[rtl]بــسم الله الرحــمن الرحــيم
الحمد لله رب العالمين الذي بعث إلينا الرسل و جعلنا من أمة خيرهم و خاتمهم محمد صلى الله عليه و سلم و أنزل علينا الكتاب المكنون و هدانا إلى الدين القويم و الملة الحنيفية السمحة.
أما بعد فلقد استخرت ربي الواحد الأحد علام الغيوب أنا الفقير إلى رحمة الله تعالى عبد الله بن خليل الحمد التميمي في كتابة هذه الرسالة الشرعية في حكم ارتداء الأحزمة التي تحتوي على مواد متفجرة و حكم ركوب الآلات المموهة المشحونة بمواد متفجرة أو حارقة بقصد الدخول إلى جموع العدو بأمان ثم تفجير هذه الأحزمة أو المركبات بحامليها أو ركابها في تلك الجموع.
مــقــدمــات تـاريــخــيــة
عايشت منذ تفتح صباي أخبار ظهور هذا النوع من الهجمات و الفتاوى التي صدرت بخصوص حكمها الشرعي و حكم مرتكبها أمأجور هو؟ أم مأزور؟ و ذلك في أوائل القرن الهجري الحالي الموافق لأوائل ثمانينيات القرن الشمسي الماضي.
و لقد كانت هذه الهجمات غير معروفة في الأمة المحمدية في سائر الزمن السابق لهذه الفترة التي ذكرتها آنفا ، و حتى في جميع الديانات التي سبقت ظهور الإسلام كاليهودية و النصرانية لم يوجد لهذه الهجمات أي ذكر يستحق الوقوف عنده و لم نعلم أن أحدا من أحبار تلك الديانات أجاز الانتحار من أجل أي مبرر كان.
إلا أن التاريخ يحدثنا عن بعض الأمم غير المسلمة وهي الأمة اليابانية و عن بعض الجماعات التي انتسبت إسميّا للإسلام و هي الفرقة الإسماعيلية (الحشاشين) كان الانتحار عملا مشروعا في ديانتها و أجازت لأتباعها أن يستعملوا أسلحتهم لقتل أنفسهم أو إيذاء أجسادهم بقطع بعض الأعضاء أو تحسي السموم أو التردي من المرتفعات.
في اليابان:
وجدت فئة من المحاربين المتدينين كانت مقربة من الإمبراطور الياباني تدعى "ساموراي" أو "نينجا" و لهذه الفئة فنون قتالية مرتبطة بطقوس ديانة اليابان "الشنتو" وهم يتدربون على هذه الفنون في معابدهم حيث يتعلم المحاربون كيف يضحون بأنفسهم و لو بالانتحار من أجل تحقيق رغبات إمبراطورهم ، و لقد كان هؤلاء المحاربون يعبدون إمبراطور "اليابان" بوصفه إلها رسميا للبلاد اليابانية و لكافة أتباع ديانة "الشنتو".
هذه الفئة من المحاربين كانت عماد القوات اليابانية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية ضد "الولايات المتحدة الأمريكية" و لقد تشكلت منها القوات الجوية اليابانية ، و عندما انهزم الأسطول الياباني في المحيط الهادئ أمام الأسطول الأمريكي و اقتربت السفن الأمريكية من البر الياباني خرجت أمواج من هؤلاء المحاربين بطائرات مشحونة بأنواع المتفجرات و صدموا سفن الأسطول الأمريكي بهذه الطائرات و هم يقودونها فقتلوا أنفسهم و أغرقوا سفنا أمريكية و قتلوا الكثير من بحارتها ، إلا أن الأمريكيين طوروا تدابيرهم لمواجهة هذه الطائرات و لمنع وصولها إلى سفنهم و للتخفيف من الأذى الذي تلحقه هذه الطائرات بأسطولهم و بحارتهم ، و فشلت حملة طياري "كاميكازي" أو (الإعصار الإلهي) في منع الأمريكيين من الوصول إلى الجزر اليابانية و احتلالها في نهاية المطاف.
في بلاد الإسلام:
ظهرت في بلاد الإسلام ما بين القرن الخامس و السابع الهجريين فئة تدعى الإسماعيلية ، و لقد زعمت هذه الفئة أن الله تعالى قد اختار زعيمها فعصمه من الخطأ و منحه مفاتيح الجنات ليدخل إليها أتباعه و يحجب عنها من لا يرضى عنهم !.
أجاز زعيم هذه الفئة (حسن الصّبّاح) لأتباعه قتل أنفسهم لا بل زعم أن الانتحار هو السبيل الأمثل للوصول إلى جنات النعيم و فردوس السعادة الأبدية ، و لقد أطلق المؤرخون على هذه الجماعة اسم (الحشاشين) أو (النزاريين) أو (بنو الصّبّاح) , هي إحدى الطوائف التي زعمت التشيع للعلويين ، ولقد تمكنت هذه الفئة من إقامة عدة دويلات في (إيران) و(الشام) مابين عامي 470-650 هجرية من خلال السيطرة على قلاع نائية جعلوها مقرات لهم و منطلقا لهجماتهم على الجوار المسلم.
و يعود السبب في تسميتهم بـ "الحشاشين" إلى الطريقة التي كان زعيمهم "حسن الصباح" يقنع بها أتباعه بأنه يملك مفاتيح الجنات السماوية و سنعرض هذه الطريقة في سياق تعريفنا لـ "حسن الصّبّاح" هذا حتى تتضح معالم تفكير هذه الفئة و مدى استمرارية وجودها بالذات أو النظائر في أيامنا هذه.
الحسن بن الصّبّاح:
الحسن بن الصباح بن علي بن محمد بن جعفر بن الحسين بن الصباح الحميري الإسماعيلي رجل فارسى الأصل و الغالب أنه مولى أعجمي كان ينتسب إلى "حمير" بالولاء ، كان عالما بالهندسة والحساب والنجوم ولد بمدينة "طوس" وتتلمذ لـ "أحمد بن عطاش" و ذلك في القرن الخامس الهجري.
كان "الصّبّاح" يدين بالولاء لإمام العبيديين المتلقب بـ"المستنصر" و بأمره قام بتأسيس أول جماعة إسماعيلية مسلحة ادعت انتسابها إلى الإسلام وتاريخها مليء بعشرات ألوف القتلى والمغتالين وبحور الدماء.
كان "الصّباح" من أعيان الباطنية في عهد السلطان السلجوقي "ملكشاه" (رحمه الله) ثم كان مقدكبيرة,اعيلية في "أصفهان" ورحل منها وطاف في البلاد ودخل مصر وأكرمه "المستنصر" العبيدي وأعطاه مالا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته, فعاد إلى الشام والجزيرة وديار بكر وطاف في بلاد الروم (آسية الصغرى) وعاد إلى خراسان ثم دخل مدينة (كاشغر) وما وراء النهر ، داعيا لإمامة "المستنصر" العبيدي ، و في سنة 483هـ , استولى على "قلعة الموت " المبنية على جبل شاهق في خراسان كانت لملوك الديلم.
جعل "الصّبّاح" من "قلعة الموت" مقرا له و ألحق بها عددا آخر من القلاع و بدأ من قلعته بإعداد جيش الإسماعيلية الخاص و على طريقته الخاصة.
كان "الصباح" يقوم باختيار الأطفال حتى يتم تدريبهم تدريبا شاقا فيصبحون أطوع له من أصابعه و كانت الهجمات الأساسية التي يقومون بها هي القتل غدرا "الاغتيالات" ، و لقد كان "الصباح" يراعي في اختيار جنوده شروطا منها ألا يكونوا قد ذاقوا الخمر أو النساء أو أيا من ملذات الحياة , ولقد كانت الأسر الإسماعيلية تتبرع بأبنائها لترسلهم إلى (الصّبّاح) حتى يجاهدوا في سبيل توسيع الدعوة الصبّاحية المقدسة.
أوكَل (الصّبّاح) أمر هؤلاء الفتية إلى بعض المعلمين يعلمونهم أصول الديانة الإسماعيلية واللغة والشعر ..كما تعلموا العلوم العسكرية على يد قادة بارعين جدا وكانت تدريباتهم العسكرية قاسية بدرجة كبيرة ,حتى أن الكثيرين منهم كانوا يهلكون أثناء التدريب.
و مما كان يقوله هؤلاء المعلمون لفتيانهم : "إنه لا بد من أن يكون لعقل الإنسان وفكره وتطلعاته تحليق النسر إذا لم يعترضه عائق كبير ، هذا العائق هو جسدنا بكل مواطن ضعفه ، فجسدنا الميال إلى الكسل يخشى الصعاب التي بها تتحقق الأهداف السامية ، وقهر هذه الأهواء وتحرير العقول من قيودها هو الهدف من تدريباتنا إلى أن يصبح المرء قادرا على إنجاز المآثر العالية التي تقتضي التضحية بالنفس بشكل أعمى عندما يأمر سيدنا الأعلى "ابن الصّباح".
و عندما يموت المحارب الإسماعيلي وهو يقوم بواجبه يسمى "شهيد" وعندما ينجح ويبقى على قيد الحياة يُـرقّى إلى داعية أو أكثر و يتحول إلى قائد لعدد من المحاربين.
لقد غرس (الصّباح) في نفوس أتباعه أنه هو السّيد والإمام والمولى وأن الله تعالى قد أعطاه مفتاح الفردوس يفتحه لمن يشاء من أتباعه الإسماعيليين.
كانت وسيلة "الصّباح" لإقناعهم عجيبة جدا ؛ ذلك أنه أخفى عنهم قسما مغلقا خلفيا في قلعته كان قد بناه ملوك الديلم لنزهتهم و هو جانب من حدائق تخترقها الأنهار وتملأها الطيور والأزهار ، و كان "الصّباح" قد اشترى العديد من الفتيات شديدة الجمال و أسكنهن هذا القسم الجميل من القلعة وجلب لهن من يعلمهم الفنون والشعر والرقص ويجعل حياتهن ناعمة مثل الأميرات الناعمات ، وقبل كل شيء كان يقوم بتعليمهن طاعته والولاء التام له والطاعة العمياء لأوامره.
عندما كان "الصباح" يفكر في خطة لهجوم غادر على شخص أو زعيم فإنه كان ينتدب لها عددا من هؤلاء المقاتلين فيستضيفهم إلى مائدته و يسقيهم مخدرا من "الأفيون" (الحشيش) ثم بعد أن يفقدوا وعيهم كان يدخلهم إلى جنته الخلفية هذه فلا يفيقون إلا في فردوس (الصّباح)على أصوات الفتيات الجميلة اللواتي يزعمن لهم أنهن "الحور العين" ، ثم يأخذن بالغناء والرقص لكل منهم و هم الفتيان الذين لم يواجهوا في حياتهم أية فتنة أو إغراء و في هذا اليوم يقوم هؤلاء الفتيان بعمل كلّ شيء محرم عليهم في الجانب الأخر من القلعة ، فيرون أنهم في الجنة وأن سيدهم "الصّباح" فتح لهم باب الفردوس الحقيقي ، ثم في نهاية اليوم تقوم الفتيات بتخديرهم ثم يحملون إلى (الصّباح) فيفيقون بين يديه وقد آمنوا تماما بكل ما زعمه لهم مدربوهم عن السّيد و الإمام "الصّباح" و عن مفاتح الفردوس الأعلى التي بيده ، و لهذا سميت هذه الفرقة بـ "الحشاشين".
ثم يروي هؤلاء المقاتلون لأترابهم ما رأوه من معجزات إمامهم هذه ، و ليزدادوا يقينا كان "الصّبّاح" يختار منهم واحدا أو أكثر فيقول له أتريد العودة إلى الجنة ؟ فيتمنى عليه الفتى المخدوع أن يعجل له بالعودة فيأمره بأن ينحر نفسه أو أن يتردى من فوق أحد جدران القلعة فيفعل ذلك فورا و باندفاع ظاهر ، ثم يطلب "الصباح" من الباقين أن يذهبوا في مهمة الاغتيال التي كلفهم بها ليلحقوا بمن سبقهم.
ورد في كتاب (المنتظم) لـ "إبن الجوزي": كان "إبن الالأرض، يستقبل المبعوثين من خصومه السلاجقة (المسلمون) فكانوا يطلبون منه التنازل عن "قلعة الموت" والرجوع عن دعوته فكان يعمد إلى الردّ عليهم بواقع حال محاربيه الذين أذاقهم طعم جنته ، فيستدعي اثنين منهم ويقول لأحدهم : هل تريد العودة إلى الفردوس والخلود فيها ؟ فيجيب الفتى : نعم !، فيقول له اذهب إلى أعلى ذلك البرج وألقِ نفسك إلى الأرض ، فينطلق الغلام برغبة جامحة و هيام ظاهر ويرتقى البرج ويقذف بنفسه إلى الأرض فيتقطع ميتا ، ثم يلتفت إلى الفتى الآخر ملوحاً بالفردوس ويسأله : ألديك خنجر ؟ فيجيب: نعم، فيقول له: اقتل نفسك، فيديه:الفتى خنجره ويغرسه في عنقه حتى يموت... عندها يقول "ابن الصباح" للرسل بين يديه : أبلغوا من أرسلكم أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا مبلغ طاعتهم لي!!.
عاش "الصّباح" هذا حتى بلغ التسعين و هلك في "طوس" غير مأسوف عليه.
كيفية تنفيذ مقاتلي "الصباح" لمهماتهم:
كان من عادات "الحشاشين" في تنفيذ الاغتيالات التنكر بملابس الصوفية أو ارتداء ثياب النساء والشحاذين والفقراء أو انتظار المطلوب بين صفوف المصلين، أو تقديم أنفسهم كطالبي حاجات أو عابري سبيل، أو كخدم يبحثون عن العمل داخل القصور تحت أسماء مستعارة حتى تحين فرصة انقضاضهم على الضحية فيعترضون ضحيتهم وهو بين حرسه وشرطه وربما داخل ثكنة الجيش برسالة استرحام أو برسالة من صديق يتوسط بقضاء حاجة حاملها ، و عندما يقتربون من المطلوب يقتلونه طعنا بالخناجر في مقتل من جسده ، ولا يترددون في التضحية بواحد من السرية المبعوثة لتنفيذ المهمة إن أقتضى الأمر أو أن يقوم المهاجم بقتل نفسه حرصا على كتمان أسرار بقية المجموعة.
يروي المؤرخون أن عشرة من الحشاشين كانوا يستعدون لاغتيال الخليفة العبيدي "الآمر بأحكام الله" (496هـ)، فكمنوا في بيت يتحينون الفرصة للوثوب عليه، و تسرب خبرهم إلى شرطة القاهرة فاستنفرت في طلبهم، و ليستدل الحشاشون هل تعرف الحراس على وجوههم أم لا أمروا أحدهم بقتل نفسه فقال: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة مَنْ تلزمنا طاعته؟ فقالوا: نعم، فقال: وما دللتكم إلا على نفسي، وشرع في قتل نفسه بيده بسكين في جوفه فمات في وقته، فأخذ رفاقه رأسه ورموه ليلا في محلة "بين القصرين" و لمّا لم يتعرف الشرط على وجه صاحبهم و لم يفتشوا المحلة اطمأن التسعة إلى جهل الشرطة لأشكالهم فمضوا في مهمتهم ، و بعد جمع المعلومات الكافية حول حركة الخليفة، وجدوه يتردد على مكان يعرف بـ "جزيرة الروضة" ولا يصله إلا بعد اجتياز الجسر ، وفي اليوم الموعود اجتمعوا في فرن قريب من المكان، و ابتاعوا منه فطيراً بالسمن و العسل، ولما سمعوا بوصول الموكب هبّوا إلى رأس الجسر حيث يتأخر الحرس عادة لمرور الخليفة، فوثبوا عليه بالسكاكين، وللتأكد من قتله ركب أحدهم وراء ظهره وضربه عدة ضربات بخنجره فمات المطلوب بعد حمله إلى قصر اللؤلؤة، أما التسعة الحشاشون فقتلوا في الحال جميعاً.
و اغتال الحشاشون في السنة 521هـ وزير الأمير "سنجر" بدمشق بعد أن شن حملة كبيرة لتصفيتهم. احتالوا عليه ببعث سائس يخدم خيله حتى وجد الفرصة المناسبة، و عندما دخل الوزير يوماً يفتقد خيله، وثب عليه المذكور فقتله وقتل نفسه بعده.
استعمل "الصباح" أتباعه كوسيلة يكسب بها المال و السلطة ، و لقد كان يؤجرهم في اغتيالات لحساب أمراء و ملوك يدفعون له للتخلص من منافسيهم.
وقد روى "أبو الفداء" عملية الاغتيال هذه كالتالي: لما كان عاشر رمضان من هذه السنة بعد الإفطار، وهم بالقرب من "نهاوند" وقد انصرف الوزير "نظام المُلْك" إلى خيمة حرمه وثب عليه غلام ديلمي في صورة شحاذ، وضرب "نظام المُلْك" بسكين فقضى عليه، و أدرك أصحاب "نظام المُلْك" الغلام فقتلوه، وحصل للعسكر بسبب مقتل الوزير تشويش و صخب ، فركب السلطان وسكن العسكر ، وكان "نظام المُلْك" قد كبر، و قتله كان بتدبير من السلطان "ملكشاه ابن ألب أرسلان" الذي كان على خلاف معه، وشعر بخطورته وخطورة أولاده على مراكز السلطنة.
و لقد امتدت نشاطات الحشاشين على مدى القرنين الخامس و السادس الهجريين و استفحلت شرورهم حتى أن الكثير من القادة و الزعماء و القضاة من المسلمين كانوا لا يباشرون أعمالهم إلا و هم لابسون قمصان الزرد حماية لأنفسهم من خناجر الحشاشين المسمومة الغادرة.
لم تؤثر وفاة زعيم الحشاشين "الحسن بن الصبَّاح" سنة 518هـ وسقوط "قلعة الموت" بيد السلطان "مسعود السلجوقي" السنة 524هـ، في استمرار هجمات الحشاشين ، فقلعة "تعليم العقاب" أو "عش النسر" و قلعة "مصياف" كانت من عشرات القلاع التي لم تسقط كاملة إلا بيد عساكر المغول أسقطتها واحدة بعد واحدة حتى وصلت بغداد السنة 656هـ، بعد أن استجار بهم قاضي قضاة قزوين "شمس الدين" وهو يلبس الزرد تحت ثيابه وقاية من خناجر الحشاشين..
لم تكد تبق دار سلطنة و لا دولة في بلاد الإسلام ، بمأمن من خناجر الحشاشين، غُرزت في ظهر "الآمر بأحكام الله" العبيدي ، وقطعت أوصال الخليفة "المسترشد بالله العباسي" وذبحت ما ذبحت من سلاطين ووزراء السلاجقة، وأفزعت أوروبا بقتل حاكم القدس، وأخيراً تمكنت السنة 571هـ من الوثوب على السلطان الناصر "صلاح الدين الأيوبي" (رحمه الله) وهو يتفقد جيشه في "قلعة إعزاز" شمال "حلب" جاءه ثلاثة في لباس الأجناد، فضربه واحد بسكين في رأسه فلم يجرحه، وخدشت السكين خدَّه وقُتل الثلاثة فترك "صلاح الدين" القلعة إلى "حلب" إثر هذا الاعتداء.
نبذة عن عقائد "الحشاشين" :
تلتقي معتقداتهم مع معتقدات المتشيعة الإمامية عامة و الإسماعيلية خاصة من حيث ضرورة عدم خلو الزمان من إمام معصوم ومنصوص عليه من الإمام الذي سبقه و يرى الإسماعيلية أن العهد بالإمامة يجب أن ينحصر بالابن الأكبر للإمام السابق.
و كل الذين ظهروا من قادة الحشاشين إنما زعموا أنهم الحجة والداعية للإمام المستور (المتخفي) باستثناء (الحسن بن الصباح) وابنه فقد ادعيا بأنهما إمامان من نسل نزار.
كان للحشاشين وجود في "الشام" و كان إمامهم هناك "رشيد الدين سنان بن سليمان" قال بفكرة التناسخ زيادة على عقائد الإسماعيلية التي يؤمنون بها ، كما ادعى أنه يعلم الغيب ، و كان متعاونا مع الصليبيين ، و جماعته هم من أوصل لفظة Assassins (الحشاشين) إلى اللغة الإنكليزية و بقية اللغات الأوربية.
كانت وسيلتهم للبقاء و التوسع الاغتيال المنظم، وذلك من طريق تدريب الأطفال على الطاعة العمياء والإيمان بكل ما يلقى إليهم، وعندما يشتد ساعدهم يدربونهم على الأسلحة المعروفة ولا سيما الخناجر، ويعلمونهم الاختفاء والسّرية وأن يقتل أحدهم نفسه قبل أن يبوح بكلمة واحدة من أسرارهم ، وبذلك أعدوا طائفة "الحشاشين" التي روعت المسلمين آنذاك .
كانوا يمتنعون من سلاطين الإسلام في سلسلة من القلاع والحصون ، فلم يتركوا في منطقتهم مكانًا مشرفًا إلا أقاموا عليه حصنًا، ولم يتركوا قلعة إلا و وضعوا نصب أعينهم احتلالها.
كانت هذه الطائفة تستحل كافة المحرمات تقريبا في القرى و المدن التي تدين بدينها و يقول عنهم المؤرخ "كمال الدين بن العديم": في عام 572هـ/1176م "انخرط سكان "جبل السّماق" (مصياف) في الآثام والفسوق وأسموا أنفسهم المتطهرين ، واختلط الرجال والنساء في حفلات الشراب ولم يمتنع رجل عن أخته أو ابنته ، وارتدت النساء ملابس الرجال ، وأعلن بعضهم بأن "سنان بن سليمان" هو ربهم.
انطلقت دعوتهم من "كرمان" و "يزد" إلى أواسط "إيران" و "أصفهان" ثم "هضبة الديلم" واستقرت في "قلعة الموت" وشرقاً وصلوا "مازندران" ثم "قزوين" واحتلوا منطقة "رودبار" و "لاماسار" و "كوهستان".. واحتلوا كثيراً من القلاع وامتدوا إلى "نهر جيحون" ، وصلت دعوتهم إلى سوريا، وامتلكوا القلاع والحصون على طول البلاد وعرضها ومن قلاعهم "بانياس" و "مصياف" و "القدموس" و "الكهف" و "الخوابي" و "سلمية" التي كانت مقر دعوتهم..
كان زوالهم في "إيران" و "العراق" على يد "المغول" وفي "الشام" على يد السلطان "الظاهر بيبرس البندقداري" (رحمه الله).
في التاريخ الإسلامي الحديث:
لم نجد في القرن الهجري الماضي أي ذكر لهجمات يستعمل فيها مسلمون أحزمة متفجرة ينسفون بها أنفسهم بين أعدائهم ، و لا يكاد الباحث يجد سؤالا موجها إلى أحد العلماء المسلمين بهذا الخصوص خلال ذلك القرن.
في نهاية القرن الهجري الماضي وقعت في "سورية" معارك و مواجهات حربية بين مجموعات صغيرة من أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" و بين جنود و شرط حاكم "سورية" ، و لقد تعامل جنود هذا الحاكم مع سجناء و أسرى "الإخوان المسلمين" بشراسة غير مسبوقة في التاريخ و ارتكبوا فظائع هائلة بحق هؤلاء الأسرى حتى يستخرجوا منهم أسرارهم و أسماء إخوانهم و حتى إن لم يحقق هؤلاء الجنود مع الأسرى فإنهم كانوا يعذبونهم بطرق فظيعة لم يعرفها البشر من قبل.
و لقد استفتى عدد من هؤلاء الأسرى بعض قادتهم في جواز أن يقتل الأسير نفسه حتى لا يشي بإخوانه تحت التعذيب فصدرت بعض الفتاوى بإجازة قتل الأسير من "الإخوان المسلمين" نفسه حماية لإخوانه.
و لما تكاثر وقوع عناصر "الإخوان المسلمين" في أسر جنود حاكم "سورية" تباحث قادة الجماعة في حل يجنب أتباع الجماعة الوقوع في أسر الجند ، و اخترعوا لذلك أحزمة مشحونة بالمواد المتفجرة و فيها صاعق يشعل هذه المتفجرات ، و أجازوا لأتباعهم ارتداء هذه الأحزمة و أن يفجروها بأنفسهم إن خافوا الأسر حتى لا يقعوا بأيدي الجند فيعذبوهم بما يجعلهم يحلمون بالموت ليرتاحوا من آلامهم.
ثم قام عناصر من "الإخوان المسلمين" بشحن عدد من العربات بالمتفجرات و قادوها إلى أبنية و ثكنات تابعة لحاكم "سورية" و فجروها في هذه الأبنية و هم يقودونها فقتلوا و قتل معهم عدد من أتباع هذا الحاكم.
و بعد أن قضى حاكم "سورية" على خصومه من "الإخوان المسلمين" و احتل الصهاينة قسما من "لبنان" قامت مجموعات من الأحزاب اللبنانية التي يرعاها حاكم "سورية" بتنفيذ هجمات على قوات اليهود باستعمال مقاتلين يتحزمون بالمتفجرات أو يقودون عربات أو حتى بغال محملة بالمتفجرات فيقتلون أنفسهم وسط جنود يهود و يقتل معهم عدد من هؤلاء الجنود أو يجرحون.
بعد هذه الموجة من الهجمات ظهرت موجات واسعة من الفتاوى المتنوعة بخصوص حكم الشريعة المحمدية في هذه الهجمات و حكم منفذيها ، و راحت أجهزة إعلام حاكم "سورية" تنشر الكثير من التصريحات لمشايخ أطنبوا في تمجيد هذه الهجمات و منفذيها حتى أطلقوا عليها اسم "العمليات الاستشهادية".
