عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 143 السبت مارس 16, 2013 3:46 am | |
| وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
(143) قولُه ـ تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} ما زال الحديثُ عن غزوةِ أُحُدٍ، والخطابُ موجَّهٌ لِطائفةٍ مِنَ المُؤمنينَ لم يَشْهَدوا غَزْوةَ بَدرٍ لِعَدَمِ ظَنِّهم الحربَ حين خَرَج رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ إليْها، فلَمَّا وَقَعَ ما وقَعَ نَدِموا فَكانوا يقولون: لَيتَنا نُقتَلُ كما قُتِلَ أصحابُ بدْرٍ ونُسْتَشهَدُ كما اسْتُشْهِدوا فلمَّا أَشهدَهم اللهُ ـ تعالى ـ أُحُداً لم يَلْبَثْ إلَّا مَنْ شاءَ اللهُ تعالى منهم. فالمُرادُ بالموتِ هنا الموتُ في سبيلِ اللهِ وهي الشهادةُ، ولا بأسَ بتَمَنِّيها، لأنَّ قصدَ المُتَمنّي الوصولُ إلى نيلِ كرامةِ الشهداءِ لا غير، وقد وقع هذا التَمَنّي مِن عبدِ اللهِ بنِ رُواحَةَ مِن كِبارِ الصَحابةِ ولم يُنكَرْ عليه، ويَجوزُ أنْ يُراد بالموتِ الحربُ فإنَّها من أسبابُه. فلما كان يومُ أُحُدٍ أَلَحُّوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالخروج، ولكن لم يَصبِرْ منهم إلَّا نَفَرٌ يَسيرٌ مثلُ أنسٍ ابنِ النَّضْرِ عمِّ أنسٍ بنِ مالكٍ. وقد وردَ النهيُ عن تَمَنِّي الموتِ فلا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ هُنا على الشَهادةِ، ورفعِ المنزلةِ في الجَنَّةِ. فتمنِّي الموتِ من المسلمين يَرجِعُ إلى تَمني الشهادة لا إلى تمَنِّي قتلِهم من قِبَلَ الكُفَّارِ فهو معصيةٌ، وعلى هذا يُحمَلُ سُؤالُ المُسلمين مِنَ اللهِ أنْ يَرزُقَهم الشهادة بالصبرِ على الجهادِ وإنْ أدَّى إلى القَتْل.قولُهُ: {من قبل أن تلقوه} أي من قبل أن تشاهدوا القتالَ أو الشهادةَ التي هي سببُه وتعرفوا هولَه. قولُه: {فقد رأيتموهُ} أي رأيتمُ القتالَ، أو ما هو سببٌ للموتِ يومَ أُحُدٍ، والظاهرُ أنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةٌ، وقيل عِلْمِيَّةٌ أيْ فقد عَلِموا الموتَ حاضراً.قولُه: {وأنتم تنظرون} قيَّدَ الرُؤيَةَ بالنَّظرِ معَ اتِّحادِ معناهُما للمُبالَغَةِ أيْ قدْ رأيتموه مُعايِنينَ لَه حينَ قُتِل دونَكم مَنْ قُتِلَ منكم، والتكريرُ بمعنى التأكيدِ مثل قولِه: {ولا طائرٍ يطيرُ بجناحيْه}.أخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رِجالاً مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ كانوا يقولون ليتَنا نُقتَلُ كما قُتِلَ أَصحابُ بدرٍ، ونُستَشْهَدُ، أو ليتَ لنا يوماً كيومِ بدرٍ نُقاتِلُ فيه المشركين ونُبْلي فيه خيْراً ونَلْتَمِسُ الشَهادةَ والجَنَّةَ والحياةَ والرِزْقَ، فأَشْهَدَهم اللهُ أُحُداً فلم يثبُتوا إلَّا مَنْ شاءَ اللهُ منهم، فقال اللهُ: "ولقد كنتم تمنّون الموت" الآية. وفيه توبيخٌ لهم على أنَّهم تَمَنَّوا الحربَ. وتَسَبَّبوا فيها ثُمَّ جَبُنوا وانهَزَموا عنْها، أو تَوبيخٌ لهم على الشهادةِ فإنَّ في تَمَنيها تَمَنِّي غَلَبَةِ الكافرين. وقد أوردْنا سابقاً أنَّهم بعد أنْ دخلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم للبسِ لَأْمَتِه لاموا أنفسَهم إذِ اخْتاروا عكسَ رأيِ النبيِّ فعادوا وطلبوا منه عدم الخروج لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ رفض. وخَرَجَ بِهم إلى أُحُدٍ وكان ما كان من حوادثَ وفرارٍ وتَخَلُّفٍ وعصيان أوامرِ الرسولِ ـ عليه الصلاة والسلام.