مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
(15)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ} المَعنى: أَنَّهُ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَاهُ الإمامُ الحافظُ أَحْمَدُ بنُ يُوْنُسَ التَّمِيْمِيُّ اليَرْبُوْعِيُّ الكُوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَرواهُ أَيْضًا الطَّبَرِيُّ في تفسيرِهِ: (17/126 ـ 127)، وَالحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" (2/386)، وَعزَاهُ الإمامُ السُّيُوطِيُّ في "الدُّرُّ المَنْثُورُ" (6/15)، للفِرْيابِيِّ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ المُنْذِرِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، والحَاكِمِ، وَابْنِ مِرْدُوَيْهِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُا. وَقَالَ أَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهَا.
فِإِنَّ الْكِنَايَةَ فِي "يَنْصُرَهُ اللهُ" تَرْجِعُ إِلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ جَمِيعُ الْكَلَامِ دَالٌّ عَلَى ذلكَ، فالْإِيمَانُ هُوَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَبِرسولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِانْقِلَابُ عَنِ الدِّينِ هُوَ انْقِلَابٌ عَنِ الدِّينِ الَّذِي أَتَى بِهِ ـ عَلَيْهِ الصَلَاةُ وَالسَّلامُ، أَيْ مَنْ كَانَ مِمَّنْ يُعَادِي مُحَمَّدًا وَيَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، يَظُنُّ أَنَّا لَا نَنْصُرُ رَسُولِنا مُحَمَّدًا فَلْيَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ ابْنَ قُتَيْبَةَ: وَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى الدِّينِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللهُ دِينَهُ.
وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ ـ لِشِدَّةِ حَنَقِهِمْ عَلى المُشْرِكِينَ يَسْتَبْطِئُونَ مَا وَعَدَ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ النَّصْرِ، وَكانَ آخَرُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ، يُريدونَ اتَّبَاعَ النبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَخْشَوْنَ أَن لَّا يَتِمَّ أَمْرُهُ ـ تَعَالَى، فَجاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ رَدًّا عَلَى الفَريقَيْنِ.
أَمَّا المُرادُ بِهَذَا النَّصْرِ فهُوَ الغَلَبَةُ. قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُما، وَعليْهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرينَ.
وَقِيلَ: هُوَ الرِّزْقُ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِيُّ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ، أَيْ مَمْطُورَةٌ. وَيُقَالُ: نَصَرَ المَطَرُ أَرْضَ كَذَا، إِذَا جَاَدَهَا، وَأَحْيَاهَا، قَالَ الرَّاعِي النُّمَيْرِيُّ:
إِذَا أَدْبَرَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَوَدِّعِي ......... بِلَادَ تَمِيمٍ وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
وَقَالَ رُبْعِيُّ بْنُ لَقِيطِ بْنِ فَقْعَسٍ الأَسَدِيُّ:
وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرأً فوْقَ حَظِّهِ ...... وَلَا تَمْنَعُ الشِّقَّ الَّذِي الْغَيْثُ نَاصِرُهْ
لقد نُسِبَ هَذَا الِبَيْتُ لِعَدَدٍ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَالذَي اعْتَمَدْنَاهُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ البغداديُّ في خِزانةِ الأَدَبِ، وَقَبلهُ:
وَلَا تُهْلِكَنَّ النَّفْسَ لَوْمًا وَحَسْرَةً ......... عَلَى الشَّيْءِ سَدَّاهُ لِغَيْرِكَ قَادِرُهْ
وَلَا تَيْأَسَنْ مِنْ صَالِحٍ أَنْ تَنَالَهُ ............. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا بَيْنَ أَيْدٍ تُبَادِرُهْ
وَمَا فَاتَ فَاتْرُكْهُ إِذَا عَزَّ وَاصْطَبِرْ .... عَلى الدَّهْرِ إِنْ دَارَتْ عَلَيْكَ دَوَائِرُهْ
وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ" أَيْ لَنْ يَرْزُقَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرُنِي نَصَرَهُ اللهُ، أَيْ: مَنْ يُعْطِيني أَعْطاهُ اللهُ. وَالمَعْنَى أَنَّ الرِّزْقَ بِيَدِ اللهِ، فَلَا يُنَالُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ فَلَا بُدَّ للعَبْدِ مِنَ الرِّضَا بِقِسْمَتِهِ ـ تَعَالَى. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى غَيْرُ رَازِقِهِ، وَلَمْ يَصْبِرْ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ، فَلْيَفعَلْ كَذَا وَكَذَا.
قوْلُهُ: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} بِسَبَبٍ: أَيْ بِحَبْلٍ. فَالسَّبَبُ هُوَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشَّيْءِ.
وَ "السَّماءُ" قيلَ: المُرادُ هِيَ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. أَيْ: فَلْيَطْلُبْ حِيلَةً يَصِلُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ: المَعْنَى فَلْيَمْدُدْ حَبْلًا إِلى السَّماءِ المُظِلَّةِ وَلْيَصْعَدْ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: "إِلَى السَّماءِ" إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ. أَيْ فَلْيَمْدُدْ حَبْلًا إِلَى سَقْفِ بَيْتِهِ وَلْيَخْتَنِقْ
قولُهُ: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ثمَّ لِيَخْتَنِقْ بِهِ وَسُمِّيَ الاخْتِنَاقُ قَطْعًا لِأَنَّ المُخْتَنِقَ يُقْطَعُ نَفَسُهُ بِحَبْسِ مَجَاريهِ. فَهُوَ مِنْ "قَطَعَ" إَذَا اخْتَنَقَ. وَبابُهُ "مَنَعَ"، مِنْ قَطَعَهُ، قَطْعًا ومَقْطَعًا وَتِقِطَّاعًا، إِذَا أَبَانَهُ. وَقَطَعَ النَّهْرَ قَطْعًا وَقُطُوعًا عَبَرَهُ أَوْ شَقَّهُ، وَقَطَعَ لِسَانَهُ أَسْكَتَهُ بإحِسَانِهِ إِلَيْهِ، أَوْ بِالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ، وَقطَعَ فُلانٌ الحَبْلَ: اخْتَنَقَ. وَ "قَطِعَ"، وَ "قَطُعَ" لِسَانُهُ قَطاعَةً: لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الكَلَامِ، وَذَهَبَتْ سَلاطَتُهُ. وقَطِعَتِ اليَدُ، قَطَعًا وَقَطْعَةً وقُطْعًا: انْقَطَعَتْ بِأَمْرٍ عَرَضَ لَهَا. وَقَاطِعُ الطَّريقِ: اللِّصُّ، والقَطِيعُ: الطائفةُ مِنَ الغَنَمِ وَغرها مِنَ النَّعَمِ، ويُجْمَعُ على أَقْطاعٍ وقُطْعانٍ. والقَطيعةُ: الهِجْرانُ، ومَقْطَعُ الرَّمْلِ: حَيْثُ لَا رَمْلَ خَلْفَهُ، جَمْعُهُ: مَقاطِعُ. ومَقاطِعُ الأَوْدِيَةِ: مَآخِيرُهَا. وَمَقاطِعُ الأَنْهارِ: مَعَابرُ فيها يُعْبَرُ مِنْها. وَمَقاطعُ القُرْآنِ: مَوَاضِعُ الوُقُوفِ. وَالمَقْطَعُ: مَوْضِعُ القَطْعِ. وَمَقْطَعُ الحَقِّ: مَوْضِعُ الْتِقاءِ الحُكْمِ فِيهِ. وَ "المِقْطَع" وَ "القاطِعُ": مَا يُقْطَعُ بِهِ الشَّيْءُ. وَالقِطْعُ: نَصْلٌ صَغيرٌ عَريضٌ، والقِطْعٌ أَيْضًا: ظُلْمَةُ آخِرِ الليلِ، أَوِ القِطْعَةُ مِنْهُ، مِنْ أَوَّلِهِ إلى ثُلُثِهِ، وانقِطاعُ النَّفَسِ. وَقُطِعَ فَهُوَ مَقْطُوعٌ. وَالقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ: الطائِفةُ منْهُ. وَ "القِطَاعِ"، وَ "القَطَاعُ": الصِّرامِ. وَأَقْطَعَهُ قَطِيعَةً، أَيْ: طائِفَةً مِنْ أَرْضِ الخَرَاجِ. وَفُلَان مُنْقَطِعُ القَرِينِ: عَديمُ النَّظيرِ. وَقَاطَعَ: ضِدُّ وَاصَلَ. واقْتَطَعَ من مَالِهِ قِطْعَةً: أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا. وَالقَطَعُ: جَمْعُ قُطَعَةٍ. وَقِيلَ لِيَقْطَعِ الحَبْلَ بَعْدَ الاخْتِنَاقِ، عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِهِ فَرْضُ القَطْعِ.
