُ، والبدلُ قد يَجيءُ للبيان. ويمكن أن يكون "طعام" خبرَ مبتدأٍ محذوف. أي: تلك الكفارةُ طعامٌ. وأمَّا قراءة نافع وابنِ عامرٍ فوجهُها أنَّ الكفارةَ لَمَّا تنوَّعتْ إلى تكفيرٍ بالطَعامِ وتكفيرٍ بالجَزاءِ المُماثِلِ وتَكفيرٍ بالصِيامِ حَسُن إضافتُها لأَحَدِ أَنواعِها تَبْيينًا لذلك، والإِضافةُ تكون بأدْنى مُلابَسَةٍ كقولِه:
إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرَةٍ ......... سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في القَرائبِ
أضافَ الكوكبَ إليها لِقيامِها عندَ طلوعِه فهذا أَوْلَى. وقد اسْتَشْكَلَ جماعةٌ هذه القراءةَ مِنْ حيثُ إنَّ الكَفَّارةَ ليستْ للطَعامِ إنَّما هي لِقَتْلِ الصيْدِ، كذا قاله أبو علي الفارسي وغيره. ولم يَختلفِ السَبْعةُ في جَمْعِ "مساكين" هُنا وإنْ اخْتَلفوا في البَقرةِ، والفرقُ بينَهُما أنَّ قَتْلَ الصَيْدِ لا يُجْزيء فيه إطعامُ مِسْكينٍ واحدٍ. على أنَّه قد قَرَأَ عيسى بْنُ عُمَر والأَعرجُ بتنوينِ "كفارة" ورَفَعَ "طعامُ مِسكينٍ" بالتوحيدِ، قالوا: ومُرادُهُما بيانُ الجِنْسِ لا التوحيدُ.
قولُه: {أَو عَدْلُ ذلك صيامًا} نَسَقٌ على "فجزاءٌ" والجُمهورُ على فتحِ العين، وقرأَ ابْنُ عبَّاسٍ وطَلحة بْنُ مصرف والجحدريُّ بكسرِها، وقد بَيَّنا معناهما عند قولِه تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} البقرة: 48. و"ذلك" إشارةٌ إلى الطعامِ. و"صيامًا" نَصْبٌ على التمييزِ لأنَّ المَعنى: أوْ قَدْرُ ذلك صِيامًا فهو كقولِكَ: "لي مِلْؤُه عَسَلًا" وأَصلُ "صِيامًا": "صِوامًا" فَأُعِلَّ لِما عُرِف غيرَ مَرَّةٍ.
قولُه: {لِيَذُوقَ} متعلقٌ بـ "جزاء" ويَتَأتَّى ذلك حيث يُضافُ إلى "مثل" أو يُنَوِّنُ "جزاء" ويُنْصَبُ "مثل" وذلك بأنَّه إذا رُفِعَ مَثَلًا كان صِفَةً للمَصْدَرِ، وإذا وُصِفَ المَصْدرُ لمْ يَعمَلْ إلَّا أنْ يتقدمَ المعمولُ على وصْفِهِ نحو: يُعجِبني الضَرْبُ زيدًا الشديدُ. فيجوز. وكذا لو جَعَلَهُ بَدَلًا أَيْضًا أو خَبَرًا لِما تقدَّم مِنْ أنَّه يَلزمُ أنْ يُتَبَعَ المَوْصولُ أوْ يُخبَرَ عنه قبلَ تمامِ صِلَتِهِ وهو ممنوعٌ ولا يَجوزُ لأنَّ "لِيذوقَ" مِنْ تمامِ صلةِ المصدرِ، وقد عُطِف عليه قولُه: "أوْ كفَّارةٌ أو عَدْلٌ" فيَلْزَمُ أَنْ يُعْطَفَ على المَوصولِ قبلَ تمامِ صِلَتِه، ولو قلتَ: جاءَ الذي ضَرَبَ وعمروٌ زيدًا. لم يَجُزْ للفَصْلِ بيْنَ الصِلَةِ ـ أوْ أَبعاضِها ـ والمَوصولِ بأجْنَبِيٍّ. أو هو متعلِّقٌ بفعلٍ مَحذوفٍ يَدُلُّ عليْه قوَّةُ الكَلامِ كأنَّه قيلَ: جُوزِيَ بذلك لِيذوقَ. أو هو متعلِّقٌ بالاسْتِقرارِ المُقدَّرِ قبلَ قولِه: "فجزاء" إذِ التَقديرُ "فعليه جزاءٌ لِيذوقَ". أو هو متعلِّقٌ بـ "صيام" أي: صَومُهُ لِيَذوقَ، أو هو مُتَعَلِّقٌ بـ "طعام" أي: "طعام لِيذوقَ"، والأوجُه الثلاثة الأخيرةُ ضَعيفةٌ جِدًّا، وأجودُها هو أوَّلُها. وهناك وجهٌ سادسٌ بأنها تتعلَّقُ بـ "عَدْلُ ذلك" وهو غلطٌ.
والوَبالُ: سُوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضَرَرُه، والوابل: المَطرُ الثَقيلُ القَطْرِ، ولِمُراعاةِ الثِّقَلِ قيلِ للأمْرِ الذي يُخافُ ضَرَرُه: وبالٌ، قال تعالى: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} الحشر: 15، ويُقالُ: "طعامٌ وَبيلٌ" و"كلَأٌ وَبيلٌ" يُخافُ وبالُه، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وبِيلًا} المزمل: 16. فالوبالُ في اللغةِ ثِقَلُ الشيءِ في المَكروهِ، يُقال: "مرعىً وبيلٌ" إذا كان يُسْتَوْخَمُ، و"ماء وبيلٌ" إذا كان لا يُسْتَمْرأُ، واسْتُوَبَلْتُ الأرضَ: كرِهْتُها خوفًا مِنْ وبالِها، وفي "الذوْق" اسْتِعارةٌ بَليغَةٌ هُنا.
قولُه: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ} مَنْ: يَجوزُ أنْ تَكونَ شَرْطِيَّةً، فالفاءُ جَوابُها، و"ينتقمُ" خبرٌ لِمُبتَدأٍ مَحذوفٍ أي: فهو يَنْتَقِمُ، ولا يَجوزُ الجَزْمُ مَعَ الفاءِ البَتَّةِ، ويَجوزُ أنْ تكونَ مَوْصولةً، ودَخَلَتِ الفاءُ في خَبَرِ المُبتَدأِ لَمَّا أشبَهَ الشَرْطَ، فالفاءُ زائدةٌ، والجُمْلةُ بعدَها خبرٌ، ولا حاجةَ إلى إضْمارِ مُبْتَدأٍ بعدَ الفَاءِ بِخِلافِ مَا تقدَّمَ. وحَسَّنَ دُخولَ الفاءِ كونُ فعْلِ الشَرْطِ ماضِيًا لَفظًا.