فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ
(45)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الفَاءِ للتَّفْرِيعِ والعطْفِ والتَّعْقيبِ، وَ "كَأَيِّنْ" اسْمٌ مُسُتعملٌ للْإِخْبَارِ عَنْ العَدَدِ الكَثِيرٍ، وَالتَّعْقِيبُ هُنَا فِي الذِّكْرِ لَا فِي الْوُجُودِ.
والمُرادُ بالقَرْيَةِ أَهْلُهَا فَيَكونُ المَعْنَى: وَمَا أَكْثَرَ القُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا حَالَ كوْنِهِمْ ظَالِمِيْنَ.
قوْلُهُ: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} خَاوِيَةٌ: فارِغَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مُهَدَّمَةٌ، ساقطَةٌ عَلى أَرْكانِهَا. وَخَوَّتْ وَخَوِيَتْ خَيًّا وَخُوِيًّا وَخَواءً وَخَوَايَةً خَلَتْ مِنْ أَهْلِها. وَخَوَتِ الدَّارُ خَوَاءً أَيْضًا: أَقْوَتْ، وَسَقَطَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} الآيَةَ: 52، أَيْ: خَالِيَةً، مُهَدَّمَةً، سَاقِطَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى هُنَا: "فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِهَا"، أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا. وَخَوَتِ أَيْضًا، وَخَوِيَتْ خَلَتْ قالَ تَعَالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} الآيَةَ: 42، مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ، أَيْ: خَلَتْ مِنْ ثِمَارِهَا، وَخَوَّتِ النُّجُومُ، إِذَا مَالَتْ للمَغِيبِ. وَالخَوُّ أَيْضًا الجُوعُ، وَالوادِي الواسِعُ. والخَوُّ، والخُوُّ: العَسَلُ.
قوْلُهُ: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} والبِئْرُ: مِنْ بَأَرْتُ الأَرْضِ أَيْ حَفَرْتُهَا. وَمِنْهُ "التَّأْبِيرُ" وَهُوَ شَقُّ الطَّلْعِ. والبِئْرُ فِعْلٌ بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ" ك "الذِّبْحِ" بِمَعْنَى "المَذْبُوحِ" وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَدْ تُذَكَّرُ عَلى مَعْنَى القَلِيبِ. وَقَوْلُ سِنَانِ ابْنِ الْفَحْلِ الطَّائِيِّ:
فَإِنَّ الْمَاءَ مَاءُ أَبِي وَجَدِّي ............... وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ
يَحْتَمِلُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ. والمُعَطَّلَةُ: المُهْمَلَةُ، والتَّعْطِيلُ: الإِهْمَالُ.
وَ "بِئْرُ" بوَزْنِ "فِعْل" ـ بِكَسْرٍ فَسُكونٍ، بِمَعْنَى المَفْعُولِ، كَ: "ذِبْح"، وَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ للْحَفِيرَةِ الَّتي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا المَاءُ، وَهُوَ مِنْ قوْلِكَ: بَأَرَ فلانٌ الأَرْضَ إِذَا حَفَرَهَا.
وَ "مُعَطَّلَةٍ"، مُؤَنَّثُ مُعَطَّلٍ، وهوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ عَطَّلَ الرُّبَاعِيِّ، بِوَزْنِ "مُفَعَّل" ـ بِضَمِّ المِيمِ وَفَتْحِ العَيْنِ.
و "مَشِيدٍ" اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ: شَادَ يَشِيدُ، وَفِيهِ إِعْلَالٌ بِحَذْفِ وَاوِ "مَفْعُول"، وَأَصْلُهُ "مَشْيُود"، ثُمَّ سُكِّنَتِ الياءُ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الشِّينِ فالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَتِ الوَاوُ، ثُمَّ كُسِرَتِ الشِّينُ لِتُنَاسِبَ اليَاءَ، فَصَارَ "مَشِيد" وَزْنُهُ "مَفِعْل" بِفَتْحِ المِيمِ وَكَسْرِ الفَاءِ وَسُكُونِ العَيْنِ.
أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا" قَالَ: خَرِبَةٌ لَيْسَ فيها أَحَدٌ، "وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ" قَالَ: عَطَّلَها أَهْلُهَا وَتَرَكُوها، وَ "قَصْرٍ مَشِيدٍ" قَالَ شَيَّدُوهُ وَحَصَّنُوهُ، فَهَلَكُوا وَتَرَكُوهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، "وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ"، قَالَ: الَّتِي تُرِكَتْ لَا أَهْلَ لَهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" قَالَ: هُوَ المُجَصَّصُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" قَالَ: مُجَصَّصٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَق قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" قَالَ: شُيِّدَ بالجَصِّ والآجُرِّ.
قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك؟. قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ يَقُولُ:
شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْـــ ...................... ـــسًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" قَالَ: بالقِصَّةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} الفَاءُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "كَأَيِّنْ" اسْمُ كِنَايَةٍ عَنِ العَدَدِ بِمَعْنَى كَثِيرٍ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، بالابْتِداءِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لِشِبَهِهَا بِالْحَرْفِ، شَبَهًا مَعْنَوِيًّا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى رُبَّ التَكْثِيرِيَّةِ. وَخَبَرُهُ "أَهْلكناها". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ فِعْلُ "أَهْلَكْنَاهَا"، فَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى الاشْتِغَالِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ، وَ "قَرْيَةٍ" مَجْرورٌ بِـ "مِنْ" الزَّائِدَةٍ لَفظًا، مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمِيِيزِ لِـ "كَأَيِّنْ" مَحَلًا. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {أَهْلَكْنَاهَا} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" ضميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَ "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "كَأَيِّنْ".
قوْلُهُ: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الواوُ: حَالِيَّةٌ. و "هِيَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ "ظالِمَةٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ ضَمِيرِ المَفْعُولِ بِهِ الغائبِ: "هَا".
قولُهُ: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ. و "هِيَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ "خاوِيَةٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَاوِيَةٌ"، وَ "عُرُوشِها" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَهْلَكْنَا" عَلَى كَوْنِهَا خَبَرُ المُبْتَدَأِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ لِعَطْفِهَا عَلَى الجُمْلَةِ المُفَسِّرَةِ، وَهَذَا ما عَناهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: "والثانيةُ" يَعْنِي قَوْلَهُ: "فَهِيَ خَاوِيَةٌ" لَا مَحَلَّ لَهَا لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى "أَهْلَكْنَاهَا"، وَلَيْسَ لِهَذَا الفِعْلِ مَحَلٌّ وَذَلِكَ تَفْريعًا عَلَى القَوْلِ بِالاشْتِغَالِ. وَإلَّا فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ خَبَرٌ لـ "كَأَيِّنْ" كَانَ لَهُ مَحَلٌّ ضَرُورَةً.
قوْلُهُ: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "بِئْرٍ" مَعْطُوفٌ عَلَى "قَرْيَةٍ". و "مُعَطَّلَةٍ" صِفَةٌ لِـ "بِئْرٍ" مجرورةٍ لفظًا مِثْلُهُ. وَ "قَصْرٍ" مَعْطُوفٌ أَيْضًا عَلَى "قَرْيَةٍ". و "مَشِيدٍ" صِفَةٌ لـ "قَصْرٍ" مجرورةٍ مِثْلُهُ. أَيْ: وَكَأَيِّنْ مِنْ بِئْرٍ وَقَصْرٍ أَهْلَكْنَاهَا أَيْضًا. وَقِيلَ يَجوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً وَمَا بَعْدَهَا عَلى "عُرُوشِهَا" أَيْ: خَاوِيَةٌ عَلَى بِئْرٍ وَقَصْرٍ أَيْضًا. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {أَهْلَكَنْاهَا}. وَقَرأ أَبْو عَمْرِو بْنُ العلاءِ "أَهْلَكْتُهَا" والقِراءتانِ وَاضِحَتَانِ.
قَرَأَ الجمهورُ: {مُعطَّلةٍ} بتشديدِ الطَّاءِ، وَقُرِئَ "مُعْطَلَةٍ" بِتَخْفِيفِها، مِنْ أَعْطَلْتُ البِئْرَ وَعَطَّلْتُها فَعَطَلَتْ (بِفَتْحِ الطَّاءِ)، وَأَمَّا عَطِلَتْ المَرْأَةُ مِنَ الحُلِيَّ فَبِكَسْرِ الطَّاءِ. وَالمَشِيْدُ: المُرْتَفِعُ، أَوِ المُجَصَّصُ. وَإِنَّمَا بُنِيَ هُنَا مِنْ شَادَ الثلاثيِّ، وَفِي النِّسَاءِ مِنْ "شَيَّدَهُ" المُضَعَّفِ، والتَّشْديدُ للتَّكْثيرِ؛ لِأَنَّهُ جاءَ هُنَاكَ بَعْدَ جَمْعٍ فَنَاسَبَ التَّكْثِيرَ، وَهُنَا جاءَ بَعْدَ مُفْرَدٍ فَنَاسَبَ التَّخْفيفُ، وَلِأَنَّهُ فاصلةٌ وَرَأْسُ آيَةٍ.