عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة آل عمران، الآية: 136 الإثنين مارس 11, 2013 5:44 am | |
| أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. (136) قولُه ـ تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} بردِّهم إلى شُهودِ الربوبيَّةِ، وما سبقَ لهم من الحسنى في سابق القسمة. "أولئك" إشارة إلى ما تقدَّمَ في قولِه ـ سبحانَه: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} آل عمران: 133. مع بيانِ أوصافِ المتَّقين في قولِه: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَرَّاءِ والضَراءِ والكاظمين الغيظَ والعافين عَنِ الناسِ واللهُ يُحِبُّ المُحسنين} آل عمران: 134. إنَّهم ينفقون في السَرَّاءِ نفقةَ الشُكْرِ. ويُنفِقون في الضَرَّاءِ نفقةَ الذِكْرِ والتَضَرُّعِ، لأنَّ النِعْمَةَ حين تُوجَدُ بِسرَّاءَ تحتاجُ إلى شُكرٍ على هذه النعمة، والنِعمةُ حين تُنفَقُ في الضَرَّاءِ تَقتضي ضَراعَةً إلى اللهِ لِيُزَحْزِحَ عنِ المُنفِقِ آثارَ النَقمةِ والضرَّاءِ. إذن فهم يُنفقون سواءً أكانوا في عُسْرٍ، أو كانوا في يُسْرٍ.إنَّ كثيراً مِنَ النَّاسِ يُنسيهمُ اليُسْرُ أنَّ اللهَ أَنعَمَ عليهم ويَظنُّونَ أنَّ النِعمَةَ قد جاءتْ عن عِلْمٍ منهم. وبعضُ الناسِ تُلهيهمُ النِّعمةُ عن أنْ يُحِسُّوا بآلامِ غيرهم ويُشْغَلوا بآلامِ أنفسِهم. لكنَّ المؤمنين لا يَنسوْنَ ربَّهم أبداً. وأمرَه بالإنفاق في العُسْر واليُسرِ.قولُه: {وَجَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} مؤجَّلاً مِن الفَراديس، ومُعَجَّلاً في روحِ المُباحاتِ وتمامِ الأُنْسِ. "وجَنّاتٍ" عَطفٌ على "مَغفرة" والمُرادُ بها جَنَّاتٌ في ضِمْنِ تِلكَ الجَنَّةِ التي أخبرَ ـ سبحانَه ـ أنَّ عرضَها السمواتُ والأرضُ وليس جنّاتٍ وراءَها على ما يَقتضيه كلامُ صاحبِ القيلِ إلَّا أنَّه لم يَكْتَفِ بإعدادِ ما وَصَفَ أوَّلاً تَنْصيصاً على وصفِها باشْتِمالِها على ما يَزيدُها بَهجةً مِن الأنْهارِ الجاريَةِ بعدَ وصفِها بالسَعَةِ، والإخبارُ بأنَّها جزاؤهم وأجرُهم الذي لا بدَّ بمُقتضى الفضلِ أنْ يَصِلَ إليهم، وهذا فوق الإخبارِ بالإعدادِ أو مؤكِّدٌ له فالتَنوينُ للتَعظيمِ.قولُه: {خالدين فِيهَا} هو في قُوَّةِ يَجزيهمُ اللهُ جنّاتٍ خالدين فيها، من "جنَّات" في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لأبرز الضميرَ على ما عليه الجُمهورُ.قولُه: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ أيْ وَنِعمَ أجرُ العاملينَ الجنَّةُ، وعلى ذلك اقتصرَ مُقاتلٌ، وذهبَ غيرُ واحدٍ أنَّه ذلك أي ما ذُكر مِن المَغفرةِ والجنَّاتِ. وفي الجملة ـ على ما نصَّ عليه بعضُ المحققين ـ وجوهٌ مِنَ المُحَسِّنات: أحدُها: أنَّها كالتذييلِ للكلامِ السابِقِ فيُفيدُ مَزيدَ تأكيدٍ للاسْتِلْذاذِ بذِكْرِ الوَعْدِ، وثانيها: في إقامةِ الأجرِ مَوْضِعَ ضميرِ الجَزاءِ لأنَّ الأصلَ ونِعمَ هو، أي جزاؤهم إيجابُ إنجازِ هذا الوعدِ وتصويرِ صورةِ العملِ في العمالةِ تنشيطاً للعامل، وثالثُها: في تعميم العاملين وإقامتِه مقامَ الضميرِ الدلالَّةِ على حصولِ المَطلوبِ للمَذكورين بطريقٍ برهانيٍّ.والمُرادُ مِنَ الكلامِ السابِقِ الذي جعلَ هذا كالتذييلِ له إمَّا الكلامُ الذي في شأن التائبين، أو جميعُ الكلام السابقِ على الخلاف الذي ذكرناه آنفاً، ومَنْ ذهبَ إلى الأول قال: وكفاك في الفرق بين القبيلين وهما المُتَّقون الذين أَتَوْا بالواجباتِ بأسرِها واجتَنَبوا المعاصيَ بِرُمَّتِها، والمستغفرون لذنوبهم بعدما أذنبوا وارتكبوا الفواحشَ والظلمَ أنَّه ـ تعالى ـ فصَلَ آيةَ الأوَّلين بقولِه: سبحانَه وتعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين} آل عمران: 134.المشعر بأنهم محسنون محبوبون عند الله تعالى، وفصل آيةَ الآخرين بقولِه جَلَّ وعَلا: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المُشعِرِ بأنَّ هؤلاء أُجَراءُ وأنَّ ما أُعْطُوا مِنَ الأَجرِ جزاءٌ لِتَدارُكِهم بعضَ ما فَوَّتوهُ على أنفُسِهم، وأيْن هذا مِنْ ذاك؟ وبَعيدٌ ما بيْن السَمكِ والسِماكِ، ولا يخفى أنَّه على تقدير كون النعتيْن نعت رجلٍ واحدٍ كما حُكيَ عن الحَسَن يُمكن أنْ يُقالَ: إنَّ ذِكْرَ هذه الجملة عُقيْبَ تلك لِما ذَكرَه بعضُ المُحقِّقين وأي مانعٍ مِنَ الإخبارِ بأنَّهم مَحبوبون عندَ الله ـ تعالى ـ وأنَّه مُنجِزُ ما وعدَهم به ولا بدَّ، وكونُهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا لا يُنافي كونَهم مُحسنين، أمّا إذا أُريدَ مِنَ الإحسانِ الإنعامُ على الغيرِ فظاهرٌ، وأمَّا إذا أُريدَ بِه الإتيانُ بالأعمالِ على الوجهِ اللائقِ أو أنَّ تَعَبُّدَ اللهِ ـ تعالى ـ كأنّكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنَّه يَراك ـ كما صرَّحَ به في الصحيح ـ فلأنَّ ذلك لو نافى لُزمَ أنْ لا يَصدُقَ المُحسِنُ إلَّا على نحوِ المَعصومِ ولا يَصْدُقَ على مَنْ عَبَدَ اللهَ ـ تعالى ـ وأَطاعَه مُدَّةً مَديدَةً على أَلْيَقِ وجْهٍ وأَحسَنِه ثمَّ عصاهُ لَحْظةً فنَدِمَ أَشَدَّ النَدَمِ واستغفَرَ سيِّدَ الاستغفارِ؛ ولا أَظُنُّ أحَدًا يَقولُ بذلك.ثمَّ إنَّ في هذه الآيات ـ على ما ذهب إليه معظمُ العلماء ـ دَلالَةٌ على أنَّ المؤمنين ثلاثُ طبقاتٍ: مُتَّقينَ وتائبينَ ومُصِرِّين، وعلى أنَّ غيرَ المُصِرِّين تُغفَرُ ذُنوبُهم ويَدخلون الجَنَّةَ، وأمَّا أنَّها تَدُلُّ على أنَّ المُصِرِّين لا تُغفَرُ ذُنوبُهم ولا يَدخُلونَ الجَنَّةَ ـ كما زعمه البعض ـ فَلا، لأنَّ السُكوتَ عن الحُكمِ ليس بياناً لِحُكمِهم عندَ بعضٍ ودالٌّ على المُخالفةِ عند آخَرين وكفى في تحقُّقها أنَّهم متردِّدون بيْن الخوفِ والرَّجاءِ وأنَّه لا يَخلو الأمر من تَعنيفٍ أقلُّه تعييرُهم بما أَذنبوه مُفَصَّلًا ويا لها من فَضيحةٍ وهذا ما لا بُدَّ منه على ما دَلَّتْ عليه نُصوصُ الكتابِ والسُنَّةِ، وحينئذٍ لم تتِمَّ لهم المَغفرةُ الكاملةُ كما للتائبين، على أنَّ مُقتَضى ما في الآياتِ أنَّ الجنَّةَ لا تكونُ جزاءً للمُصِرِّ؛ وكذلك المغفرةُ أمَّا نَفيُ التَفضلِ بهِما فلا، وهذا على أصلِ المُعتزلَةِ واضحٌ للفرقِ بيْن الجزاءِ والتفضلِ وُجوباً وعدمَ وُجوبٍ، وأمّا على أصلِ أهلِ السُنَّةِ فكذلك لأنَّ التفضلَ قسمان: قسمٌ مترتِّبٌ على العملِ ترتُّبَ الشِبَعِ على الأكلِ يُسمَّى أجراً وجزاءً، وقسمٌ لا يترتَّبُ على العملِ فمنه ما هو تتميمٌ للأجرِ كمًّا أو كيفًا، كما عدَّه مِن الأضعافِ وغيرِ ذلك، ومنه ما هو مَحضُ التفضُّلِ حقيقةً واسْمًا كالعفوِ عن أصحابِ الكبائِرِ ورؤيةِ اللهِ ـ تعالى ـ في دارِ القرارِ، وغيرِ ذلك مما لا يَعلمُه إلَّا اللهُ، قالَه بعضُ المُحقِّقين، وذُكِرَ أنَّ قولَه ـ تعالى: {واتقوا النارَ التي أُعِدَّتْ للكافرين} آل عمران: 131. وردتْ خِطاباً لآكِليّ الرِّبا مِن المُؤمنين ورَدْعًا لهم عن الإصْرارِ على ما يؤدي بهم إلى دَرَكاتِ الهالكين مِن الكافرين وتحريضًا على التوبةِ والمُسارعةِ إلى نيلِ الدرجاتِ معَ الفائزين مِنَ المُتَّقين والتائبين، فإدراجُ المُصِرِّين في هذا المَقامِ بَعيدُ المَرمى لأنَّه إغراءٌ وتَشجيعٌ على الذنبِ لا زَجْرٌ ولا ترهيبٌ فبيَّنَ بالآياتِ معنى المُتَّقين للتَرْغيبِ والتَرهيبِ ومَزيدُ تصويرِ مقاماتِ الأولياءِ ومَراتِبِهم لِيَكونَ حثًّا لهم على الانْخِراطِ في سِلْكِهم ولا بُدَّ مِن ذِكْرِ التائبين واستغفارِهم وعدمِ الإصرارِ ليكونَ لُطْفًا لِهؤلاءِ، وجميعُ الفوائدِ التي ذُكِرتْ في قولِه ـ سبحانَه وتعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوبَ إِلاَّ اللهُ} آل عمران: 135. تَدْخُلُ في المَعنى، فعُلِمَ مِنْ هذا أنَّ دَلالةَ {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} آل عمران: 135. مهجورةٌ لأنَّ مَقامَ التحريضِ والحَثِّ أَخرجَ المُصِرّين، والحاصلُ أنَّ شرطَ دَلالةِ المفهومِ هُنا مُنْتَفٍ فلا يَصِحُّ الاحتجاجُ بذلك للمُعتزِلةِ أصْلاً.قولُهُ تعالى: {من رَّبِّهِمْ} في محلِّ رفعٍ نعتًا لِمَغفرةٍ، و"مِنْ" للتَبعيضِ أي: مِنْ مغفراتِ ربِّهم. قولُه: {خَالِدِينَ} حالٌ من الضمير في "جزاؤهم" لأنَّه مفعولٌ بِه في المعنى، لأنَّ المعنى: يَجْزيهِمُ اللهُ جنَّاتٍ في حالِ خُلودِهم، وتكونُ حالاً مقدرةً. ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ حالاً من "جنات" في اللفظِ وهي لأصحابِها في المعنى، إذ لو كان ذلك لبرز الضمير لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. والجملةُ مِن قولِه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محلِّ رفعٍ نعتًا لـ "جنات". وتقدَّمَ إعرابُ نظيرِ هذه الجملةِ، والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ في قولهِ: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} تقديرُه: ونِعْمَ أجرُ العامِلين الجَنَّةُ. | |
|