وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
(53)
قولُهُ تعالى جَدُّه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} فَنٌّ آخرُ مِنْ أَفانِينِهم في التَكْذيبِ، فمَرَّةً يَتْظاهرون باسْتِبْطاءِ الوَعْيدِ بالعقابِ اسْتِخفافاً بِهِ، ومَرَّةً يُقْبِلون على الرَسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، في صًورَةِ المُسْتَفْهِمِ الطالِبِ للفهم حقيقةِ الأمرِ، فيَسْأَلُهُ الكَافِرُونَ الذِينَ يَعِدُهُمْ بِالعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ مِنَ الأَمْوَاتِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فيَسألونَهُ: أَحَقّاً سَيَقَعُ ذَلِكَ، أَمْ أَنَّهُ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ وإنَّما يَقولونَ ذلك استهزاءً واستِنْكاراً. والحَقُّ: هو الثابِتُ وقوعُه، فهوَ بمعنى حَاقّ، أَيْ: ثابت، أَيْ أَنَّ وُقوعَهُ ثابتٌ، فأَسْنَدَ الثُبوتَ لِذاتِ العَذابِ بِتَقْديرِ مُضافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِيَاقُ إذْ لا تُوصَفُ الذاتُ بِثُبوتٍ. وقد اسْتَعْمَلوا الاسْتِفْهامَ تَبَالُهاً.
قولُه: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} فقد أُجِيبُوا على طريقةِ الأُسْلوبِ الحَكيمِ بحَمْلِ كَلامِهمْ على خِلافِ مُرادِهم تَنْبيها على أَنَّ الأَوْلى بهم سُؤالُ الاسْتِرْشادِ، تغليطاً لهم واغْتِناماً لِفُرْصَةِ الإرْشادِ بِناءً على ظاهِرِ حالِ سُؤالهم، ولِذلِكَ أَكَّدَ الجوابَ بالتَوْكيدِ اللَّفْظِيِّ إذْ جمعَ بينَ حَرْفِ "إِي" وهوَ حَرْفُ جَوابٍ يُحَقَّقُ بِهِ المَسؤولُ عَنْهُ، وبينَ الجُمْلَةِ الدالَّةِ على ما دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الجوابِ، وبالقَسَمِ، وب "إن"، وب "لامِ الابْتِداءِ"، وكُلُّها مُؤَكِّداتٌ.
قولُهُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ: لَسْتُمْ بِفائتينَ العَذابَ بالهَرَبِ فهوَ لاحِقٌ بِكم لا محالَةَ، وَلَيْسَ فِي صَيْرُورَتِكُمْ تُرَاباً مَا يُعْجِزُ اللهُ عَنْ إِعَادَتِكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ العَدَمِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ البَعْثِ مَا يُعْجِزُ اللهََ الذي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
قولُهُ تَعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} فِعْلٌ وفاعِلٌ ومَفْعولٌ أَوَّل؛ لأنَّ اسْتَنْبَأَ هُنا، بمَعْنى: سَأَلَ، فيَتَعَدَّى إلى مَفْعولَينِ، و "أَحَقٌّ" الهَمْزَةُ للاسْتِفْهامِ التَقْريرِيِّ. و "حَقٌّ" مُبْتَدَأٌ. و "هُوَ" فاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ، أَوْ "هو" مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ، و "حَقٌّ" خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، والجُمْلَةُ في محَلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ ثانٍ لاسْتَنْبَأَ، مُعَلِّقٌ عَنْهُ بالاسْتِفْهامِ، والجملَةُ الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {قُلْ إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} قُلْ" فِعْلُ أَمْرٍِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على النبيِّ محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، والجملة مُسْتَأْنَفَةٌ، "إي" حَرْفُ جَوابٍ بمَعْنى نَعَم، خاصَّةٌ بالقَسَمِ و "وَرَبِّي" الواوُ حَرْفُ جَرٍّ وقَسَمٍ، و "رَبِّي" مُقْسَمٌ بِهِ مجرورٌ بِوَاوِ القَسَمِ، الجارُّ، مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ محذوفٍ، تَقْديرُهُ: أُقْسِمُ بِرَبي و "إِنَّهُ" نَاصِبٌ واسمُهُ، و "لَحَقٌّ" خَبَرُهُ، واللامُ: حَرْفُ ابْتِداءٍ، وجملَةُ "إِنَّ" جَوابُ القَسَمِ، لا محَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، وجملةُ القَسَمِ في محَلِّ النَصْبِ يالقولِ ل "قُلْ".
قولُه: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وَمَا: الواوُ: عاطِفَةٌ. و "ما" حِجَازِيَّةٌ و "أَنْتُمْ" في محَلِّ رَفْعِ اسمِها, و "بِمُعْجِزِينَ} الباءُ زائدةٌ و "معجزين" خبرُها وجملةُ "ما" الحِجازِيَّةُ في محَلِّ نَصْبٍ عَطْفاً عَلى جملَةِ القَسَمِ كونَها مَقولاً ل "قُلْ".
قرأَ العامَّةُ: {أحقٌّ}، وقرأَ الأَعمشُ "آلحقُّ"، بِلامِ التَعْريفِ. وهوَ أَدْخَلُ في الاستهزاء لتضمُّنِه معنى التَعْريضِ بِأَنَّهً باطلٌ، ذَلكَ أَنَّ اللامَ للجِنْسِ وكأنَّهُ قيلَ: أَهُوَ الحقُّ لا الباطلُ، أو: أهو الذي سَمَّيْتموه الحقَّ.