انتشر اعتماد الجماعات المقاتلة باسم الإسلام في مشارق الأرض و مغاربها على هذا النوع من الهجمات و كثرت الفتاوى خاصة من علماء "الجزيرة العربية" التي تعتذر لمنفذي هذه العمليات و تعتبرهم من أفضل الشهداء عند الله مستندين إلى فتوى كان أصدرها مفتي "المملكة العربية السعودية" الشيخ "محمد بن إبراهيم" (رحمه الله) بإباحة الانتحار للأسير الجزائري خوف التعذيب و الاستجواب الوحشي على يد الجنود الفرنسيين.
و في نفس الوقت ظهرت فتاوى لعلماء كبار تحرم هذه الهجمات و تقرر أن منفذها منتحر آثم بقتل نفسه و أنه ليس بشهيد كالتي أصدرها الشيخ "محمد بن عثيمين" (رحمه الله).
و بين هؤلاء و هؤلاء ظهرت فتاوى حاولت أن تتوسط بين موقفي الفريقين و أن تضع قيودا على إباحة استعمال هذه الهجمات للتخفيف من الاعتماد عليها.
في الفترة التي ظهرت فيها هذه الهجمات كنت ما زلت طالبا صغيرا أتلقى التعليم من مشايخي رحمهم الله تعالى و لقد حضرت الكثير من المجالس التي وجهت فيها أسئلة إلى علمائنا بخصوص هذه الهجمات و حكمها و حكم منفذيها فسمعت من علمائنا مرارا و تكرارا ردودا جازمة متوافقة واضحة لا لبس فيها حول حكم هذه الهجمات ، و استمعت كثيرا إلى ردود على فتاوى علمائنا و إلى تفنيد مشايخنا رحمهم الله لهذه المحاورات بما أفحم محاوريهم تماما.
اليوم أجدني آثما بكتمان العلم إن توقفت عن الخوض في هذه المسألة التي كثر الجدل حولها و أثارت الكثير جدا من المشاكل و الخصومات ، و ها أنا أسطر هذا الكتاب على أمل أن ينفعني الله تعالى به فيجعله في ميزان حسناتي و ينشره بيانا واضحا لحكم الشريعة المحمدية كما بينه مشايخنا رحمهم الله تعالى في هذه الهجمات و منفذيها.
خطة الكتاب
سأبدأ مستعينا بالله تعالى بيان حكم الإسلام في الانتحار و أقوال المذاهب الإسلامية الأربعة في مرتكب هذا الفعل بأدلتها ثم استعراض أدلة المخالفين و استنباطاتهم و الرد على كل منها بالتفصيل.
حكم الانتحار في الإسلام
"الانتحار": لغةً من نًحَر بفتح النون و الحاء و الراء أي ذبح فقطع الأوداج (العروق الدموية على طرفي العنق) أو قطع الحلقوم و انتحر المرء أي أن يباشر قتل نفسه بنفسه بفعل أو ترك بسلاح أو دون سلاح.
و لا يختلف المعنى الشرعي عن المعنى اللغوي و لقد ذكر نصا في القرآن و الحديث الشريف في مواضع كثيرة و الانتحار محرم قطعا في الإسلام قولا واحدا بنصوص و إجماع و تواتر علم و باتفاق المذاهب الإسلامية الأربعة و الظّاهرية و الزَّيديَّة , و هذا التحريم مما علم من دين الإسلام بالضرورة كتحريم الشرك و الخمر و الزنا مما لا يسع المسلم الجهل به و منكره كافر مرتد.
اتفق الأئمة الأربعة و الظاهرية على أن تحريم الانتحار ورد صريحا بالنص القرآني في قول الله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}(النساء). و لقد اتفق المفسرون أيضا على أن قوله تعالى {و لا تقتلوا أنفسكم} نص قرآني محكم على تحريم الانتحار و لقد فسره رسول الله بهذا إقرارا فيما ورد بالحديث الشريف كما ورد في تفسير "ابن كثير" : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح قال : فلما قدمنا على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب " قال : قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فذكرت قول الله عز وجل " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا . و هكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة عن ابن وهب عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه فذكر نحوه وهذا والله أعلم أشبه بالصواب . وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي حدثنا عبد الله بن عمر القواريري حدثنا يوسف بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك فقال : يا رسول الله خفت أن يقتلني البرد وقد قال الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و لقد أورد المفسرون في تفسير هذا النص أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابتة تنص على حرمة الانتحار، و لقد ساق هذا "ابن كثير" الدمشقي رحمه الله تعالى في تفسير قائلا في معرض تفسير هذه الآية:
ثم أورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " . وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة . وفي الصحيحين من حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا نحر بها يده فمابعضها:دم حتى مات قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة.
