وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} لَمَّا ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَاتَّصَلَ بِذِكْرِهَا ذِكْرُ الْإِرْضَاعِ، ذَكَرَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَيْضًا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِثْلُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. "وَالَّذِينَ" أَيْ وَالرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ. {وَيَذَرُونَ أَزْواجاً} أَيْ يَتْرُكُونَ أَزْوَاجًا، أَيْ وَلَهُمْ زَوْجَاتٌ فَالزَّوْجَاتُ {يَتَرَبَّصْنَ}، التَّقْدِيرُ وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يَتَرَبَّصْنَ، فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ. وعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ. وهَذِهِ الْآيَةُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ وَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ. وعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ تَنَاوَلَتِ الْحَوَامِلَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ} لِأَنَّ النَّاسَ أَقَامُوا بُرْهَةً مِنَ الْإِسْلَامِ إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ وَخَلَّفَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا أَوْصَى لَهَا زَوْجُهَا بِنَفَقَةِ سَنَةٍ وَبِالسُّكْنَى مَا لَمْ تَخْرُجْ فَتَتَزَوَّجَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَبِالْمِيرَاثِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْحَوْلِ، كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ لَمَّا نَقَصَتْ مِنَ الْأَرْبَعِ إِلَى الِاثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا. وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ سَنَةً إِذَا لَمْ تَخْرُجْ، فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ تُمْنَعْ، ثُمَّ أُزِيلَ هَذَا وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَهَذَا هُوَ النَّسْخُ، وَلَيْسَتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ مِنْ هَذَا فِي شي. وَقَدْ قَالَتْ أمُّ المؤمنين عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ بِحَالِهَا، وَسَيَأْتِي.
وعِدَّةُ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَمَامَ عِدَّتِهَا آخِرُ الأجلين.
وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا. وَالْحُجَّةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رومُ الجمع بين قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا قَعَدَتْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَقَدْ تَرَكَتِ الْعَمَلَ بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَهَذَا نَظَرٌ حَسَنٌ لَوْلَا مَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَأَنَّهَا نَفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، وَأَنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيحِ. فَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، وَأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مُخْتَصَّةٌ بِالْحَائِلِ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، وَيَعْتَضِدُ هَذَا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ لَهَا، فَإِنَّهَا أَخْرَجَتْ مِنْهَا بَعْضَ مُتَنَاوَلَاتِهَا. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ سُبَيْعَةَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ قِصَّةَ سُبَيْعَةَ كَانَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَزَوْجُهَا هُوَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ حِينَئِذٍ وَهِيَ حَامِلٌ، وَهُوَ الَّذِي رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، وَوَلَدَتْ بَعْدَهُ بِنِصْفِ شَهْرٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ أَنَّ سُبَيْعَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالَتْ: فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَطْهُرَ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ: لَا تُنْكَحُ النُّفَسَاءُ مَا دَامَتْ فِي دَمِ نِفَاسِهَا. فَاشْتَرَطُوا شَرْطَيْنِ: وَضْعُ الْحَمْلِ، وَالطُّهْرُ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: "فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ" كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي داود، لأنّ "تعلت" أي ارتفعت وطهرت، وتعلى الرجل من علته إذا برأ. وإن كان أصله طَهُرَتْ مِنْ دَمِ نِفَاسِهَا ـ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ ـ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا تَعَلَّتْ مِنْ آلَامِ نِفَاسِهَا، أَيِ اسْتَقَلَّتْ مِنْ أَوْجَاعِهَا. وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْخَلِيلُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ لِسُبَيْعَةَ: ((قَدْ حَلَلْتِ حِينَ وَضَعْتِ)) فَأَوْقَعَ الْحِلَّ فِي حِينِ الْوَضْعِ وَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِذَا انْقَطَعَ دَمُكِ وَلَا إِذَا طَهُرْتِ، فَصَحَّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. والمعروف أنّ الوطء محرم بوجود دم النفاس فلا يكون ثمة تعارض بين القولين. وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا فَانْقَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَلِدَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوِلَادَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ} التَّرَبُّصُ: التَّأَنِّي وَالتَّصَبُّرُ عَنِ النِّكَاحِ،
وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَنْ مَسْكَنِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ بِأَلَّا تُفَارِقَهُ لَيْلًا. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي كِتَابِهِ كَمَا ذَكَرَهَا لِلْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْعِدَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِحْدَادِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {يَتَرَبَّصْنَ} فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ جَمِيعَ ذَلِكَ. وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ التَّرَبُّصَ فِي الْوَفَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِإِحْدَادٍ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الزِّينَةِ وَلُبْسِ الْمَصْبُوغِ الْجَمِيلِ وَالطِّيبِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَكَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا: ((امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)). قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ ورَوَاهُ عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وغيره. وَقَدْ أَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقَضَى بِهِ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي بَيْتِهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ.
ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَرَجَتْ عَائِشَةُ أمُّ المؤمنين بِأُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ ـ حِينَ قُتِلَ عَنْهَا زَوْجُهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم ـ إِلَى مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ، وَكَانَتْ تُفْتِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: أَبَى النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخَذَ الْمُتَرَخِّصُونَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِقَوْلِ عَائِشَةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ الْوَرَعِ وَالْعَزْمِ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَرُدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مِنَ الْبَيْدَاءِ يَمْنَعُهُنَّ الْحَجَّ. وَهَذَا مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتِهَادٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى اعْتِدَادَ الْمَرْأَةِ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَازِمًا لَهَا، وَهُوَ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: تُرَدُّ مَا لَمْ تُحْرِمْ.
إِذَا كَانَ الزَّوْجُ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمَسْكَنِ فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ الْعِدَّةَ فِيهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ لِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ. وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الدار إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُتَوَفَّى وَأَرَادَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِدَّةُ لِلْمَرْأَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِالسُّكْنَى مِنَ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى دُونَ الرَّقَبَةِ، فَلَهَا السُّكْنَى فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ لِلْفُرَيْعَةِ ـ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمَسْكَنِ: ((امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ)).
وَهَذَا إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّى الْكِرَاءَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَمْ يُؤَدِّ الْكِرَاءَ فَالَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا، لِأَنَّ حَقَّهَا إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنَ السُّكْنَى مِلْكًا تَامًّا، وَمَا لَمْ يَنْقُدْ عِوَضَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ مِلْكًا تَامًّا، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْعِوَضَ الَّذِي بِيَدِهِ، وَلَا حَقَّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ إِلَّا بِالْمِيرَاثِ دُونَ السُّكْنَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ وَلَيْسَ بِسُكْنَى. وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفُرَيْعَةِ: ((امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)). يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ زَوْجُهَا قَدْ أَدَّى كِرَاءَ الْمَسْكَنِ، أَوْ كَانَ أُسْكِنَ فِيهِ إِلَى وَفَاتِهِ، أَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَنْزِلِ أَبَاحُوا لَهَا الْعِدَّةَ فِيهِ بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ كِرَاءٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مِمَّا رَأَى بِهِ أَنَّ الْمَقَامَ لَازِمٌ لَهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ يَأْتِيهَا نَعْيُ زَوْجِهَا وَهِيَ فِي بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَقَرَارِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيُّ: تَعْتَدُّ حَيْثُ أَتَاهَا الْخَبَرُ، لَا تَبْرَحُ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ.
وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي حَوَائِجِهَا مِنْ وَقْتِ انْتِشَارِ النَّاسِ بُكْرَةً إِلَى وَقْتِ هُدُوئِهِمْ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَلَا تَبِيتُ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تُحِدَّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ(من برود اليمن)، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ)). (النبذة الشيء اليسير والقسط والظفار نوعان من البخور). وَفِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ: ((لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)). الْحَدِيثَ. والْإِحْدَادُ: تَرْكُ الْمَرْأَةِ الزِّينَةَ كُلَّهَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، لِأَنَّ الزِّينَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْأَزْوَاجِ، فَنُهِيَتْ عَنْ ذَلِكَ قَطْعًا لِلذَّرَائِعِ، وَحِمَايَةً لِحُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُنْتَهَكَ، وَلَيْسَ دَهْنُ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا بالزيت والطيب في شي.
وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ)) دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِحْدَادِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَإِبَاحَةُ الْإِحْدَادِ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا تَبْدَأُ بِالْعَدَدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا إِلَى آخِرِ ثَالِثِهَا، فَإِنْ مَاتَ حَمِيمُهَا فِي بَقِيَّةِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ أَلْغَتْهُ وَحَسَبَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ.
وَلا خِلَاف على أَنَّ الْخِضَابَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الزِّينَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا لِبَاسُ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ وَالْمُعَصْفَرَةِ، إِلَّا مَا صُبِغَ بِالسَّوَادِ فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيُّ.
ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنْ لَا إِحْدَادَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنَةً وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ، وَهُوَ قول سعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ. وهُوَ عَلَيْهَا أَوْكَدُ وَأَشَدُّ مِنْهُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي عِدَّةٍ يُحْفَظُ بِهَا النَّسَبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: الِاحْتِيَاطُ أَنْ تَتَّقِيَ الْمُطَلَّقَةُ الزِّينَةَ. وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمُطْلِّقُ حَيٌّ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا.
وأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَتَرِثُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَيَعْقُوبَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَاتِ الْأَقْرَاءَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا الْمُطَلِّقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا غَيْرُ زَوْجَةٍ، وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَةٍ فَهُوَ غَيْرُ زَوْجٍ لَهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْعِدَّتَيْنِ. وَقَالَ النُّعْمَانُ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ تَسْتَكْمِلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ يَبْلُغُهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقُهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعِدَّةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ مِنْ يَوْمِ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ يَبْلُغُهَا الْخَبَرُ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْعِدَّةَ بِالْوَفَاةِ أَوِ الطَّلَاقِ، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد أنقصت الْعِدَّةُ، فَإِذَا تَرَكَتْهُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَهْوَنُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَلَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ. حَامِلًا لَا تَعْلَمُ طَلَاقَ الزَّوْجِ أَوْ وَفَاتَهُ ثُمَّ وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَنَّ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةٌ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَوَجْهُ مَنْ قَالَ بِالْعِدَّةِ مِنْ يَوْمِ يَبْلُغُهَا الْخَبَرُ، أَنَّ الْعِدَّةَ عِبَادَةٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَصْدٍ وَنِيَّةٍ، وَالْقَصْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وعِدَّةُ الْوَفَاةِ تَلْزَمُ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ وَالَّتِي لَمْ تَبْلُغِ الْمَحِيضَ، وَالَّتِي حَاضَتْ وَالْيَائِسَةَ مِنَ الْمَحِيضِ وَالْكِتَابِيَّةَ دُخِلَ بِهَا أَوْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ وَعِدَّةُ جَمِيعِهِنَّ ـ إِلَّا الْأَمَةَ ـ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، لِعُمُومِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}. وَعِدَّةُ الْأَمَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ. نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ إِجْمَاعًا. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْحُرَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مِيقَاتًا لِعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، هَلْ تَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى حَيْضَةٍ أَمْ لَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَبْرَأُ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تُوطَأُ إِلَّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَرَابَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، إِلَّا أَنْ تَسْتَرِيبَ نَفْسَهَا رِيبَةً بَيِّنَةً، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْحَيْضِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ أَوْ مِمَّنْ عَرَفَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ عُرِفَ مِنْهَا أَنَّ حَيْضَتَهَا لَا تَأْتِيهَا إِلَّا في أكثر من هذه المدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَشْراً} رَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ سُئِلَ: لِمَ ضُمَّتِ الْعَشْرُ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ؟ قَالَ: لِأَنَّ الرُّوحَ تُنْفَخُ فِيهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيُقَالُ إِنَّ وَلَدَ كُلِّ حَامِلٍ يَرْتَكِضُ فِي نِصْفِ حَمْلِهَا فَهِيَ مُرْكِضٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْكَضَتْ فهي مركضة وأنشد:
وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا ..................... تُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ
وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ: قَوْلُهُ {وَعَشْراً) يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ الْأَيَّامَ بِلَيَالِيِهَا. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّمَا أَنَّثَ الْعَشْرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُدَّةُ. الْمَعْنَى وَعَشْرَ مُدَدٍ، كُلُّ مُدَّةٍ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدَّهْرِ. وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ عَشْرَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ اللَّيَالِي إِذِ اللَّيْلَةُ أَسْبَقُ مِنَ الْيَوْمِ وَالْأَيَّامُ فِي ضِمْنِهَا. "وَعَشْراً" أَخَفُّ فِي اللَّفْظِ، فَتُغَلَّبُ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي التَّارِيخِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ بِاللَّيْلِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَالِ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الشَّهْرِ اللَّيْلَةَ غَلَّبَ اللَّيْلَةَ، تَقُولُ: صُمْنَا خَمْسًا مِنَ الشَّهْرِ، فَتُغَلَّبُ اللَّيَالِي وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ بِالنَّهَارِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي. فَلَوْ عَقَدَ عَاقِدٌ عَلَيْهَا النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كَانَ بَاطِلًا حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَضَى لَهَا أربعة أشهر وعشر ليالي حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى الْعِدَّةَ مُبْهَمَةً فَغَلَّبَ التَّأْنِيثَ وَتَأَوَّلَهَا عَلَى اللَّيَالِي. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالتَّلَبُّسُ بِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ لِلْحُكَّامِ وَالْأَوْلِيَاءِ.
