أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(47)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} عَلَى تَخَوُّفٍ: على جِهَةِ التخوُّفِ، أيْ: عَلَى تَنَقُّصٍ، وهو مِنْ قولِكَ: تَخَوَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتَهُ. أَيْ: يأْخُذُهُمُ اللهُ تَعَالى عَلَى أَنْ يُنْقِصَهمْ في أَنْفُسِهم وأَمْوالِهمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى يَهْلَكُوا مِنَ الخوفِ، أَيْ: مَخَافَةَ الهَلاكِ، وَحَذَرَ العَذَابِ، كَأَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا قَبْلَهم، فيستولي الرُّعْبُ على قلوبِهم، أَوْ يُحْدِثَ حالاتٍ يَخافُونَ مِنْها غَيْرَ ذَلِكَ كالرِّياحِ الشَديدَةِ والصَواعِقِ والزَّلازِلِ، فَيَتَخَوَّفُوا، فَيَأْخُذَهمْ بالعَذَابِ وَهُمْ مُتَخَوِّفونَ. والمعنى: أَوْ أَمِنَ كُفَّارُ قُريشٍ أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ بَعْدَ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِهِم وَالرُّعْبَ الخَوْفَ؟. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الأَخْذِ يَكُونُ أَبْلَغَ وَأَشَدَّ، لأَنَّ أَثَرَ مَا يَحْصُلُ لِلإنْسَانِ، وَهُوَ خَائِفٌ مِنْهُ مُتَوَقِّعٌ لَهُ، أَشَدُّ وَأَبْلَغُ.
ذكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فسَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟. فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا. التَّخَوُّفُ: التَّنَقُّصُ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَا .......... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا يَضِلُّ، قَالُوا وَمَا دِيوَانُنَا؟. قَالَ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ).
البيتُ لأَبي كَبيرٍ الهُذَلِيِّ يَصِفُ رَاحِلَةً أَثَّرَ الرَّحْلُ فِي سَنَامِها فَتَنْقُصُ مِنْ وَبَرِهِ. والتامِكُ: بِكَسْر الْمِيمِ، السَّنَامُ المُشْرِفُ. والقَرِدُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ المَتَلَبِّدُ الْوَبَرِ، والنَّبْعَةُ: قَصَبَةُ شَجَرِ النَّبْعِ تُتَّخَذُ مِنْهُ القِسِيُّ. والسَّفَنُ: بِالتَّحْرِيكِ الْبَرْدُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ" قَالُوا: مَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ تَنَقُّصِ مَا نُرَدِّدُهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا أَرَى إِلَّا أَنَّهُ علَى مَا تَنْتَقَصُونَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ. فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ، فَلَقِيَ أَعْرَابِيًا، فَقَالَ: يَا فلَانُ، مَا فَعَلَ رَبُّكَ؟. فَقَالَ: قَدْ تَخَيَّفْتُهُ، يَعْنِي تَنَقَصَّهُ. فَرَجَعَ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: قَدَّرَ اللهُ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ" قَالَ: يُنْقِصُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ" قَالَ: يَأْخُذُهُمْ بِنَقْصِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ" قَالَ: كَانَ يُقَالُ: التَخَوُّفُ هُوَ التَنَقُّصُ، تَنَقَصَّهم مِنَ الْبَلَدِ والأَطرَافِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أَيْ: وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهمْ وتَرَأَّفَ بِهِمْ وتلطَّفَ، فلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالعُقُوبَةِ. وَفِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ)). أخرجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَد في مُسْنَدِهِ: (4/395، 405)، والبُخَارِي في صحيحِهِ: بِرَقم: (6099، 7378)، ومُسْلِمٌ في صحيحِهِ بِرقم: (49/ 2804). مِنْ حديثِ أَبي موسى الأشعريِّ ـ رضِي اللهُ عنْهُ.
والعَبْدُ فِي جَميعِ أَحْوالِهِ عُرْضَةٌ لِسِهامِ القَدَرِ، ولِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَشْعِرَ الخَوْفَ فِي كُلِّ نَفَسِ مِنِ الإِصابَةِ بِها، وأَلَّا يِأْمَنَ مَكْرَ اللهِ فِي أَيِّ وَقْتَ، وأَكْثَرُ الأَسِنَّةِ تَعْمَلُ في المُوَطَّأَةِ نُفُوسُهم وقُلوبُهم عَلى مَا عَوَّدَهم الحقُّ مِنْ عَوائِدَ المِنَّةِ، ولكنْ كَمَا قالَ الشاعِرُ عديُّ بْنُ زَيْدٍ:
يا راقدَ اللَّيْلِ مَسْرُورًا بِأَوَّلِهِ ............. إِنَّ الحَوادِثَ قدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارا
لَا تَفْرَحَنَّ بِلَيْلٍ طَابَ أَوَّلُهُ ................... فَرُبَّ آخِرِ لَيْلٍ أَجَّجَ النَّارَا
قولُهُ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أَوْ يَأْخُذَهُمْ} أَوْ: للعَطْفِ. وَ "يَأْخُذَهُمْ" فِعْلٌ مضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" عَطْفًا عَلَى "يَخْسِفَ"، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والمِيمُ: عَلامَةُ جَمْعِ المُذكَّرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "عَلَى" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ ضَميرِ المَفْعُولِ، والتقديرُ: حالَةَ كَوْنِهم خائفينَ. و "تَخَوُّفٍ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَخْسِفَ" عَلَى كَوْنِها صِلَةَ المَوْصُولِ الحَرْفِيِّ "أَنْ"، فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقديرُهُ: إِنَّما لَمْ يُعَاجِلْهُمُ اللهُ بِهَذِهِ العُقُوباتِ لأَنَّ "رَبُّكُم رَؤوفٌ رَحِيمٌ". و "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيد، و "رَبَّكُمْ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "لَرَؤوفٌ" اللامُ: هِيَ المُزَحْلَقَةُ للتَوْكِيدِ (حَرْفُ ابْتِداءِ)، و "رَؤوفٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ بها. وَ "رَحِيمٌ" صِفَةُ "رَؤوف" مرفوعةٌ مثلُهُ، أَوْ خَبَرٌ ثانٍ لِـ "إنَّ". وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ ذَلِكَ المَحْذوفِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.