قوله تعالى: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ} قرَأَ البزيُّ بخلافٍ عنه بتشديدِ تاءِ "تمَنَّوْنَ"، ولا يمكنُ ذلك إلّا في الوصلِ، وقاعدتُه أنَّه يَصِلُ ميمَ الجمعِ بواوٍ. والضميرُ في "تَلْقَوه" فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على الموت، والثاني: عَوْدُه على العدوِّ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لدلالةِ الحالِ عليه. والجمهور على كسر اللام من "قبلِ"؛ لأنَّها معربةٌ لإِضافتِها إلى أَنْ وما في حَيِّزها أي: مِنْ قبلِ لقائِه. وقرأ مجاهد بنُ جبْرٍ : "من قبلُ" بضمِّ اللام وقطعِها عن الإِضافةِ كقوله: {لِلَّهِ الأمرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} الروم: 4، وعلى هذا فـ "أَنْ" وما في حَيِّزِها في محلِّ نصبٍ على أنَّها بَدَلُ اشتمالٍ مِنَ الموتِ أيْ: تَمَنَّونَ لِقاءَ الموتِ، كقولِك: "رَهبتُ العدوَّ لقاءَه". وقرأ الزُهْرِيُّ والنُخَعِيُّ: "تُلاقُوه" ومعناه معنى "تَلْقَوه" لأنَّ "لَقِي" يَسْتَدعي أنْ يكونَ بيْن اثنيْن عادةً وإنْ لم يَكُنْ على المُفاعَلَةِ.قولُه: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الظاهرُ أنَّ الرؤيةَ بصريَّةٌ فتَكتفي بمفعولٍ واحدٍ، وجَوَّزوا أنْ تكونَ عِلْميَّةً فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ هو محذوفٌ أي: فقد علِمْتُموه حاضراً أي: الموت، إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحَدِ المَفعوليْن في بابِ "ظن" ليس بالسهل، حتَّى إنَّ بعضَهم يَخُصُّه بالضَرورةِ كقولِ عنترةَ: وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه .................. مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِأي: فلا تَظُنِّي غيرَه واقعاً مني.قولُه: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} يجوزُ أَنْ تَكونَ حاليَّةً، وهي حالٌ مؤكَّدَةٌ رَفَعَتْ ما تَحتمِلُه الرؤيةُ مِنَ المَجازِ أو الاشْتِراك، أي: بينَهما وبيْن رُؤيةِ القلب، ويَجوزُ أنْ تكونَ مستأنَفةً، بمعنى: وأنتم تَنْظُرون في فِعْلِكم الآن بعد انقضاءِ الحربِ هل وَفَّيْتُم أو خالَفتم؟ وقال ابنُ الأنباريِّ: "رأيتموه" أي: قابَلْتُموه وأنتم تنظُرون بعيونِكم، ولهذه العِلَّةِ ذَكَرَ النَظرَ بعدَ الرؤيةِ حين اختلفَ معناهما، لأنَّ الأوَّلَ بمعنى المُقابلةِ والمُواجهةِ، والثاني: بمعنى رؤيةِ العين، وهذا غيرُ معروفٍ عندَ أهلِ اللِّسان، أعني إطلاقَ الرؤيةِ على المُقابلةِ والمُواجَهَةِ، وعلى تقديرِ صِحَّتِه فتكونُ الجُملةُ مِن قولِه: "وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ" جملةً حاليَّةً مُبَيِّنَةً لا مُؤكِّدةً؛ لأنَّها أفادَتْ معنًى زائداً على معنى عامِلِها، ويَجوزُ أنْ يُقَدَّرَ لـ "ينظرون" مفعولاً، ويَجوزُ ألاَّ يُقَدَّرَ، إذِ المَعنى: وأنتم مِن أهلِ النَظَرِ. واللهُ أعلمُ. | |
|