{فِيما فَعَلْنَ} يُرِيدُ بِهِ التَّزَوُّجَ فَمَا دُونَهُ مِنَ التَّزَيُّنِ وَاطِّرَاحِ الْإِحْدَادِ.
{بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ بِمَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ مِنَ اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ وَتَقْدِيرِ الصَّدَاقِ دُونَ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ مَنْعَهُنَّ مِنَ التَّبَرُّجِ وَالتَّشَوُّفِ لِلزَّوْجِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ. وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بَانَتْ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَةُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَغْتَسِلَ. وَعَنْ شَرِيكٍ أَنَّ لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةَ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَوْ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} وَبُلُوغُ الْأَجَلِ هُنَا انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِدُخُولِهَا فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غُسْلًا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ.
قولُه تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} فيه أقوال، الأول: الذين: مبتدأٌ لا خبرَ له، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ، فجاء الخبرُ عن المقصود، إذ المعنى: مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت. قاله الكسائي والفراء وأنشد الفراء:
لَعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً ........... على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما
فقال: "لَعَلّي" ثم قال: "أن يتندم" فأخبر عن ابن أبي ذِبَّان، فترك المتكلم، إذا التقديرُ: لعل ابن أبي ذِبّان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً. وقال آخر:
بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه ............... بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبرَ عن قتلِه بأنّه دارُ مذلَّة، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس. وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنّه إذا ذُكِر اسمٌ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني نحو: إنَّ زيداً وأختَه منطلقةٌ، المعنى: أنَّ أخت زيد منطلقة، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ، وإنّما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله:
فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني .................... وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ
ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا. الثاني: أَنَّ له خبراً وهو "يتربَّصْن" ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقديرُ: وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ. ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: {ويَذَرون أزواجاً} فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ. الثالث أنّ الخبرَ أيضاً "يتربَّصْن" ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم، قاله الأخفش. الرابع: أنَّ "يتربَّصْنَ" خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقديرُ: أزواجُهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول، قاله المبردُ. الخامس: أنَّ الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ، تقديرُه: فيما يُتْلى عليكم حكمُ الذين يُتَوَفَّوْن، ويكون قولُه: "يتربَّصْنَ" جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإِعرابِ، ويُعْزى هذا لسيبويه. قال ابن عطية: وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى: وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه، لأنَّ ذلك إنّما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} المائدة: 38، و{الزانية والزاني فاجلدوا} النور: 2، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِ. السادس: أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقديرُ: والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم، فَحُذِف "أزواجهُم" بجملته، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ.
وقراءةُ الجمهورِ {يُتَوَفَّوْنَ} مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقرأ أمير المؤمنين، ورواها المفضل عن عاصم ـ بفتح الياء على بنائه للفاعل، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم، قاله أبو القاسم الزمخشري.
والذي يُحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللهُ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو. وهذا تُناقِضُه هذه القراءة.
وقد تقدَّم احتمالاتٌ في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء} وهل {بأنفسهن} تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ {قروء} على الظرفِ أو المفعوليةِ؟ وهي جاريةٌ ههنا. قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ {يَتَوَفَّوْن} والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: حالَ كونِهم منكم. و"مِنْ" تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ.
قوله: {وَعَشْراً} إنّما قال "عشراً" من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ، الأولُ: أنَّ المراد "عَشْر ليال". والثاني: أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدّةٍ منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب: سِرْنا خمساً أي: بين يوم وليلة قال:
فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ ............ وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا
والثالث: أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان: ذِكْرُ التاءِ وعدمُها.
قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً من فاعل "فَعَلْنَ" أي: فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. والثالثُ: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي: فَعَلْنَه ـ أي الفعلَ ـ ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ.
و{بما تعملون} متعلق بـ {خبيرٌ}. وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ. و"ما" يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ. وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ.