روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 283

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 283  Jb12915568671



فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 283  Empty
مُساهمةموضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 283    فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 283  I_icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 24, 2012 5:48 pm

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ
يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ



(283)


رَتابةُ الحياةِ في المَوطِن تجعلُ الإنسانَ يَعلمُ تَمامَ
العِلمِ مُقوِّماتِ حياتِه، لكنَّ السفرَ يُخرِجُ الإنسانِ عن رَتابَةِ الحياةِ
فلا يتمكَّنُ مِنْ كثيرٍ من الأشياءِ التي يتمكَّنُ بها في الإِقامة.
وربّما
اضطرُرتَ إلى أنْ تَستدين، ولا يوجدُ كاتبٌ ولا يوجد شهيدٌ، فماذا يكون الموقف؟
هاهو ذا الحقُّ ـ سبحانه ـ يوضِّحُ لك: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}. إذن فلم يترك
اللهُ مسألةَ الدَّيْن حتّى في السَفَرِ فلم يُشَرِّعْ فقط للإقامةِ ولكنَّ الحقَّ
قد شرَّعَ أيْضًا للسفر: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} وهكذا الكتابةُ، والشهادةُ في
الإقامةِ والرهانُ المقبوضةُ في السَّفَرِ هدفُها حمايَةِ الإنسانِ أمامَ ظروفِ
ضغط المجتمع. وَلمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النَّدْبَ إِلَى الْإِشْهَادِ
وَالْكَتْبِ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَدْيَانِ، عَقَّبَ ذَلِكَ
بِذِكْرِ حَالِ الْأَعْذَارِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْكَتْبِ، وَجَعَلَ لها الرهنَ،
ونَصَّ مِن أَحْوَالِ الْعُذْرِ عَلَى السَّفَرِ الَّذِي هُوَ غَالِبُ
الْأَعْذَارِ، لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِكَثْرَةِ الْغَزْوِ،
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِالْمَعْنَى كُلُّ عُذْرٍ. فَرُبَّ وَقْتٍ يَتَعَذَّرُ
فِيهِ الْكَاتِبُ فِي الْحَضَرِ كَأَوْقَاتِ أَشْغَالِ النَّاسِ وَبِاللَّيْلِ، وَأَيْضًا
فَالْخَوْفُ عَلَى خَرَابِ ذِمَّةِ الْغَرِيمِ عُذْرٌ يُوجِبُ طَلَبَ الرَّهْنِ.
وَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَهُ عِنْدَ
يَهُودِيٍّ طَلَبَ مِنْهُ سَلَفَ الشَّعِيرِ فَقَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ
أَنْ يَذْهَبَ بِمَالِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَذَبَ إِنِّي لَأَمِينٌ فِي الْأَرْضِ أَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَلَوِ
ائْتَمَنَنِي لَأَدَّيْتُ اذْهَبُوا إِلَيْهِ بِدِرْعِي)). فَمَاتَ وَدِرْعُهُ
مَرْهُونَةٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.



قَالَ جُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الرَّهْنُ فِي
السَّفَرِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَفِي الْحَضَرِ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَهُ
في الحضرِ من الآيةِ بالمَعنى، إذ قَدْ تَتَرَتَّبُ الْأَعْذَارُ فِي الْحَضَرِ،
وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مَنْعُهُ فِي الْحَضَرِ سِوَى مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ
وَدَاوُدَ، مُتَمَسِّكِينَ بِالْآيَةِ. وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، لِأَنَّ هَذَا
الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبُ الْأَحْوَالِ.
وَلَيْسَ كَوْنُ الرَّهْنِ فِي الْآيَةِ فِي السَّفَرِ مِمَّا يُحْظَرُ فِي
غَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى
أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ
شَعِيرٍ لِأَهْلِهِ.



قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً} قَرَأَ الْجُمْهُورُ "كاتِباً" بِمَعْنَى رَجُلٍ يَكْتُبُ. وَقَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ "وَلَمْ تَجِدُوا كِتَابًا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْأَنْبَارِيُّ: فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
مِدَادًا يَعْنِي فِي الْأَسْفَارِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "كُتَّابًا".
قَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ وَالْعَامَّةُ عَلَى خلافها.
وقلما يخرج شيءٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ إِلَّا وَفِيهِ مَطْعَنٌ، وَنَسَقُ
الْكَلَامِ عَلَى كَاتِبٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قبل هذا: "
وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ
" وكِتابٌ وكتْبٌ يَقْتَضِي جَمَاعَةً كُتَّابًا يَحْسُنُ من حيثُ
لِكُلِّ نَازِلَةٍ كَاتِبٌ، فَقِيلَ
لِلْجَمَاعَةِ: وَلَمْ تَجِدُوا كُتَّابًا.



قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} الرَّهْنِ معناه: احْتِبَاسُ الْعَيْنِ
وَثِيقَةً بِالْحَقِّ لِيُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِ
مَنَافِعِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِنَ الْغَرِيمِ، وَهَكَذَا حَدَّهُ
الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الدَّوَامِ
وَالِاسْتِمْرَارِ. وَرَهَنَهُ أَيْ أَدَامَهُ. وأَرْهَنْتُ فِي السِّلْعَةِ
إِرْهَانًا: غَالَيْتُ بها، وهو في الغلاء خاصة. وَلَمَّا كَانَ الرَّهْنُ
بِمَعْنَى الثُّبُوتِ، وَالدَّوَامِ فَمِنْ ثَمَّ بَطَلَ الرَّهْنُ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ إِذَا خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى الرَّاهِنِ بِوَجْهٍ
مِنَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ فَارَقَ مَا جُعِلَ بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ. والْمُعْتَمَدُ
فِي أَنَّ الرَّهْنَ مَتَى رَجَعَ إِلَى الرَّاهِنِ بِاخْتِيَارِ الْمُرْتَهِنِ
بَطَلَ الرَّهْنُ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ رَجَعَ
بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لَمْ يَبْطُلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ
رُجُوعَهُ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ مُطْلَقًا لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْقَبْضِ
الْمُتَقَدِّمِ، وَدَلِيلُنَا "
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ"، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ يَدِ
الْقَابِضِ لَمْ يَصْدُقْ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ لُغَةً، فَلَا يَصْدُقُ
عَلَيْهِ حُكْمًا، وَهَذَا وَاضِحٌ.



إِذَا رَهَنَهُ قَوْلًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فِعْلًا لَمْ
يُوجِبْ ذَلِكَ، حُكْمًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "
فَرِهانٌ
مَقْبُوضَةٌ
" قَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الْحُكْمَ إِلَّا بِرَهْنٍ مَوْصُوفٍ
بِالْقَبْضِ، فَإِذَا عُدِمَتِ الصِّفَةُ وَجَبَ أَنْ يُعْدَمَ الْحُكْمُ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ جِدًّا. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْعَقْدِ وَيُجْبَرُ
الرَّاهِنُ عَلَى دَفْعِ الرَّهْنِ لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِنُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" وَهَذَا عَقْدٌ، وَقَوْلُهُ: "بِالْعَهْدِ"
وَهَذَا عَهْدٌ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ)). وَهَذَا شَرْطٌ، فَالْقَبْضُ شَرْطٌ فِي كَمَالِ فَائِدَتِهِ.



قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَقْبُوضَةٌ} يَقْتَضِي بَيْنُونَةَ الْمُرْتَهِنِ
بِالرَّهْنِ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَكَذَلِكَ
عَلَى قَبْضِ وَكِيلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَبْضِ عَدْلٍ يُوضَعُ الرَّهْنُ عَلَى
يَدَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ:
قَبْضُ الْعَدْلِ قَبْضٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ
وَعَطَاءٌ: لَيْسَ بِقَبْضٍ، وَلَا يَكُونُ مَقْبُوضًا إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْدَ
الْمُرْتَهِنِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ تَعَبُّدًا. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ مِنْ
جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ عِنْدَ الْعَدْلِ صَارَ مَقْبُوضًا
لُغَةً وَحَقِيقَةً، لِأَنَّ الْعَدْلَ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ
وَبِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَلَوْ وُضِعَ الرَّهْنُ عَلَى
يَدَيْ عَدْلٍ فَضَاعَ لَمْ يَضْمَنِ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْضُوعُ عَلَى
يَدِهِ، لِأَنَّ المرتهن لم يكن في يَدِهِ شيءٌ يَضْمَنُهُ. وَالْمَوْضُوعُ عَلَى
يَدِهِ أَمِينٌ وَالْأَمِينُ غَيْرُ ضامن.



قوله تَعَالَى: {مَقْبُوضَةٌ} فِيهِ مَا يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ
وَمُطْلَقِهِ جَوَازَ رَهْنِ الْمُشَاعِ. خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرْهِنَهُ ثُلُثَ دَارٍ وَلَا
نِصْفًا مِنْ عَبْدٍ وَلَا سَيْفٍ، ثُمَّ قَالُوا: إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى
رَجُلٍ مَالٌ هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ فَرَهَنَهُمَا بِذَلِكَ أَرْضًا فَهُوَ
جَائِزٌ إِذَا قَبَضَاهَا. وَهَذَا إِجَازَةُ رَهْنِ الْمُشَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرْتَهِنُ نِصْفِ دَارٍ. ويجوز رَهْنُ الْمُشَاعِ كَمَا
يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرَهْنُ مَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ وهناك
مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَمِثَالُهُ رَجُلَانِ تَعَامَلَا لِأَحَدِهِمَا عَلَى
الْآخَرِ دَيْنٌ فَرَهَنَهُ دَيْنَهُ الَّذِي عليه. قال بعضهم: وَكُلُّ عَرْضٍ
جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ جُوِّزَ رَهْنُ مَا فِي
الذِّمَّةِ، لِأَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَقَعُ الْوَثِيقَةُ
بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ رَهْنًا، قِيَاسًا عَلَى سِلْعَةٍ مَوْجُودَةٍ. وَقَالَ
مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ: لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِقْبَاضُهُ وَالْقَبْضُ شَرْطٌ
فِي لُزُومِ الرَّهْنِ، لأنّه لا بدَّ أَنْ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ
الْمَحِلِّ، وَيَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَالِيَّتِهِ لَا مِنْ عَيْنِهِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ.



رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ



وَسَلَّمَ:
((الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ
يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ
وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ)). وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُودَ وَقَالَ بَدَلَ "يُشْرَبُ"
فِي الْمَوْضِعَيْنِ: "يُحْلَبُ". وقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا
مُفَسَّرًا فِي حَدِيثَيْنِ، وَبِسَبَبِهِمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ،
فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ
مَرْهُونَةً فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلْفُهَا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ وَعَلَى
الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتُهُ)). قال أَحْمَدُ: إنَّ الْمُرْتَهِنَ يَنْتَفِعُ مِنَ
الرَّهْنِ بِالْحَلْبِ وَالرُّكُوبِ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ:
إِذَا كَانَ الرَّاهِنُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْمُرْتَهِنُ.
وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَتَرَكَه فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ
فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ فَلَهُ رُكُوبُهُ واستخدامُ العبدِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ. ومالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ:
مَنْفَعَةُ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرْتَهِنُ لَا
يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنَ الرَّهْنِ خَلَا الْإِحْفَاظِ لِلْوَثِيقَةِ. وهُوَ
أَوْلَى أصحُّ الْأَقْوَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لَا
يغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ
غُرْمُهُ". وَقَوْلُه: ((مِنْ صَاحِبِهِ)) أَيْ لِصَاحِبِهِ. وَالْعَرَبُ تضع
"مِن" موضِعَ اللّامِ، كقولهم:



أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى
دِمْنَةٌ لَمْ تُكَلَّمِ ............. أم هل عَرَفْتَ الدارَ بعدَ تَوَهُّم



ولقَدْ
جَاءَ صَرِيحًا "لِصَاحِبِهِ" فَلَا حَاجَةَ لِلتَّأْوِيلِ. وَقَالَ
الطَّحَاوِيُّ: كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ كَوْنِ الرِّبَا مُبَاحًا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ
قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَلَا عَنْ أَخْذِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَإِنْ كَانَا
غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ حَرَّمَ الرِّبَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ
الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمَرْهُونَةَ لَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ
يَطَأَهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ خِدْمَتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ لَبَنَ الرَّهْنِ وَظَهْرَهُ لِلرَّاهِنِ. وَلَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ احْتِلَابُ الْمُرْتَهِنِ لَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ
أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَحْتَلِبَنَّ
أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ)). مَا يَرُدُّهُ وَيَقْضِي
بِنَسْخِهِ. وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَفِي الْأُصُولِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا
فِي تَحْرِيمِ الْمَجْهُولِ وَالْغَرَرِ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَبَيْعِ
مَا لَمْ يُخْلَقْ، مَا يَرُدُّهُ أَيْضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ قبل نزولِ تحريمِ
الرِّبا. وَلَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ الِانْتِفَاعَ بِالرَّهْنِ فَلِذَلِكَ
حَالَتَانِ: إِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ
إِجَارَةٍ جَازَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا لِلسِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ
الْمَذْكُورِ وَمَنَافِعُ الرَّهْنِ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَكَأَنَّهُ بَيْعٌ
وَإِجَارَةٌ، وَأَمَّا فِي الْقَرْضِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ قَرْضًا جَرَّ
مَنْفَعَةً، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَ الْقَرْضِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، فَإِذَا
دَخَلَهُ نَفْعٌ صَارَ زِيَادَةً فِي الْجِنْسِ وَذَلِكَ رِبًا. ولَا يَجُوزُ
غَلْقُ الرَّهْنِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ لَهُ بِحَقِّهِ
إِنْ لَمْ يَأْتِهِ بِهِ عِنْدَ أَجَلِهِ. وَكَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: ((لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ)) تَقُولُ: أَغْلَقْتُ الْبَابَ فَهُوَ
مُغْلَقٌ. وَغَلَقَ الرَّهْنُ فِي يَدِ مُرْتَهِنِهِ إِذَا لَمْ يُفْتَكَّ.



رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا يَغْلَقُ
الرَّهْنُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ)). وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ
غُرْمُهُ، فَأَخْبَرَ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ لَا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.



ونَمَاءُ الرَّهْنِ دَاخِلٌ مَعَهُ إِنْ كَانَ لَا
يَتَمَيَّزُ كَالسِّمَنِ، أَوْ كَانَ نَسْلًا



كَالْوِلَادَةِ
وَالنِّتَاجِ، وَفِي مَعْنَاهُ فَسِيلُ النَّخْلِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ
غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَلَبَنٍ وَصُوفٍ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا أَنْ
يَشْتَرِطَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوْلَادَ تَبَعٌ فِي الزَّكَاةِ
لِلْأُمَّهَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَصْوَافُ وَالْأَلْبَانُ وَثَمَرُ
الْأَشْجَارِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي الزَّكَاةِ وَلَا
هِيَ فِي صُوَرِهَا وَلَا فِي مَعْنَاهَا وَلَا تَقُومُ مَعَهَا، فَلَهَا حُكْمُ
نَفْسِهَا لَا حُكْمُ الْأَصْلِ خِلَافَ الْوَلَدِ وَالنِّتَاجِ.



وَرَهْنُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ جَائِزٌ مَا
لَمْ يُفْلِسْ، وَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالرَّهْنِ مِنَ الْغُرَمَاءِ،
قَالَهُ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُ هَذَا
ـ وَقَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ـ إِنَّ الْغُرَمَاءَ
يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحْجَرْ
عَلَيْهِ فَتَصَرُّفَاتُهُ صَحِيحَةٌ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مِنْ بَيْعٍ
وَشِرَاءٍ، وَالْغُرَمَاءُ عَامَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي
وَيَقْضِي، لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذَا الْبَابِ، فَكَذَلِكَ
الرَّهْنُ.



قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً
} الْآيَةُ. شَرْطٌ رُبِطَ بِهِ وَصِيَّةُ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْأَدَاءِ وَتَرْكِ الْمَطْلِ. يَعْنِي إِنْ كَانَ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمِينًا عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ وَثِقَةً فَلْيُؤَدِّ
لَهُ ما عليه ائتمن. وَقَوْلُهُ: "
فَلْيُؤَدِّ" مِنَ الْأَدَاءِ مَهْمُوزٌ، وَهُوَ
جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ هَمْزِهِ فَتُقْلَبُ الْهَمْزَةُ وَاوًا
وَلَا تُقْلَبُ أَلِفًا وَلَا تُجْعَلُ بَيْنَ بَيْنَ، لأنَّ الألِفَ لا يكون مَا
قَبْلَهَا إِلَّا مَفْتُوحًا. وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوُجُوبُ، بِقَرِينَةِ
الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدُّيُونِ، وَثُبُوتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ
وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاءَ عَلَيْهِ، وَبِقَرِينَةِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ فِي
تَحْرِيمِ مَالِ الْغَيْرِ.



قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمانَتَهُ} الْأَمَانَةُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ
الشَّيْءُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ
مِنْ حَيْثُ لَهَا إِلَيْهِ نِسْبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ".



قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} أَيْ فِي أَلَّا يَكْتُمَ مِنَ الحقِّ شيئًا.


وقولُه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَا يُضَارِرَ}. بِكَسْرِ الْعَيْنِ. نَهَى الشَّاهِدَ
عَنْ أَنْ يَضُرَّ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ نَهْيٌ عَلَى الْوُجُوبِ
بِعِدَّةِ قَرَائِنَ مِنْهَا الْوَعِيدُ. وَمَوْضِعُ النَّهْيِ هُوَ حَيْثُ
يَخَافُ الشَّاهِدُ ضَيَاعَ حَقٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ
يَشْهَدَ حَيْثُمَا اسْتُشْهِدَ، وَيُخْبِرَ حَيْثُمَا اسْتُخْبِرَ، قَالَ: وَلَا
تَقُلْ أُخْبِرُ بِهَا عِنْدَ الْأَمِيرِ بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ
يَرْجِعُ وَيَرْعَوِي.



إِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِّ شُهُودٌ تَعَيَّنَ
عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ أَدَّاهَا اثْنَانِ وَاجْتَزَأَ
الْحَاكِمُ بِهِمَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يُجْتَزَأْ
بِهَا تَعَيَّنَ الْمَشْيُ إِلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْإِثْبَاتُ. وَهَذَا يُعْلَمُ
بِدُعَاءِ صَاحِبِهَا.



قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ
}
خَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ إِذِ الْكَتْمُ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَإِذْ هُوَ
الْمُضْغَةُ الَّتِي بِصَلَاحِهَا يَصْلُحُ الْجَسَدُ كُلُّهُ كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ، فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. ولَمَّا عَزَمَ عَلَى أَلَّا يُؤَدِّيَهَا
وَتَرَكَ أَدَاءَهَا بِاللِّسَانِ رَجَعَ الْمَأْثَمُ إِلَى الْوَجْهَيْنِ
جَمِيعًا. فَقَوْلُهُ: "
آثِمٌ قَلْبُهُ" مَجَازٌ، وَهُوَ آكَدُ مِنَ الْحَقِيقَةِ فِي
الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَعِيدِ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْبَيَانِ وَلَطِيفِ
الْإِعْرَابِ عَنِ الْمَعَانِي. يُقَالُ: إِثْمُ الْقَلْبِ سَبَبُ مَسْخِهِ،
وَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا مَسَخَ قَلْبًا جَعَلَهُ مُنَافِقًا وَطَبَعَ عَلَيْهِ،
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.



اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ
الشَّهَادَةِ وَالْكِتَابَةِ لِمُرَاعَاةِ صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَفْيِ
التَّنَازُعِ الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ، لِئَلَّا يُسَوِّلَ لَهُ
الشَّيْطَانُ جُحُودَ الْحَقِّ وَتَجَاوُزَ مَا حَدَّ لَهُ الشَّرْعُ، أَوْ تَرْكِ
الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلِأَجْلِهِ حَرَّمَ الشَّرْعُ
الْبِيَاعَاتِ الْمَجْهُولَةَ الَّتِي اعْتِيَادُهَا يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَافِ
وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيقَاعِ التَّضَاغُنِ وَالتَّبَايُنِ. فَمِنْ ذَلِكَ
مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةَ. فَمَنْ
تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ حَازَ صَلَاحَ الدُّنْيَا
وَالدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} الْآيَةَ.



رَوَى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ
النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ
إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ}. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا اسْتَدَانَتْ، فَقِيلَ:
يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ؟ قَالَتْ:
إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ
أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)).
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي
أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تُخِيفُوا الْأَنْفُسَ بَعْدَ
أَمْنِهَا)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: ((الدَّيْنُ)).
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي دُعَاءٍ ذَكَرَهُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ
وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ
وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)). قَالَ الْعُلَمَاءُ: ضَلَعُ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي لَا
يَجِدُ دَائِنُهُ مِنْ حَيْثُ يُؤَدِّيهِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ
الْعَرَبِ: حِمْلٌ مُضْلِعٌ أَيْ ثَقِيلٌ، وَدَابَّةٌ مُضْلِعٌ لَا تَقْوَى عَلَى
الْحَمْلِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدَّيْنُ شَيْنُ
الدِّينِ)). وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((الدَّيْنُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ
وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ)). وَإِنَّمَا كَانَ شَيْنًا وَمَذَلَّةً لِمَا فِيهِ
مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ وَالْبَالِ وَالْهَمِّ اللَّازِمِ فِي قَضَائِهِ،
وَالتَّذَلُّلِ لِلْغَرِيمِ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَتَحَمُّلِ مِنَّتِهِ
بِالتَّأْخِيرِ إِلَى حِينِ أَوَانِهِ. وَرُبَّمَا يَعِدُ مِنْ نَفْسِهِ
الْقَضَاءَ فَيُخْلِفُ، أَوْ يُحَدِّثُ الْغَرِيمَ بِسَبَبِهِ فَيَكْذِبُ، أَوْ
يَحْلِفُ لَهُ فَيَحْنَثُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الصلاةُ
والسَّلَامُ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَهُوَ الدَّيْنُ.
فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرَ مَا تَتَعَوَّذُ مِنَ
الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ
فَأَخْلَفَ)). وَأَيْضًا فَرُبَّمَا قَدْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ
فَيُرْتَهَنُ بِهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ السَّلَامُ: ((نَسْمَةُ
الْمُؤْمِنِ مُرْتَهَنَةٌ فِي قَبْرِهِ بِدَيْنِهِ حتى يقضى عنه)).



لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَتْبِ
وَالْإِشْهَادِ وَأَخْذِ الرِّهَانِ كَانَ ذَلِكَ نَصًّا قَاطِعًا عَلَى
مُرَاعَاةِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَتَنْمِيَتِهَا، وَرَدًّا عَلَى الْجَهَلَةِ
الْمُتَصَوِّفَةِ وَرِعَاعِهَا الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ، فَيَخْرُجُونَ عَنْ
جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَتْرُكُونَ كِفَايَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَعِيَالِهِمْ،
ثُمَّ إِذَا احْتَاجَ وَافْتَقَرَ عِيَالُهُ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ
لِمِنَنِ الْإِخْوَانِ أَوْ لِصَدَقَاتِهِمْ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ
الدُّنْيَا وَظَلَمَتِهِمْ، وَهَذَا الْفِعْلُ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. قَالَ
أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: وَلَسْتُ أَعْجَبَ مِنَ الْمُتَزَهِّدِينَ
الَّذِينَ فَعَلُوا هَذَا مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِمْ، إِنَّمَا أَتَعَجَّبُ مِنْ
أَقْوَامٍ لَهُمْ عِلْمٌ وَعَقْلٌ كَيْفَ حَثُّوا عَلَى هَذَا، وَأَمَرُوا بِهِ
مَعَ مُضَادَّتِهِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. فَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيُّ فِي هَذَا
كَلَامًا كَثِيرًا، وَشَيَّدَهُ أَبُو حَامِدٍ الطُّوسِيُّ وَنَصَرَهُ. وسُمّيَ الْحَارِثُ
بالمحاسِبيِّ لِكَثرةِ مُحاسَبَتِه لنَفسِه. قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كَلَامٍ
طَوِيلٍ لَهُ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ قَالَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّمَا نَخَافُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيمَا تَرَكَ. فَقَالَ
كَعْبٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَمَا تَخَافُونَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ كَسَبَ
طَيِّبًا وَأَنْفَقَ طَيِّبًا وَتَرَكَ طَيِّبًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا ذَرٍّ
فَخَرَجَ مُغْضَبًا يُرِيدُ كَعْبًا، فَمَرَّ بِلِحَى بَعِيرٍ فَأَخَذَهُ
بِيَدِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَطْلُبُ كَعْبًا، فَقِيلَ لِكَعْبٍ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ
يَطْلُبُكَ. فخرج هاربًا حتّى
دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ يَسْتَغِيثُ بِهِ
وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَأَقْبَلَ أَبُو ذَرٍّ يَقُصُّ الْأَثَرَ فِي طَلَبِ
كَعْبٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ كَعْبٌ
فَجَلَسَ خَلْفَ عُثْمَانَ هَارِبًا مِنْ أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ:
يَا بْنَ الْيَهُودِيَّةِ، تَزْعُمُ أَلَّا بَأْسَ بِمَا تَرَكَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ! لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمًا فَقَالَ: ((الْأَكْثَرُونَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا
مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا)). قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: فَهَذَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ مَعَ فَضْلِهِ يُوقَفُ فِي عَرْصَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ مَا
كَسَبَهُ مِنْ حَلَالٍ، لِلتَّعَفُّفِ وَصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ فَيُمْنَعُ
السَّعْيَ إِلَى الْجَنَّةِ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَصَارَ يَحْبُو فِي آثَارِهِمْ
حَبْوًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ. ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الغزالي وَشَيَّدَهُ
وَقَوَّاهُ بِحَدِيثِ ثَعْلَبَةَ، وَأَنَّهُ أُعْطِيَ الْمَالَ فَمَنَعَ
الزَّكَاةَ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: فَمَنْ رَاقَبَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ وَأَقْوَالَهُمْ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ فَقْدَ الْمَالِ
أَفْضَلُ مِنْ وُجُودِهِ، وَإِنْ صُرِفَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، إِذْ أَقَلُّ مَا
فِيهِ اشْتِغَالُ الْهِمَّةِ بِإِصْلَاحِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. فَيَنْبَغِي
لِلْمُرِيدِ أَنْ يَخْرِجَ عَنْ مَالِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا قَدْرُ
ضَرُورَتِهِ، فَمَا بَقِيَ لَهُ دِرْهَمٌ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ فَهُوَ
مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْجَوْزِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ
الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَسُوءُ فَهْمِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ، وَقَدْ شَرَّفَهُ
اللَّهُ وَعَظَّمَ قَدْرَهُ وَأَمَرَ بِحِفْظِهِ، إِذْ جَعَلَهُ قِوَامًا
لِلْآدَمِيِّ وَمَا جُعِلَ قِوَامًا لِلْآدَمِيِّ الشَّرِيفِ فَهُوَ شَرِيفٌ،
فَقَالَ تَعَالَى: ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ قِياماً)). ونهى عزَّ وجلَّ أَنْ يُسَلَّمَ الْمَالُ إِلَى غَيْرِ رَشِيدٍ
فَقَالَ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ}.
وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ،
قَالَ لِسَعْدٍ: ((إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)). وَقَالَ: ((مَا نَفَعَنِي مَالٌ
كَمَالِ أَبِي بَكْرٍ)). وَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: ((نِعْمَ الْمَالُ
الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ)). وَدَعَا لِأَنَسٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ
دُعَائِهِ: ((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ)).
وَقَالَ كَعْبٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ
مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ
بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)). قَالَ الْجَوْزِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ
مُخَرَّجَةٌ فِي الصِّحَاحِ، وهي على خلاف
مَا
تَعْتَقِدُهُ الْمُتَصَوِّفَةُ مِنْ أَنَّ إِكْثَارَ الْمَالِ حِجَابٌ
وَعُقُوبَةٌ، وَأَنَّ حَبْسَهُ يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّهُ
يُخَافُ مِنْ فِتْنَتِهِ، وَأَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا اجْتَنَبُوهُ لِخَوْفِ ذَلِكَ،
وَأَنَّ جَمْعَهُ مِنْ وَجْهِهِ لَيَعِزُّ، وَأَنَّ سَلَامَةَ الْقَلْبِ مِنَ
الِافْتِتَانِ بِهِ تَقِلُّ، وَاشْتِغَالُ الْقَلْبِ مَعَ وُجُودِهِ بِذِكْرِ الْآخِرَةِ
يَنْدُرُ، فَلِهَذَا خِيفَ فِتْنَتُهُ. فَأَمَّا كَسْبُ الْمَالِ فَإِنَّ مَنِ
اقْتَصَرَ عَلَى كَسْبِ الْبُلْغَةِ من حلها فذلك أمرٌ لابدَّ مِنْهُ وَأَمَّا
مَنْ قَصَدَ جَمْعَهُ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ مِنَ الْحَلَالِ نُظِرَ فِي
مَقْصُودِهِ، فَإِنْ قَصَدَ نَفْسَ الْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ فَبِئْسَ
الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قَصَدَ إِعْفَافَ نَفْسِهِ وَعَائِلَتِهِ، وَادَّخَرَ
لِحَوَادِثِ زَمَانِهِ وَزَمَانِهِمْ، وَقَصَدَ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْإِخْوَانِ
وَإِغْنَاءَ الْفُقَرَاءِ وَفِعْلَ الْمَصَالِحِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ، وَكَانَ
جَمْعُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَقَدْ
كَانَتْ نِيَّاتُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمْعِ الْمَالِ سَلِيمَةً
لِحُسْنِ مَقَاصِدِهِمْ بِجَمْعِهِ، فَحَرَصُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوا زِيَادَتَهُ.
وَلَمَّا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ
حُضْرَ فَرَسِهِ أَجْرَى الْفَرَسَ حَتَّى قَامَ ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ، فَقَالَ:
((أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ سَوْطُهُ)). وَكَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَقُولُ فِي
دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ وَسِّعْ عَلَيَّ. وَقَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ:"وَنَزْدادُ
كَيْلَ بَعِيرٍ". وَقَالَ شُعَيْبٌ لِمُوسَى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً
فَمِنْ عِنْدِكَ}. وَإِنَّ أَيُّوبَ لَمَّا عُوفِيَ نُثِرَ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ
جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخَذَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ وَيَسْتَكْثِرُ مِنْهُ،
فَقِيلَ لَهُ: أَمَا شَبِعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ فَقِيرٌ يَشْبَعُ مِنْ
فَضْلِكَ؟. وَخَلَّفَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَخَلَّفَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مِائَتَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: الْمَالُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ سِلَاحٌ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَمْدَحُونَ الْمَالَ وَيَجْمَعُونَهُ
لِلنَّوَائِبِ وَإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ، وَإِنَّمَا تَحَامَاهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ
إِيثَارًا لِلتَّشَاغُلِ بِالْعِبَادَاتِ، وَجَمْعِ الْهَمِّ فَقَنَعُوا
بِالْيَسِيرِ. فَلَوْ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إِنَّ التَّقْلِيلَ مِنْهُ أَوْلَى
قَرُبَ الْأَمْرُ وَلَكِنَّهُ زَاحَمَ بِهِ مَرْتَبَةَ الْإِثْمِ. وَمِمَّا
يَدُلُّ عَلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَمُرَاعَاتِهَا إِبَاحَةُ الْقِتَالِ دُونَهَا
وَعَلَيْهَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ
مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)).



قوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} العامةُ على "كاتباً" اسمَ فاعل. وقرأ
أُبَيّ ومجاهد وأبو العالية: "كِتاباً"، وفيه وجهان، أحدهما: أنّه مصدرٌ
أي ذا كتابة. والثاني: أنّه جَمْع كاتبٍ، كصاحب وصِحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة
عن أُبَيّ وابن عباس فقط، وقال: "وقال ابن عباس : أرأيتَ إن وجدتَ الكاتبَ
ولم تَجِدْ الصحيفةَ والدَّواة » . وقرأ ابن عبّاسٍ والضحّاكُ: "كُتَّاباً"
على الجمع، اعتباراً بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: "كُتُباً"جمع
كتاب، اعتباراً بالنوازلِ، وقولُ ابنِ عبَّاسٍ: "أرأيتَ إنْ وجدتَ الكاتب .. الخ"
ترجِيحٌ للقراءةِ المرويَّةِ عنه واستبعادٌ لقراءةِ غيرِه "كاتباً"،
يعني أنّ المُرادَ الكتابُ لا الكاتبُ.



قولُه: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنَّه
مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي عن ذلك رُهُنٌ مقبوضةٌ. الثاني: أنّه مبتدأٌ
والخبرُ محذوفٌ أي: فرُهُنٌ مقبوضة تكفي. الثالث: أنّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه:
فالوثيقةُ أو فالقائمُ مقامُ ذلك رُهُنٌّ مقبوضةٌ.



وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : "فَرُهُنٌّ" بضم
الراء والهاء، والباقون "فَرِهَانٌ" بكسر الراء وألف بعد الهاء، رُوي عن
ابن كثير وأبي عَمْرٍو تسكينُ الهاءِ في رواية.



فأمَّا قراءةُ ابنِ كثيرٍ فجمعُ رَهْنٍ ، وفَعَلَ يُجْمَعُ
على فُعُلٍ نحو: سَقْف وسُقُف. وقالوا: إنَّ فُعُلاً جَمعُ فَعْلٍ قليلٌ، وقد أَوْرَدَ
منْه الأَخفشُ ألفاظاً منها: رَهْنٌ ورُهُنٌ، ولَحْدَ القَبْرَ ولُحُد، وقَلْبُ
النَّخْلَةِ وقُلُب، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفَرَسٌ وَرْدٌ وخيلٌ وُرُدٌ، وسهْمٌ
حَشْرٌ وسِهامٌ حُشُرٌ. وأنشد أبو عَمْرٍو حجةً لقراءتهِ قولَ قعنب:



بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ ....... وَغلَّقَتْ
عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ



وقال أبو عَمْرٍو: وإنَّما قَرَأت فَرُهُن للفصلِ بين
الرِّهانِ في الخيلِ وبين جمع "رَهْن" في غيرها. ومعنى هذا الكلام أنَّما
اخترتُ هذه القراءةَ على قراءة "رهان"، لأنّه لا يَجوزُ له أَنْ يفعلَ
ذلك كما ذَكَر دونَ اتِّباع روايةٍ.



واختار الزجاجِ قراءتَه هذه قال: وهذه القراءة وافَقَت
المُصحَفَ، وما وافقَ المُصحَفَ وصَحَّ معناهُ، وقَرَأتْ به القُرَّاءُ فهو
المختارُ. والرسمُ الكريمُ "فرهنٌ" دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزجّاجَ
يقول: إنَّ فُعُلاً جمعَ فَعْلٍ قليلٌ. وحُكي عن أبي عَمْرٍو أنَّه قال: "لا
أعرفُ الرِّهان إلّا في الخيلِ لا غير. وقال يونس: الرَّهْنُ والرِّهان عربيان،
والرُّهُنْ في الرَّهْنِ أكثرُ، والرِّهان في الخيلِ أكثرُ. وأنشدوا أيضاً على
رَهْن ورُهُن قولَه البيت:



آلَيْتُ لا نُعْطِيه من أَبْنائِنا ................
رُهُناً فيُفْسِدَهم كَرَهْنٍ أَفْسدا



وقيل: إنَّ رُهُنًا جمعُ رِهان، ورِهان جمعُ رَهْن، فهو
جَمْعُ الجمع، كما قالوا في ثِمار جمعَ ثَمَر، وثُمُر جَمعُ ثِمار، ولكنَّ جَمْعَ
الجمعِ غيرُ



مطرَّدٍ
عندَ سِيبَوَيْه وجماهيرِ أتباعه.



وأمَّا قراءةُ الباقين "رِهان" فرِهان جمعُ "رَهْن"
وفَعْل وفِعالٌ مُطَّرِدٌ كثيرٌ نحو: كَعْب وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، ومَنْ سَكَّن
ضمَّةَ الهاءِ في "رُهُن" فللتخفيفِ وهي لغةٌ، يقولون: سُقْف في سُقُف
جمعَ سَقْف.



والرَّهْنُ في الأصل مصدُرَ رَهَنْتُ، يقال:
رَهنْتُ زيداً ثوباً أَرْهَنُه رَهْناً أي: دفعتُه إليه رَهْناً عنده، قال:



يراهِنُني فَيَرْهَنُنِي
بَنِيه ........................... وأَرْهَنُه بَنِيَّ بما أَقولُ



وأرهنْتُ
زيداً ثوباً أي: دفعتُه إليه ليَرهنَه، فَفرَّقوا بينَ فَعَل وأَفْعَل. وعند
الفراء رَهَنْتُه وأَرْهَنْتُه بمعنى، واحتجَّ بقولِ همام السلولي:



فَلَمَّا خَشِيْتُ
أظافيرَهُمْ ....................... نَجَوْتُ وأَرْهَنْتُهُمْ مالِكا



وأنكر الأصمعيُّ هذه الروايةَ وقال: إنّما الروايةُ:
وأَرْهَنُهُم مالِكًا، والواوُ للحالِ كقولِهِم: "قَمْتُ وأُصِكُّ عينَه"
وهو على إضمارِ مبتدأ.



وقيل: أرْهْنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتى أَخَذَها
بكثيرِ الثمنِ ومنه قولُه:



يَطْوي ابنُ سلمى بها من راكبٍ بَعُداً ......
عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فيها الدَّنانيرُ



ويقال: رَهَنْتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه "أَرْهَنْتُ".
ثم أُطْلق الرَّهْنُ على المرهونِ من بابِ إطلاقِ المصدرِ على اسمِ المفعول نحو
قولِه تعالى: {هذا خَلْقُ الله} لقمان: 11، و"درهَمٌ ضَرْبُ الأمير"،
فإذا قلت: "رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً" فرَهْناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا
قلت رهنْتُ زيداً رَهْناً فهو هنا مفعولٌ به لأنَّ المُرادَ به المرهونُ، ويُحتمل
أن يكونَ هنا "رَهْناً" مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يَذْكرِ المفعولَ
الثانيَ اقتصاراً كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} الضحى: 4.



و"رَهْن" مِمَّا استُغْنى فيه بجمعِ كثرتِه عن
جمعِ قلَّته، وذلك أنَّ قياسَه في القلةِ أَفْعُل كفَلْس وأفلُس، فاستُغْنِيَ
برَهْن ورِهان عن أَرْهُن. وأصلُ الرَّهْنِ: الثبوتُ والاستقرارُ ، يقال: رَهَنَ
الشيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقرَّ، ونِعمةٌ راهِنةٌ أي دائمةٌ ثابتةٌ. وأنشد ابن
السكّيت:



لا يَسْتَفيقون منها
وَهْي راهِنةٌ ........... إلا بهاتِ وإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلوا



ويقال: "طعامٌ راهنٌ" أي: مقيمٌ
دائمٌ، قال:



الخبزُ واللحمُ لهم
راهِن ....................... ونَهْرَةٌ راوُوقُها ساكِبُ



أي:
دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ "رَهْناً" لدوامِهِ واستقرِارِهِ
عند المُرْتَهِنِ.



وقوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنَّها
عطفٌ على فعلِ الشرطِ أي: "وإنْ كنتم ولم تَجِدوا" فتكونُ في محلِّ جزمٍ
لعطفِها على ما هو مجزومٌ تقديراً. والثاني: أن تكونَ معطوفةٌ على خبرِ كان، أي:
وإنْ كنتم لم تَجِدُوا كاتباً. والثالث: أَنْ تكونَ الواوُ للحال، والجملةُ بعدَها
نصبٌ على الحالِ فهي على هذين الوجهيْن الأخيريْن في محلِّ نَصبٍ.



قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبَيّ "أُومِنَ" مبنيّاً
للمفعول. أي أَمِنَه الناسُ ووصفوا المَدْيونَ بالأمانةِ والوفاء. والظاهرُ نصبُه
بإسقاط الخافضِ على



[font:754f=&qu
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 283
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: