وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
(9)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} في الإذاقةِ هنا استعارةٌ، والإذاقةُ من الذَوقِ وهوَ أَقَلُّ ما يُوجَدُ بِهِ الطَعْمُ، فالمُرادُ أَنَّ الإنسانَ بِوِجْدانِ أقلِّ قدرٍ مِنَ الخَيْراتِ العاجلةِ يطغى ويتمرّدُ، وبأقلِّ القليلِ مِنَ المِحَنِ ييأَسُ ويقنط، والْإِنْسانَ هنا اسمُ جنْسٍ، والمرادُ الاستغراق، والمعنَى: إِنَّ هذا الخُلُقَ في سَجِيَّةِ الإِنسانِ وطبيعة تكوينِهِ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ. و "الرحمة" هنا: تَعمُّ جميع ما ينتفُعُ به مِنْ مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك.
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا فِي نُفُوسِ البَشَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَمِيمَةِ، ثم استثنى منهم الذين ردَّتهم الشرائعُ والإِيمان وهذا عَطْفٌ عَلَى الآيةِ السابقة، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هناك أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللهِ. وَأَنَّهُمْ بَطِرُوا نِعْمَةَ التَّمْتِيعِ فَسَخِرُوا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، جاءتْ هَذِهِ الْآيَةُ لتبيِّنَ أَنَّ أَهْلَ الضَّلَالَةِ رَاسِخُونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِي غَيْرِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَجْرِي انْفِعَالَاتُهُمْ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ دُونَ رَجَاءٍ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالْبُؤْسِ وَتَصَرُّفَاتِ خَالِقِ النَّاسَ وَمُقَدِّرِ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِتَقَلُّبَاتِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَشَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنَّهُمْ إِنْ حَلَّتْ بِهِمُ الضَّرَّاءُ بَعْدَ النِّعْمَةِ مَلَكَهُمُ الْيَأْسُ مِنَ الَخَيْرِ وَنَسُوا النِّعْمَةَ فَجَحَدُوهَا وَكَفَرُوا مُنْعِمَهَا، فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ رَحْمَةٌ وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ نَزْعٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ.
أخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن ابْن جريج ـ رَضِي الله عَنهُ، فِي قَوْله تعالى: "وَلَئِن أذقنا الإِنسان منا رَحْمَة" قَالَ: يَا بْنَ آدم، إِذا كَانَتْ بِكَ نعْمَةٌ مِنَ اللهِ مِنْ السَعَةِ والأَمْنِ والعافيةِ فَكَفُورٌ لِما بِكَ مِنْهَا، وَإِذا نُزِعَتْ مِنْكَ يَبْتَغِي لَك فراغَكَ فيَؤوسٌ مِنْ رَوْحِ اللهِ قَنُوطٌ مِنْ رَحْمَتِهِ كَذَلِكَ أَمْرُ الْمُنَافِقِ وَالْكَافِر.
قولُهُ: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ، اعْتَرَاهُمُ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ مِنْ أَنْ يُفْرِّجَ اللهُ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَكَفَرُوا بِنِعَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ. و "يؤوس" و "كفور" بناءان للمُبالَغةِ، و "كفور" هنا مَنْ كَفَرَ النِعْمَةَ: أَيْ غطّاها وسَتَرَها وتجاهَلَها، والمعنى أَنَّه يَيْأَسُ ويسخَّطُ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ هُنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَفِيهِ نَزَلَتْ. وَقِيلَ نزلت: فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِي.
قولُهُ تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} وَلَئِنْ: الواو: استئنافية، و "اللام" موطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ، ولَيْسَتْ جواباً للقَسَمِ، وإنَّما جوابُهُ قولُهُ: "إنه ليئوس كفور". وقد أَغْنى عَنْ جَوابِ الشَرْطِ جَوابُ القَسَمِ ومثلُ ذلك قوله تعالى في سورةِ الإسراء: {قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الآية: 88. فَرَفَعَ "لا يَأْتُونَ" على أَنَّهُ جوابُ القَسَمِ الذَي هَيَّأتْهُ اللام، والتقديرُ: واللهِ لا يَأْتونَ. وَلَو كان جوابَ الشَرْطِ، لَكَانَ مَجْزوماً، فلمَّا رُفِعَ دَلَّ على أَنَّهُ جوابُ القَسَمِ، واسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ جوابِ الشَرْطِ. و "إنَّ" حَرْفُ شَرْطٍ، و "أَذَقْنَا" فعل وفاعل، و " الْإِنْسَانَ" مَفْعولٌ أَوَلُ، و "رَحْمَةً" مفعولٌ ثانٍ و "مِنَّا" جارٌّ ومجرورٌ حالٌ مِنْ "رَحْمَةً" لأنَّه صِفَةٌ نَكِرَةٌ، قُدِّمَتْ عَلَيها, و جملةُ أذقنا في محلِ الجَزْمِ بِـ "إن" على كونِهِ فعلَ شَرْطٍ لَها. وقد تقدّمَ. القولُ فيها.
قولُه: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} ثُمَّ: حرفُ عَطْفٍ، و "نَزَعْنَاهَا" فِعْلٌ وفاعلٌ، والهاءُ مفعولُهُ و "مِنْهُ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، والجملةُ مَعطوفةٌ على جملةِ "أَذَقْنَا".
قولُهُ: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} إِنَّهُ: ناصبٌ ناسخٌ والهاءُ اسْمُهُ، و "لَيَئُوسٌ" اللامُ: حرفُ ابْتِداءٍ، و "يئوس" خَبَرُ "إنَّ"، و "كَفُورٌ" صِفَةٌ "يئوس" أوْ خَبَرٌ ثانٍ لـ "إن" وجملةُ "إن" جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ، وجَوابُ الشَرْطِ مَحْذوفٌ، دَلَّ عليه جوابُ القَسَمِ، تَقديرُهُ: فهو يَؤوسٌ كَفُورٌ، كما تقدَّم، بيانُ ذلك في البداية، وجُمْلَةُ الشَرْطِ مَعَ جَوابِهِ، وجُمْلَةِ القَسَمِ مَعَ جوابِهِ اسْتَئنَافٌ، فليس لها مَحَلَّ مِنَ الإعْرابِ.