فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(39)
قولُه تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} فَمَنْ تَابَ مِنَ السَّارِقِينَ، بَعْدَ سَرِقَتِهِ، فالمُرادَ بالظُلْمِ هُنا السَرِقةُ، "وأَصْلَحَ" أَمْرَهُ، هذا ما يقتضيه السياقُ ولكن اللَّفظَ عامٌّ يَشمَلُ السارقَ وغيرَه مِنَ المُذْنِبين، والاعتبارُ بِعُمومِ اللَّفظِ لا بِخُصوصِ السَبَبِ، فيكون الظلمُ هنا عامًّا شاملاً، لنفس المذنبِ ولغيرها، فهناك من الذنوب ما يظلم به المذنب نفسَه ـ وهو ما يكون فيه تقصيرٌ في حقٍّ من حقوق اللهِ التي كلَّفَه بها وافترضها عليه، كالتهاون في الصلاة أو غيرِها مِنَ العِباداتِ، فإنَّه في مثل هذه الحالة يظلم نفسَهُ وحَسْبُ، لكنه عندما يتعدَّى على حُقوقِ غيرِه مِنْ مخلوقاتِ اللهِ يكون قدْ ظَلَمَ نفسَه بتَعريضِها لِغَضَبِ اللهِ وعقابِه وربَّما لعقابِ المُجْتمعِ أيضًا، وهو يظلمُ غيرَه بسلبه حقًا من حقوقه وانتهاكه حرمةً من حرمه التي أقرَّ بها له الشَرْعُ وحفظها له النظامُ العام. وفي قولِه: "وَأَصْلَحَ" إشارةٌ إلى أنَّ السَرِقَةَ إِفْسادٌ في الأرضِ، والأمانةُ إصلاحٌ أيّ إصلاحٍ.
وقولُه: {فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} الفاءُ هنا للإفصاحِ عن شَرْطٍ مقدَّرٍ، والمَعنى إذا كان قطعُ اليَدِ هو العقوبةَ الرّادِعَةَ، فإنَّ التّوبةَ تَجِبُّها وتَقْطَعُها في الدُنيا والآخرةِ، أو في الآخرةِ فقط، فمَنْ أَقلعَ عن الذنبِ وأَحَسَّ بالنَدَمِ على ما ارْتَكَبَه، واعْتَزَمَ على ألَّا يَعودَ إليْه، فإنَّ اللهَ ـ سبحانَه وتعالى ـ يَقبَلُ توبتَه. أيْ أَنَّه جَلَّتْ قُدرَتُه، وتعالتْ عَظَمَتُه يُقابِلُ عملَه القَلْبِيَّ في التوبةِ، والعملِ الخارجِيِّ بالإصْلاحِ ومنعِ الإفْسادِ، بعملٍ مِن جانِبِهِ ـ تعالى ـ وهو أنَّه يَتوبُ عليْه، أيْ يُعينُه على التوبةِ ويَقبلُها، فقولُه: "فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ" يتضمَّنُ ثلاثةَ مَعانٍ، أوَّلُها: المُعاوَنَةُ على التَوْبَةِ إذا أَخْلَصَ العَبْدُ، وخَلُصَ العملُ لَه سُبْحانَه، وأَصْلَحَ في الأرضِ بَعْدَ الإفسادِ فيها. وثانيهما: قبولُ التوبةِ، وثالثها: تَطمينُ التائبِ بتأكيدِ القَبُولِ.
وذَكَرَ ـ سبحانَه ـ أنَّ التوبةَ الخالِصَة لَا بُدَّ أنْ تَقتَرِنَ بالإصلاحِ؛ لأنَّ الإذْعانَ القَلبِيَّ لَا يكونُ كاملًا وناميًا إلَّا إذا اقْتَرَنَ بِالعملِ الصالحِ، فهو يزَكِّيهِ ويَسْقيهِ.
قولهُ: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رحِيمٌ} أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب؛ فقد خَتَم اللهُ ـ سبحانَه وتَعالى ـ الآيةَ بإثباتِ رحمتِه، وأنَّه ـ سبحانه ـ مِنْ صفاتِه الثابتةِ الغُفرانُ فغفورٌ أيْ كثيرُ الغُفران يَتَجاوَزُ عنِ السَيِّئاتِ، ويُكافئُ على الحَسَنَاتِ؛ لأنَّ ذلك مُقتَضى رحمتِه، وهوَ الرَّحيمُ الدائمُ الرَّحمةِ، وقد أكَّدَ سبحانَه ذلك بـ "إنَّ"، وبإعادة لَفْظِ الجَلالَةِ.
قولُه تعالى: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} متعلِّقٌ بـ "تاب" و"ظلم" مصدرٌ مضافٌ إلى فاعلِه أيْ: مِنْ بعدِ أَنْ ظَلَمَ غيرَه بأخذِ مالِه، وهذا واضحٌ، وأَجازَ بعضُهم أنْ يَكونَ مُضافًا للمَفعولِ أيْ: مِنْ بعدِ أَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وفي جَواز هذا نظرٌ، إذْ يَصيرُ التَقديرُ: مِنْ بعدِ أنْ ظَلَمَهُ، ولو صَرَّحَ بهذا الأَصْلِ لم يَجُزْ لأنِّه يُؤدِّي إلى تعدِّي فعلِ المُضمَرِ إلى ضَميرِهِ المُتَّصِلِ، وذلك لا يَجوزُ إلَّا في بابِ "ظَنَّ وفَقَدَ وعَدِمَ"، كذك قاله الشيخ، وفي هذا النظرِ نَظَرٌ، لأنَّا إذا حَلَلْنا المَصْدرَ لِحَرْفٍ مَصدَرِيٍّ وفعلٍ فإنَّما يَأتي بعدَ الفِعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لَفظُ النَّفْسِ، أيْ مِنْ بعدِ أنْ ظلَمَ نفسَه.