فيض العليم من معاني الذكر الحكيم
موسوعة قرآنية
تفسير ، أحكام، أسباب نزول، إعراب، تحليل لغة، قراءات
تأليف: عبد القادر الأسود
سورة الأنفال، الآية: 12
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
(12)
قولُهُ تعالى شأنُه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} نِعْمَةٌ أخرى خَفيّةٌ أَظْهَرَهَا اللهُ تَعَالَى لِلمُسْلِمِينَ لِيَشْكُرُوهُ عَلَيْها، فَقَدْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى المَلاَئِكَةِ الذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِنَصْرِ المُسْلِمِينَ، بِأَنْ يُثَبِّتُوا المُسْلِمِينَ وَيُقَوُّوا قُلُوبَهُمْ، بِتَكْثيرِ عَدَدِهم، أَوْ بالبِشارَةِ لهم بنصرِ اللهِ، أَوْ بمحارَبَةِ أَعْدائهم، أو بِتَذَكيرهم بوَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّصْرِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ، وأَنا مُعِينُكُمْ عَلَى تَثْبِيتِ المُؤْمِنِينَ.
أخرج ابْنُ أبي حاتمٍ عن أبي سعيدٍ أَحمد بْنِ داوود الحَدِّادِ يَقولُ: إنِّهُ لم يَقُلِ اللهُ لِشَيْءٍ أَنَّه مَعَهُ إلاِّ للمَلائِكَةِ يومَ بَدْرٍ. قال: إني معكم بالنَصر.
وأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: .. نَفَرَ النَبيُّ ـ صَلى الله عليه وسلم، بجَميعِ المُسْلِمينَ وهُمْ يَومَئِذٍ ثَلاثمئةٍ وثلاثةَ عَشَرَ رَجُلاً، مِنْهم سَبْعونَ ومِئَتانِ مِنَ الأَنْصارِ وسائرُهم مِنَ المُهاجِرينَ، وسَيِّدُ المُشْرِكينَ يَوْمَئذٍ عُتَبْةُ بْنُ رَبيعةَ لِكِبَرِ سِنِّهِ.
فقال عُتْبَةُ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنِّي لَكمْ ناصِحٌ وعَليكُمْ مُشْفِقٌ لا أَدَّخِرُ النَصيحَةَ لَكمْ بَعدَ اليَوْمِ، وقدْ بَلَغْتُمْ الذي تُريدونَ، وقدْ نَجا أَبُو سُفْيانَ فارْجِعوا وأَنْتُمْ سالمونَ، فإنْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صادِقاً فأَنْتُمْ أَسْعَدُ النّاسِ بِصِدْقِهِ، وإنْ يَكُ كاذِباً فَأَنْتم أَحَقُّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ. فالْتَفَتَ إليْهِ أَبو جَهْلٍ فَشَتَمَهُ وفَجَّ وَجْهَهُ وقالَ لَهُ: قدِ امْتَلأَتْ أَحْشاؤُكَ رُعْباً. فَقالَ لَهُ عُتْبَةُ: سَيُعْلَمُ اليَوْمَ مَنِ الجَبانُ المُفْسِدُ لِقَوْمِهِ.
فنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ، وشَيْبَةُ بْنُ رَبيعةَ، والوَليدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ ربيعة، حَتى إذا كانوا أَقْرَبَ أَسِنَةِ المُسْلِمينَ قالوا: ابْعَثوا إِليْنا عِدَّتَنا مِنْكُم نُقاتِلْهُم. فقامَ غَلَمَةٌ مِنْ بَني الخَزْرَجِ فأجْلَسَهمُ النَبيُّ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا بَني هاشِمَ أَتَبْعَثونَ إلى أَخَوَيْكُمِ ـ والنَبيُّ مِنْكم، غَلَمَةَ بني الخَزْرَجِ؟ فقامَ حمزَةُ ابْنُ عبدِ المُطَّلِبِ، وعليُّ بْنُ أَبي طالِب، وعُبَيْدَةُ بْنُ الحارِثِ ـ رضي اللهُ عنهم، فمَشَوا إليهِمْ في الحديدِ، فقالَ عُتْبَةُ: تَكَلَّموا نَعْرِفْكُم، فإنْ تَكونُوا أَكفاءَنا نُقاتِلْكُم. فقالَ حمزَةُ رضيَ اللهُ عنْهُ: أَنا أَسَدُ اللهِ وأَسَدُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. فَقالَ لَهُ عُتْبَةُ: كُفْءٌ كَريمٌ. فَوَثَبَ إليْهِ شَيْبَةُ فاخْتَلَفا ضَرْبَتَينِ فَضَرَبَهُ حمزةُ فَقَتَلَهُ، ثمَّ قامَ عَليٌّ بْنُ أَبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى الوَليدِ بْنِ عُتْبَةَ فاخْتَلَفا ضَرْبَتَينِ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ، ثمَّ قامَ عُبَيْدَةُ بنُ الحارث، رضِيَ اللهُ عَنْهُ، فخَرَجَ إلَيْهِ عُتْبَةُ فاخْتَلَفا ضَرْبَتَينِ فجَرَحَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُما صاحِبَهُ، وكَرَّ حمزَةُ على عُتْبَة فَقَتَلَهُ، فقامَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزَلْتَ عَليَّ الكِتابَ وأَمَرْتَني بالقِتالِ ووعَدْتَني النَصْرَ ولا تُخْلِفُ الميعادَ)) فأتاهُ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَلامُ، فأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {أَلَنْ يَكْفِيَكُم أَنْ يُمِدَّكُم رَبُّكم بِثلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلين} سورة آلِ عُمران، الآية: 124، فَأَوْحى اللهُ إلى الملائكةِ: {إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} فَقُتِلَ أَبو جَهْلٍ في تِسْعَةٍ وسِتِّينَ رَجُلاً، وأُسِرَ عُقْبَةُ بْنُ أَبي مُعَيْطٍ فَقُتِلَ صَبْراً، فوفى ذلكَ سَبْعينَ وأُسِرَ سَبْعون.
قولُهُ: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أنَّهُ تَعَالَى سَيَجْعَلُ الرَّعْبَ يَسْتَوْلي عَلَى قُلوبِ المُشْرِكِينَ فَيُصِيبُهُمُ الخوفُ والفَزَعُ فيولون الأدبارَ ثمَّ لا يَثْبُتونَ في ساح القتال. وقد كانَ الرُعْبُ من أهم الأسلحة التي أَيَّدَ اللهُ رسولَه محمدً ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، فقد جاء في الصحيح أنّه ـ صلى الله عليه وسلم، قال: ((.. ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، ..)). وقد تقدَّمَ تخريجُه غيرَ مَرَّةٍ.
قولُه: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} ثُمَّ أمَر اللهُ المَلاَئِكَةِ بِأنْ يَضْرِبُوا رِقَابَ المُشْرِكِينَ وَيَقْطَعُوهَا، وَبِأَنْ يَقْطَعُوا الأَيْدِي ذَاتِ البَنَانِ التِي هِيَ أَدَاةُ الضَّرْبِ فِي الحَرْبِ. واضربوا كُلَّ مَفاصِلِ المشركين. فقد أَخرج أَبو الشَيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبي أُمامةَ بْنِ سَهْلٍ بْنِ حَنيفٍ قال: قال أَبي: يا بُنيَّ لقدْ رَأيْتُنا يَوْمَ بَدْرٍ وإنَّ أَحَدَنا لَيُشيرُ بِسَيْفِهِ إلى رَأْسِ المُشْرِكِ فيَقَعَ رَأسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قبلَ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ السيفُ. وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "فاضربوا فَوْقَ الأعناق"، هُوَ أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لاَ لِلْمَلاَئِكَةِ، وَالأوَّلُ أَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ.
قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي} يَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ بدلاً ثالثاً مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} الآية: 7. هذا على مذهب من يُجَوِّزُ تَعدُّدَ البَدَلِ، وقد تقدمَ بيانُ ذلك عند إعرابِ {إذ يغشّيكم} في الآيةِ السابقة. ويَحْتَمِلُ: أنْ يَنْتَصِبَ بقولِه: "ويُثَبِّتَ"، والعاملُ في "إذ" يَعودُ على العامِلِ الأَوَّلِ على ما تقدَّم فيما قَبْلَها، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قولُه: {ويُثَبِّتَ} على تأويل عَوْده على "الرَّبط"، وأمَّا على تأويل عَوْده على "الماءِ" فَيَقْلَقُ أَنْ يَعْمَلَ، ويَثْبُتَ في "إذ"، وإنما قَلِق لاخْتِلافِ زَمانِ التَثبيتِ وزَمانِ الوَحْيِ، فإنَّ إنزالَ المَطَرِ وما تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ تَعليلاتٍ مُتَقَدِّمٌ على تَغْشيةِ النُعاسِ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النُعاسِ والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال.
قولُهُ: {أَنِّي مَعَكُمْ} مَفعولٌ بِه ل "يوحي"، أيْ: يُوحِي كَوني مَعَكُمْ بالغَلَبَةِ والنَصْرِ.
قولُهُ: {اضربوا فَوْقَ الأَعْناقِ} اضربوا: فعلُ أَمْرٍ فاعِلُهُ الضَميرُ المُتَّصِلُ (واو الجماعة)، الذي يَعودُ عَلى المَلائِكَةِ، ومفعولُهُ محذوفٌ، و "فوق" ظرفيَّةٌ، والتَقْديرُ: فاضْرِبوهُم فوقَ الأَعْناقِ، فقد عَلَّمَهم كيفَ يَضْرِبونهم. قالَ عِكْرِمَةُ مَوْلى ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم: أرادَ الرُؤوسَ إذْ هِيَ فوقَ الأَعْناقِ، وقالَ المُبَرِّدُ: وفي هذا إباحةُ ضَرْبِ الكافِرِ في الوَجْهِ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يُريدَ بِقَوْلِهِ "فوق الأعناق" وَصْفَ أَبْلَغِ ضَرَباتِ العُنُقِ وأَحْكَمِها، وهيَ الضَرْبَةُ التي تَكونُ فَوْقَ عَظْمِ العُنُقِ ودونَ عَظْمِ الرَأْسِ في المِفْصَلِ، ومنه قولُ دُرَيْدٍ بْنِ الصِمَّةَ السُلَميِّ حين قالَ خُذْ سَيْفي وارْفَعْ بِهِ عَنِ العَظْمِ واخْفِضْ عَنِ الدِماغِ، فهَكذا كُنْتُ أَضْرِبُ أَعْناقَ الأَبْطالِ، ومنه قولُ الشاعر:
جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيدِ مِنْهُ ................. وبَينَ أَسيلِ خَدَّيْهِ عِذارا
فَيَجيءُ على هذا "فوقَ الأعناقِ" مُتَمَكِّناً. وقيلَ أَنَّ "فوقَ" مَفْعولٌ بِهِ عَلى الاتِّساعِ لأنَّهُ عِبارةٌ عَنِ الرَأْسِ كأَنَّهُ قيلَ: فاضْرِبوا رُؤوسَهم. وهذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لأنَّهُ لا يَتَصَرَّفُ. وقد زعم بعضُهم أَنَّه يتصرَّفُ فتقولُ: فَوقُكَ رأسُكُ. بِرَفْعِ "فَوقُ، وهُوَ ظاهرُ قولِ الزَمخشري فإنَّه قالَ: فوقَ الأَعْناقِ: أَرادَ أَعالي الأَعْناقِ التي هيَ المَذابِحُ التي هِيَ مَفَاصِلُ.
وقالَ أبو عُبَيْدَةَ بأَنَّ "فوقَ" هنا بَمَعْنى "على" والمفعولُ محذوفٌ والتقديرُ: فاضْرِبوهُم عَلَى الأَعْناق، وهذا قريبٌ مِنَ القولِ الأوَّلِ. وقال ابْنُ قُتَيْبَةَ: هي بمعنى "دون". قال ابن عطية: وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش، وإنَّما دَخَلَ عَلَيِهَ اللَّبْسُ مِنْ قولِهِ تعالى في سورة البقرة: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} الآية: 26، أي: فما دونها، وليستْ "فوق" هُنا بمعنى دون، وإنَّما المُرادُ: فما فوقَها في القِلَّةِ والصِغَرِ. وقالَ أبو الحسن: أَنَّها زائدةٌ أَيْ: اضْرِبُوا الأَعْناقَ وهُوَ خطأٌ عند الجمهورِ، لأَنَّ زِيادةَ الأَسماءِ لا تَجوزُ.
قولُهُ: {مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} منهم: مُتَعَلِّقٌ بفعل الأَمْرِ قبلَهُ والتقديرُ: ابْتَدِئوا الضَرْبَ مِنْ هَذِهِ الأَماكِنِ والأَعْضاءِ مِنْ أَعاليهم إلى أَسافِلِهم. ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بمَحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ مِنْ "كلِّ بنان"؛ لأنَّه في الأَصْلِ يَجوزُ أَنْ يَكونَ صِفَةً لَهُ لو تَأَخَّرَ، قالَ أَبو البَقاءِ: ويَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حالاً مِنْ "بنان" إذْ فيهِ تقديمُ حالِ المُضافِ إليْهِ عَلى المُضافِ. فَكأَنَّ المعنى: اضْرِبوهُمْ كَيفَ ما كان.
قرأ العامَّةُ: {أَنّي} بفتح الهمزةِ وقَرَأَ عِيسى بْنُ عُمَرَ بخلافٍ عنْهُ "إني" بِكَسْرِها. وذلكَ إمّا على إِضْمارِ القولَ، وهُوَ مَذْهَبُ البَصْريّين. وإمّا على إجراءِ "يُوحي" مُجْرى القَوْلِ لأنَّهُ بمَعناهُ، وهُوَ مَذْهَبُ الكُوفِيّين. وقرأ العامَّةُ: {الرُعْبَ} بتسكينِ العينِ، وقرأَ الأَعْرَجُ "الرعُبَ" بِضَمِّ العينِ.
عبد القادر الأسود