وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا
(25)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ ـ تًعًالى في الآيةِ: (22) السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُبَارَكَةِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}. وَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الْآيَةَ: (210)، وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ القِيامَةِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تَفسيرِهِ: (8/2682)، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَيَجوزُ أَنْ يُرَادَ بِـ "تَشَقَّقُ" الْآتي مُسْتَقْبَلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِحَالٍ تَكُونُ، كَمَا هُوَ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيةَ: (2). وكذلكَ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} الآيَةَ: (18) فَهُوَ حِكَايَةُ حَالٍ قَدْ مَضَتْ. انْظُرْ: كتابَ "الْحُجَّةُ لِلْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ" لِأَبي عَلِيٍّ الفارسيِّ: (5/341).
وَمَعْنَى: "تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ" تَشَقَّقُ السَّمَاءُ وَعَلَيْهَا غَمَامٌ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الِانْشقاقِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} الآيَةَ:(1)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدِّهَانِ} الآيَةَ: (37). "الْحُجَّةُ لِلْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ" لِأَبي عَلِيٍّ الفارسِيِّ: (5/341). وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ؛ قَالُوا: وَمَعْنَى "بِالْغَمَامِ": عَنِ الْغَمَامِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ في تَفسيرِهِ: (6/19)، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَذّكَرَهُ مُقَاتِلٌ في تَفْسيرِهِ: (ص: 44 ب). وَوَردَ في "تَنْويرُ الْمِقْباسِ مِنْ تَفسيرِ ابْنِ عبَّاسٍ: (ص: 302). وَبِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في "غَريبِ الْقُرْآنِ" لَهُ: (312). والهوَّارِيُّ في تَفْسيرِهِ: (3/207)، ثُمَّ قَالَ: هَذَا بَعْدَ الْبَعْثِ، تَشَقَّقُ فَتَرَاهَا وَاهِيَةً مُتَشَقِّقَةً، كَقَوْلِه ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النَّبَأِ: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} الآيَةَ: (19).
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ ـ فِيمَا ذَكَرُوا: تَشَقَّقُ السَّمَاءُ عَنِ الْغَمَامِ. وَ "عَلَى"، وَ "عَنْ"، وَ "البَاء"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: رَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ، وَبِالْقَوْسِ، وَعَلَى الْقَوْسِ. يُرَادُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدٌ. "مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْرابُهُ" لَلإِمَامِ الْفَرَّاءِ ـ رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (2/267).
قالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ غَمَامٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ مِثْلُ الضَّبَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا لِبَني إِسْرَائيلَ فِي تِيهِهِمْ، فَتَنْشَقُّ السَّمَاءُ عَنْهُ لِنُزُولِ الرَّبِّ (بِلَا كَيْف) وَمَلَائِكَتِهِ. "تَنْويرُ الْمِقْبَاسِ مِنْ تَفْسيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ": (ص: 302). و "تَفْسيرُ مُقَاتِلِ ابْنِ سُلَيْمانَ": (ص: 44 ب). وأَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ: (6/19)، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ: (8/2682)، عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قالَ أِبو حَيَّانَ الْأَنْدَلُسيُّ" في تَفْسِيرِهِ "البَحْرُ المُحيطُ": (6/453): والظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْغَمَامَ، هُوَ: السَّحَابُ الْمَعْهُودُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هَاهُنَا: السَّمَوَاتُ السَّبْعُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ. انْظُرْ تَفْسيرَ مُقَاتِلٍ: (ص: 44 ب).
وَقالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ؛ فَقَالَ: الْمَعْنَى: تَتَشَقَّقُ سَمَاءً سَمَاءً. انْظُرْ "مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْرابُهُ" لَهُ: (4/64).
قولُهُ: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي الْأَهْوَالِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَالْحَاكِمُ النَّيْسابوريُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَرَأَ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ، وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}، قَالَ: يَجْمَعُ اللهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ، وَالْبَهَائِمَ، وَالسِّبَاعَ، وَالطَّيْرَ، وَجَمِيعَ الْخَلْقَ، فَتَشَقَّقُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا، فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّن فِي الأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيُحِيطُونَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَجَمِيعِ الْخلْقِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْأَرْضِ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا.
ثُمَّ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ، فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَجَمِيعِ الْخَلْقِ فَيُحيطونَ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذينَ نَزَلُوا قَبْلَهُمْ، وَالْجِنِّ وِالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ.
ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَيُحِيطُونَ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذينَ نَزَلُوا قَبْلَهُمْ، وَالْجِنِّ والإِنْسِ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ.
ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الثَّالِثَةِ وَالثَّانِيَةِ وَالْأُولَى وَأَهْلِ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَهْلُ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَهْلُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي ظُلَلِ مِنَ الْغَمَامِ وَحَوْلَهُ الْكَروبِيُّونَ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعِ الْخَلْقِ، لَهُمْ قُرُونٌ كَكُعُوبِ الْقَنَا، وَهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لَهُم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ وَالتَّحْميدِ وَالتَّقْدِيسِ للهِ ـ تَعَالَى، وَمِنْ أَخْمَصِ قَدَمِ أَحَدِهِمْ إِلَى كَعْبِهِ مَسيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَمِنْ كَعْبِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ خَمْسُمِئَةِ عَامٍ، وَمِنْ رُكْبَتِهِ إِلَى فَخِذِهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَمِنْ فَخِذِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ مَسيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ، وَمِنْ تَرْقُوَتِهِ إِلَى مَوْضِعِ الْقُرْطِ مَسيرَةُ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ خَمْسُمِئَة عَامٍ. انْظُرْ: "تَفْسيرُ مُجاهِدٍ": (2/450)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وأخرجه ابن جرير 19/ 6. وابن أبي حاتم 8/ 2682، أيضًا.
وَالكَرُوبِيُّونَ: هُمْ سَادَةُ الْمَلَائِكَةِ، الْمُقَرَّبُونَ، وهُمْ حَمَلَةُ العرشِ. انظُرْ "النِّهايَة فِي غَريبِ الْحَديثِ والْأَثَرِ لابْنِ الْأَثِيرِ: (4/161)، وَ "لِسَانِ الْعَرَبِ": (1/714)، و "القامُوسُ الْمُحِيطُ" (ص: 167).
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا": مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ تَشَقُّقِهَا لِحِسَابِ الثَّقَلَيْنِ. انْظُرْ "تَفْسير مُقَاتِل": (ص: 44 ب).
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي نُزُولِهِمْ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لِيُبَشِّروا الْمُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ، وَالكافِرَ بِالنَّارِ.
وَالثَّاني: لِيَكونَ مَعَ كُلِّ نَفْسٍ سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. تفسير الماورديِّ "النُّكَتُ والعُيونُ": (4/142). وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، وَ "يَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، وَالتَّقْديرُ: اذْكُرْ يَوْمَ، وهُوَ مُضافٌ. وَالْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرابِ.
قولُهُ: {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} تَشَقَّقُ: فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَأَصْلُهُ "تَتَشَقَّقُ" فَحَذَفَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ التَّاءَ تَسْهيلًا لعدَمِ تَكْرارِ التَّاءِ، وَأَدْغَمَهَا بَعْضُهُمْ في الشِّينِ فَقَرَأَ "تَشَّقَّقُ"، وَ "السَّمَاءُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَ "بالْغَمَامِ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: أَنَّها تَتَشَقَّقُ بِسَبَبِ طُلُوعِهِ مِنْهَا فَتَتَعَلَّقُ بِـ "تَشَقَّقُ"، وَيَجوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُلَابَسَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِحَالٍ مِنَ الْفاعِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى "عَنْ" أَيْ: تَتَشَقَّقُ السَّماءُ عَنِ الْغَمَامِ، كَما في قولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ (ق): {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} الآيةَ: (44) فَتَتَعَلَّقُ بِـ "تَتَشَقَّقُ"، أَيْضًا. لِـ "يَوْمَ".
قولُهُ: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} الْوَاوُ: للعَطْفِ، و "نُزِّلَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٍّ للمَجهولِ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَتْحِ. وَ "الْمَلَائِكَةُ" مَرْفوعٌ بالنِّيابَةِ عَنْ فاعِلِهِ. و "تَنْزِيلًا" مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٍ بِـ "نُزِّلَ". وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بالْإِضافَةِ إِلَيْهِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "تَشَقَّقُ".
قَرَأَ العامَّةُ: {تَشَّقَّقُ} بِتَشْديدِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِهَا فَأَدْغَمُوا تَاءَ التَفَعُّلِ فِي الشِّينِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُقَارَبَةِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَالأَخوانِ (حَمْزَة وَالكِسائيُّ) بِتَخْفيفِها. انْظُر "الحجةُ للقُرَّاءِ السَّبْعَةِ" لِأَبي علِيٍّ الفارسِيِّ: (464). وَ "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للفَرَّاءِ: (2/267). وَ "مَعاني الْقِراءَاتِ: لِلْأَزْهَرِيِّ: (2/215). وَ "الْمَبْسُوطُ في الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ" للنَّيسابوريِّ: (ص: 271).
قَرَأَ الْجُمْهورُ: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} نُزِّلَ: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ، على أَنَّهُ فِعلٌ مَضِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجهُولِ، وَ "الْمَلَائِكَةُ" بِالرَّفْعِ لِنِيَابَتِهِ عَنْ فَاعِلِهِ. وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَصْدَرِهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (مِنَ السَّبْعَةِ): "ونُنْزِلُ" بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ أُخْرَى سَاكِنَةٍ وَزَايٍ خَفِيفَةٍ مَكْسُورَةٍ مُضَارِعَ "أَنْزَلَ"، وَ "الْمَلائِكَةَ" بِالنَّصْبِ مَفُعُولٌ بِهِ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمَصْدَرِ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى إِنْزالٍ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ (الفارسِيُّ): "لَمَّا كانَ أَنْزَلَ وَنَزَّلَ يَجْرِيَانِ مَجْرَىً وَاحِدًا، أَجْرَى مَصْدَرَ أَحَدِهِمَا عَلَى مَصْدَرِ الْآخَرِ: وَأَنْشَدَ (لِرُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ):
(عَنْ مَتْنِهِ مَرْدَاةُ كُلِّ صَعْبٍ) ................ وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الْحِضْبِ
لِأَنَّ تَطَوَّيْتُ وَانْطَوَيْتُ بِمَعْنًى. وَالْحِضْبُ: بِالْكَسْرِ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَقِيلَ: هُوَ الذَّكَرُ الضَّخْمُ مِنْهَا.
وِمِثْلُ هَذا قَوْلُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْمُزَّمِلِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} الآيَةَ: (، أَيْ: تَبَتُّلًا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو رَجَاءٍ النَّقَّاشُ "وَنَزَّلَ" بِالتَّشْديدِ فعلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا للْفَاعِلِ، وَهُوَ اللهُ ـ تَعَالَى، وَ "الْمَلَائِكَةَ" مَفْعُولٌ بِهِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قرَأَ أَيْضًا "وَأَنْزَلَ" مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فقَدْ عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ مَرَّةً، وَبِالْهَمْزَةِ أُخْرَى. وَالِاعْتِذَارُ عَنْ مَجيءِ مَصْدَرِهِ عَلَى التَّفْعِيلِ كَالِاعْتِذَارِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ "وَأُنْزِلَ" مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ.
وَقَرَأَ هَارُونُ عَنْ أَبي عَمْرٍو بْنِ العلاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَتُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةُ" بِالْتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَتَشْديدِ الزَّايِ، وَرَفْعِ اللَّامِ فِعْلًا مُضَارِعًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَ "الْمَلائِكَةُ" بِالرَّفْعِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذوفٌ بحَسَبِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَيْ: وَتُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةُ مَا أُمِرَتْ أَنْ تُنَزِّلَه.
وَقَرَأَ الْخَفَّاف، وَجَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْهُ "وَنَزَلَ" مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ و "الْمَلَائِكَةُ" بِالرَّفْعِ. وَخَارِجَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا وَأَبُو مُعَاذٍ "وَنُزِّلَ" بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْديدِ الزَّايِ وَنَصْبِ "الْمَلَائِكَةَ". وَالْأَصْلُ: وَنُنَزِّلُ بِنُونَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُما.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِير فِي رِوَايَةٍ عَنْهُما بِهَذَا الْأَصْلِ "وَنُنَزِّلُ" بِنُونَيْنِ وَتَشْديدِ الزَّايِ.
وَقَرَأَ أُبَيُّ "وَنُزِّلَتْ" بِالتَّشْديدِ مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ. وَ "تَنَزَّلَتْ" بِزِيادَةِ تَاءٍ فِي أَوَّلِهِ، وَتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي طَريقَةِ الخَفَّافِ عَنْهُ "وَنُزِلَ" بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ خَفِيفَةَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ صَحَّتِ الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهُ حُذِفَ مِنْهَا الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، والتَّقْديرُ: وَنُزِلَ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ، فَحُذِفَ النُّزُولُ، وَنُقِلَ إِعْرَابُهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ. بِمَعْنَى: نُزِلَ نَازِلُ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ بِمَعْنَى الِاسْمِ. وَهَذَا مِمَّا يَجِيءُّ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي تَرْتِيبِ بِنَاءِ اللَّازِمِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرِهِ، وَهَذَا تَمَحُّلٌ كَثيرٌ دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةُ الصِّنَاعَةِ. وَقَالَ ابْن جِنّي: (وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ لِأَنَّ "نَزَلَ" لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ فَيُبْنَى هُنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَوَجْهُهُ: أَنْ يَكونَ مِثْلَ: زُكِمَ الرَّجُلُ وَجُنَّ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِلَّا: أَزْكَمَهُ وَأَجَنَّهُ اللهُ، وَهَذَا بَابُ سَمَاعٍ لَا قِيَاسٍ).
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقِراءَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي الآية: (105)، مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {فَلاَ يَقُومُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا} بِنَصْبِ وَزْنًا، مِنْ حَيْثُ تَعْدِيَةُ الْقَاصِرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهَا.
وَبِذَلِكَ يكونُ قَدْ تَحَصَّلَ لَدَيْنَا اثْنَتَا عَشْرَةَ قِرَاءَةً: ثِنْتَانِ منها فِي الْمُتَواتِرِ، وَالْبَاقي شَاذٌّ. قالَ السَّمينُ الْحَلَبِيُّ في تفسيرِهِ: "الدُّرُّ الْمَصُونُ فِي عُلُومِ الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ": (8/476 ـ 477): فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ قِرَاءَةً: ثِنْتَانِ فِي الْمُتَواتِرِ، وَعَشْرٌ فِي الشَّاذِّ.
وَانْظُرْ: "الحُجَّةُ للقُرَّاءِ السَّبْعَةِ" لِأَبِي عَلِيٍّ الفارسيِّ: (464). وَ "مَعَاني الْقِرَاءَاتِ" لِلْأَزْهَريّ: (2/216). وَ "الْمَبْسُوطُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ" لِأَبي بَكْرِ بْنِ مهْرَانَ الْأَصْبَهَانيِّ: (صَ: 271). وَ "التَّبْصِرَةُ" لِأَبِي مُحَمَّدٍ مَكِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ الْقَيْسِيِّ: (ص: 613). وَكتاب "النَّشْرُ والتَّقريبُ"، للجُزَريِّ: (2/334).