و لقد استدل الأئمة الأربعة و الظاهرية بهذا النص في آية (النساء) و بأحاديث كثيرة صحيحة محكمة و بألفاظ و روايات متعددة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نورد بعضها :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسي سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" صحيح أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي والدرامي وأحمد وعنه أبو داود قضية السم فقط.
عن ثابت بن الضحاك : أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف بملة غير ملة الإسلام كاذبا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر فيما لا يملكه" ابن ماجه وأخرجه البخاري ومسلم
حدثنا أبوهريرة: أبي شيبة حدثنا وليع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شرب سما فقتل نفسه فهو ينحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" وأخرج البخاري ومسلم أتم منه
و عن أبي هريرة : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام : "هذا من أهل النار" . فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا ، فأصابته جراحة ، فقيل : يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا : "إنه من أهل النار" ، فإنه قاتل اليوم شديدا وقد مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إلى النار" . فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك إذ قيل : إنه لم يمت ، ولكن به جراحا شديدا ، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : "الله أكبر ، أشهد أني عبد الله ورسوله" ، ثم أمر بلالا فنادى في الناس : "إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
عن جابر بن سمرة أن رجلا قتل نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم . أخرجه ابن ماجه وأخرجه مسلم .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن . وقد اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم يصلى على كل من صلى إلى القبلة وعلى قاتل النفس وهو قول الثوري وإسحق و قال أحمد لا يصلي الإمام على قاتل النفس ويصلي عليه غير الإمام.
و لقد استدل الأئمة بهذه النصوص على حرمة مباشرة المرء قتل نفسه بنفسه و استقرأوا من تعداد رسول الله صلى الله عليه و سلم لصور قتل المرء نفسه بنفسه دليلا على عظم هذا الجرم و على وجوب سد الذرائع المفضية إلى ارتكاب هذه الكبيرة الكبرى و على تحريم كل صور ارتكابها بغض النظر عن العلل مهما كانت ذلك أن النصوص لم تورد عللا لتحريم هذه الجريمة.
و لقد أطبق الفقهاء رحمهم الله تعالى على التعامل مع النصوص القرآنية و السنية الكثيرة التي تبيح للمسلم التلفظ بالكفر و تناول المحرمات حفاظا على حياته حال الإكراه و الاضطرار على أنها أدلة تشير إلى حرمة الانتحار (بصور الفعل أو الامتناع) و تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إليه ، فنجدهم يروون في كتب الإكراه التي عقدوها في مصنفات الفقه صورا عن اضطرار المسلم إلى أكل المحرمات في حالات فقدان الطعام و الشراب أو في حالات الإكراه على فعل المحرمات ، و لقد اجتمعوا على أن المسلم الممتنع عن تناول المحرمات بعينها (فضلا عن المباحات أو المحرمات لغيرها) آثم لأنه قتل نفسه بنفسه بامتناعه عن أسباب الحياة المتوفرة له مع زوال الموانع الشرعية لتناولها بنصوص الاضطرار المتعددة التي وردت في كتاب الله تعالى :
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} (البقرة).
{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} (المائدة).
{وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين}(الأنعام).
{قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام).
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} (النحل).
و لقد عبر شيخ المفسرين الإمام "إبن جرير الطبري" عن هذا الإطباق بقوله في تفسير آية الاضطرار (البقرة) و قرر قاعدة ثابتة في الإسلام بناء على استقراءات الفقهاء للنصوص الواردة في حكم تحريم قتل المرء لنفسه بنفسه:
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: {فمن اضطر غير باغ} بأكله ما حرم عليه من أكله {ولا عاد} في أكله، وليس له عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال.
و لقد اتفق علماء الإسلام على أن جرم قتل المرء لنفسه بنفسه من الكبائر الكبرى بل لعله أكبر الكبائر بعد الكفر بالله و من عظم هذا الجرم كاد أن يعتبر ردّة عند عموم المسلمين و لهذا نجد أن كافة الفقهاء و المحدثين تقريبا قد عقدوا في مصنفاتهم الكبرى فصولا للتأكيد على عدم ثبوت الكفر و الرّدّة على المسلم الذي يقتل نفسه و فصولا لتبيان صحة الصلاة عليه:
باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر: فلقد عقد الإمام مسلم على سبيل المثال بابا أسماه :
[/rtl]