وَقِيلَ المَعْنَى: "ثُمَّ لْيَقْطَعْ" النَّصْرَ إِنْ تَهَيَّأَ لَهُ. أَيْ: ثُمَّ لِيَقْطَعِ المَسَافَةَ حَتَّى يَبْلُغَ عِنَانَهَا فَيَجْتَهِدَ فِي دَفْعِ نَصْرِهِ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَيُكابِدُ هَذَا الْأَمْرُ لِيَقْطَعَهُ عَنْهُ، فَلْيَقْطَعْ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ، مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي السَّمَاءِ. "ثُمَّ لِيَقْطَعْ" أَيْ عَنِ النَّبِيِّ الْوَحْيَ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنَ اللهِ إِنْ قَدِرَ. وَهَذَا التَأْويلُ يأْباهُ مَسَاقُ النَّظْمِ الكَريمِ. فَإِنَّ الأُمُورَ المَفْرُوضَةَ ـ عَلى تَقْديرِ وُقُوعِهَا وَتَحَقُّقِهَا، بِمَعْزِلٍ مِنْ إِذْهَابِ مَا يَغِيظُ، وَمِنَ البَيِّنِ أَنْ لَا مَعْنَى لِفَرْضِ وُقُوعِ الأُمُورِ المُمْتَنِعَةِ، وَتَرْتِيبِ الأَمْرِ بِالنَّظَرِ عَلَيْهِ لَاسِيَّمَا قَطْعُ الوَحْيِ، فَإِنَّ فَرْضَ وُقُوعِهِ مُخِلٌّ بِالْمَرَامِ قَطْعًا. فَليَبْلُغْ غايَةَ الجَزَعِ وَهُوَ الاخْتِنَاقُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَغْلِبُ القِسْمَةَ وَلَا يَرُدُّها. وَمَنْ كَانَ يُغِيظُهُ ذَلِكَ مِنْ أَعَاديهِ وَحُسَّادِهِ وَيَظُنُّ أَن لَّنْ يَفْعَلَهُ اللهُ بِسَبَبِ مُدَافَعَتِهِ بِبَعْضِ الأُمُورِ، وَمُبَاشَرَةِ مَا يَرِدُهُ مِنَ المَكائدِ، فَلْيُبَالِغْ فِي اسْتِفْرَاغِ المَجْهُودِ وَلْيُجاوِزْ فِي الجِدِّ كُلَّ حَدٍ مَعْهُودٍ فَقُصارَى أَمْرِهِ وَعَاقِبَةُ مَكْرِه أَنْ يَخْتَنِقَ حَنَقًا مِمَّا يَرَى مِنْ ضَلَالِ مَسَاعِيهِ وَعَدَمِ إِنْتَاجِ مُقَدِّماتِهِ وَمَبَادِيهِ.
قولُهُ: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أَيْ: فَلْيَنْظُرِ هَلْ يَذْهَبُ مَا يُغِيظُهُ لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؟. وَقيلَ: المعنى: لِيُصَوِّرِ النَّظَرَ فِي نَفْسِهِ، هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَحِيلَتُهُ ـ ذَلِكَ الَّذي هُوَ أَقْصَى مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ فِي بابِ المُضَادَّةِ وَالمُضَارَّةِ، مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. كَلَّا. فإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ الْكَيْدُ وَالْحِيلَةُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا تقدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى قَطْعِ النَّصْرِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى "مَنْ" وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللهَ لَا يَرْزُقُهُ فَلْيَخْتَنِقْ، فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ، إِذْ لَا خَيْرَ فِي حَيَاةٍ تَخْلُو مِنْ عَوْنِ اللهِ.
فَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ الَّذِي يَغِيظُهُ، فَحَذَفَ الْهَاءَ لِيَكُونَ أَخَفَّ. وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى المَصْدَرِ، أَيْ: هَلْ يَذْهَبَنَّ كَيْدُهُ غَيْظَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّنْ يَنْصُرَهُ اللهُ" يَقُولُ: أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ "فَلْيَمْدُدْ بِسَبَب إِلَى السَّمَاءِ"، فَلْيَأْخُذْ حَبْلًا، فَلْيَرْبِطْهُ فِي سَمَاءِ بَيْتِهِ، فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ "فَلْينْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ"، قَالَ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَوْ يَأْتِيهِ بِرِزْقٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّنْ يَنْصُرَهُ اللهُ" قَالَ: أَن لَّن يَّرْزُقُهُ اللهُ "فَلْيُمْدِدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ" قَالَ: بِحَبْلِ بَيْتِهِ و "ثُمَّ لْيَقْطَعْ" ثُمَّ لْيَخْتَنِقْ، و "فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ" ذَلِكَ "مَا يَغِيظُ" قَالَ: ذَلِكَ خِيفَةَ أَن لَّا يُرْزَقَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّنْ يَنْصُرَ اللهُ مُحَمَّدًا فَلْيَجْعَلْ حَبْلًا فِي سَمَاءِ بَيْتِهِ، فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ، فَلْينْظُرْ هَلْ يَغِيظُ ذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَّنْصُرَهُ اللهُ" يَقُولُ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللهَ غَيْرُ نَاصِرِ دِينِهِ "فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ" سَمَاءِ الْبَيْتِ، فَلْيَخْتَنِقْ، "فَلْيَنْظُرْ" مَا يَرُدُّ ذَلِكَ فِي يَدِهِ.
وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ "مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ" قَالَ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَّنْصُرَ اللهُ مُحَمَّدًا "فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ" قَالَ: فَلْيَرْبِطْ حَبْلًا "إِلَى السَّمَاءِ" قَالَ: إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ، السَّقْف "ثُمَّ لْيَقْطَعْ" قَالَ: ثُمَّ يَخْتَنِقُ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَكما لاحظْتَ فإنَّ فِي الآيَةِ إِيجازٌ بَارِعٌ، وَاخْتِصَارٌ رَائِعٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ـ تباركَ وتَعَالَى، نَاصِرٌ رَسُولَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ لَا مَحَالَةَ، مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ يَلْويهِ عَمَّا يَقْضِيهِ، وَلَا عَاطِفٍ يَثْنِيهِ عَمَّا يُمْضِيهِ.
وَبَعْدُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعَ هَذِهِ الآيةِ الاسْتِئْنَافُ الابْتِدَائِيُّ، وقد أُرِيدَ بِهِ ذِكْرُ فَرِيقٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهِما فِي قَوْلِهِ مِنَ الآيةِ: 8، السَّابقةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 11، بعدَ ذلكَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ}. وَهَذَا الْفَرِيقُ الثَّالِثُ هُمْ جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا وَلكنَّهُمْ اسَتَبْطَأُوا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ، فَيِئِسُوا مِنْهُ، وَغَاظَهُمْ تَعَجُّلُهُمْ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَمْ يَتَرَيَّثُوا فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُ هَذهِ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ ـ تَعَالى، في الآيةِ: 11، مِن هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ}، بَعْدَ أَنِ اعْتُرِضَ بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ هَاتِهِ الجملةِ بِجُمَلٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 11، نفسِها: {خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ}، هُمْ قَوْمٌ يَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، إِنْ بَقُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا ظَنُّهُمُ انْتِفَاءَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَيِسُوا مِنَ النَّصْرِ اسْتِبْطَاءً، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عُلِّقَ فِعْلُ لَنْ يَنْصُرَهُ بِالْمَجْرُورِ بِقَوْلِهِ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إِيمَاءً إِلَى كَوْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْخُسْرَانِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الآيةِ: 11، السَّابقةِ: {خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ}. فَإِنَّ عَدَمَ النَّصْرِ خُسْرَانٌ فِي الدُّنْيَا بِحُصُولِ ضِدِّهِ، وَأَمَّا الخُسرانُ فِي الْآخِرَةِ فَبِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ ـ حَسَبَ اعْتِقَادِ كُفْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُشْرِكُونَ مُتَرَدِّدُونَ، ليسَ إلَّا.
وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ الأخيرُ بِتَغْيِيرِ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَفْ بِالْوَاوِ كَمَا عُطِفَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ} الآيةَ: 11، السَّابقة، وَلَمْ تُورَدْ فِيهِ جُمْلَةُ "وَمِنَ النَّاسِ" كَمَا أُورِدَتْ فِي ذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدُ هَذَا الْفَرِيقِ، فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يَظُنُّ .. إِلَخْ. إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، فَيُقَالُ بَعْدَ قَوْلِهِ في الآيةِ: 14، السَّابقةِ: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
قالَ مُقَاتِل ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَسَدٍ، وَغَطَفَان، قَالُوا: إِنَّا نَخَافُ أَن لَّا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ فَيَنْقَطِع الَّذي بَيْنَنَا وَبَيْنَ حُلَفَائِنَا مِنَ اليَهُودِ. وَإِلَى نَحْوِهِ ذَهَبَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، ثَابِتُ بْنُ أَبِي صَفِيَّةَ الأَزْدِيُّ الكُوفيُّ، وَالسُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما. وَحَكَى أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ الإِشارَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ إِلَى الَّذينَ انْصَرَفُوا عَنِ الإِسْلَامِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {مَنْ كَانَ} مَنْ: اسْمُ شَرْطٍ جازِمٌ، أَوْ اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، والخَبَرُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا مَعًا. و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، مبنيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيِّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَاسْمُ "كَانَ" ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا يَعودُ عَلَى "مَن"، وخَبَرُهُ جملةُ "يَظُنَّ". والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {يَظُنُّ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيخِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ)، يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كَانَ".
قوْلُهُ: {أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَنْ: هيَ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ المَحْذوفِ؛ أَيْ: أَنَّهُ. و "لَنْ" حَرْفٌ ناصِبٌ، و "يَنْصُرَهُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ منصوبٌ بِـ "لَنْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصِبِ مَفعولٌ بِهِ أَوَّلُ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَنْصُرَهُ"، و "الدُّنْيَا" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. و "وَالْآخِرَةِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "الدُّنيا" مجرورٌ مِثْلُهُ، وَجُمْلَةُ "يَنْصُرَهُ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنْ" المَخَفَّفَةِ، وَجُمْلَةُ "أَنْ" المُخَفَّفَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ، سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ: "ظن"، والتقديرُ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ عَدَمَ نَصْرِ اللهِ ـ تَعَالَى، رَسولَهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
قوْلُهُ: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَن" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا، لِكَوْنِ الجَوَابِ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً، أَوْ وَاقِعَةً فِي خَبَرِ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، لِشِبَهِهَا بِالشَّرْطِ فِي العُمُومِ. واللام: لَامُ الأَمْرِ. و "يَمْدُدْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لامِ الأَمْرِ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَنْ". و "بِسَبَبٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَمْدُدْ"، و "سَبَبٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِسَبَبٍ؛ أَيْ: بِسَبَبٍ واصِلٍ إِلَى السَّمَاءِ. و "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والمُرَادُ بِـ "السَّمَاءِ"، حَقِيقَتُها عَلى سَبِيلِ التَّقْديرِ، أَوْ سَقْفُ البَيْتِ، كما تقدَّمَ بيانُهُ في مَبْحَثِ التَّفْسير. وُجُمْلَةُ "يَمْدُدْ" في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَّهَا، أَوْ خَبَرُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، أَوِ المَوْصُولَةِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وترتيبٍ وتراخٍ. و "لْيَقْطَعْ" اللَّامُ: لَامُ الأَمْرِ، و "يقطع" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَجْزُومٌ بِـ "لَامِ الأَمْرِ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ، عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "فَلْيَمْدُدْ". عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَلْيَنْظُرْ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، اللَّامُ: لَامُ الأَمْرِ، وَ "يَنْظُرْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَجْزُومٌ بِـ "لَامِ الأَمْرِ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ، عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "لْيَقْطَعْ". عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا} هَلْ: حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ. و "يُذْهِبَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنِيٌّ على الفتْحِ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقيلَةِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، والنُّونُ المُثَقَّلةُ للتَّوكيدِ. وَ "كَيْدُهُ" فِاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ في محلَّ النَّصْبِ بِـ "يَنْظُرْ"؛ لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَنْهَا بِحَرْفِ الاسْتِفْهَامِ، ويَجوزُ أَنْ تكونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ بنَزْعِ الخَافِضِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ تَعَلَّقَ بِالاسْتِفْهَامِ، وَإِذَا كانَ النَّظَرُ بِمَعْنَى الفِكْرِ. تَعَدَّى بِـ "في".
قوْلُهُ: {يَغِيظُ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَا" الموصولةِ. وَمَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: مَا يَغِيظُهُ وهوَ عائدٌ عَلَى "مَنْ" مِنْ قولِهِ: "مَنْ كَانَ يَظُنُّ".
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {لِيَقْطَعْ} بِكَسْرِ اللَّامِ، وَسَكَّنها بَعْضُهم، كَمَا سَكَّنَهَا بَعْدَ الفاءِ والوَاوِ، لِكَوْنِهِنَّ عَوَاطِفَ. وكذلك أَجْرَوْا "ثُمَّ" مُجْراهُما فِي تَسْكينِ هاءِ "هُوَ" وَ "هِيَ" بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الكِسَائِيِّ، وَهيَ أَيْضًا قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي رِوَايَةْ قالُونَ عَنْهُ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: "ثُمَّ لْيَقْطَعْ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ. قَالَ أَبو جَعْفرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ "ثُمَّ" لَيْسَتْ مِثْلَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، لِأَنَّهَا يُوقَفُ، عَلَيْهَا وَتَنْفَرِدُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عُنْهُ: "فَلْيَقْطَعْهُ ثُمَّ لْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ".