كثيراً ما يستسهل الجهلة أمر الدين فيأخذون علومه من الكتب دون معلم، ويدعون بعد ذلك ما ليس لهم بحق، فهذا باحث وهذا مفسِّرٌ وهذا محدث وآخر مجتهد يُفتي الناسَ بحسب ما توصَّلَ إليه فهمُه السقيمُ فيَضِلُ ويُضل، وقد نَبَّه الرسولُ الكريمُ عليه أفضلُ الصلاةِ وأعطر التسليم إلى خطورة ذلك فيما روى الأئمة في الصحاح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهّالًا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضَلّوا وأضلّوا). ولو أنَّ العلمَ يتأتَّى بقراءة الكتب دون معلم ـ لا سيَّما علوم الدين ـ لأنزلَ اللهُ الكتبَ السماويَّةَ للناسِ وقال لهم اقرؤوا واعملوا، لكنَّه ـ سبحانه ـ أرسل رسلاً وأنزل عليهم كتباً وأمرنا أن نطيعهم ونتبعهم ونتعلم منهم، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز
هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهم الكتابَ والحِكمةَ وإنْ كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين). [الجمعة: 2] إذاً فالرسول يتلوا على الناس ما ينزل من آيات ويعلمهم الكتاب والحكمة، فالتعليم من الدين ولا يكون التعليم بدون معلم، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام بين أنه علينا أن نتعلم من أصحابه من بعده فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجز). وقوله: (العلماء ورثة الأنبياء). يوضح أن علينا أن نتعلم من العلماءِ الذين ورثوا عن الأنبياء علومهم وقاموا بمهمتهم من بعدهم، وهل أدل على ضرورة وجود المعلم من قوله تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيرا)، وقوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
وإذا كان لا بد للمرء من معلم لعلوم الدنيا فهل أمر الدين أهون عندنا من أمر الدنيا، فما سمعنا بطبيب تخرج بكتب قرأها بنفسه دون معلم ومرشد، ومن ذلك علوم الهندسة والرياضيات والفيزياء وسائر العلوم، حتى أبسط الحُرَفِ لا بدَّ لها من معلم، أم أنَّ أمرَ الدين هو أهونُ علينا من ذلك كله ؟؟؟
فليتقوا اللهَ في أنفسهم هؤلاء الجهلة المدَّعونَ ولْيخافونه في من يُضلون فإنَّ عليهم مثلُ آثامهم، وقد جاء في الأثر: (أجرؤكم على الفوى أجرؤكم على النار)، وما الإجازات والأسانيد في الإسلام وعلم الجرح والتعديل إلا أدلة أخرى على هذه الضرورة، فترى أهل العلم الشرعي يتفاخرون بإجازاتهم وأشياخهم الذين يروون عنهم كما يتفاخر أهل العلوم الدنيوية بشهاداتهم وأساتيذهم فهذا العالم تراه يكتب على بطاقته أنّه خريج السوربون وذاك يفخر أنَّه يحمل إجازة البورد الأمريكي وهكذا ..