قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا
(15)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} الخِطابُ بِـ "قُلْ" مَا زَالَ مُتوجَّهًا بِهِ إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، والِاسْتفهامُ بِـ "أَذَلِكَ" اسْتِفْهَامٌ تَوْقِيفِيٌّ َّتَوْبِيخِيٌّ. وَالإِشارةُ فيه إِلَى النَّارِ، وَمَا يَلْقَاهُ فيها الْكَفَّارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وألْوانِهِ الَّذي تحَدَّثَتْ عنْهُ الآياتُ السَّابقةُ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الْمُباركةِ، حيثُ قالَ ـ تعالى في الآيةِ: (11) السَّابقةِ: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}، وَهَكَذا تحَدَّثتِ الآياتُ بَعْدَهَا عنْ وَصْفِ السَّعيرِ وَأَحْوالِ أَهْلِها فِيهَا إِلَى أَنْ قَالَ في الْآيَةِ: (14): {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}.
وَ "خَيْرٌ" هُنَا لَيْسَتْ للدَّلالةِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وإِنَّما لِبَيَانِ فَضْلِ الشَّيْءِ، وَخُصُوصِيَّتِهِ بِالْفَضْلِ كَقَوْلِهِ سَيِّدِنا يوسُفَ عليْهِ السَّلامُ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} الآيةَ: (32) مِنْ سورةِ يوسُفَ، وَهُوَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ بِدِكْرِ الشَّيْءِ المُفَضَّلِ دُونَ ذِكْرِ ما يُقَابِلُهُ، حِينَ قَالُوا: "الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ السَّعَادَةُ؟"، وَكَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثابِتٍ الأَنْصاريُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، مُنَافِحًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، مُخَاطِبًا أَبَا سُفيانَ بْنَ الحارثِ، لَمَّا هَجَا النَّبِيَّ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:
أَتَهْجوهُ ولَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ........................... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
فَعَذَابُ النَّارِ شَرٌّ مَحْضٌ لَا خَيْرَ فيهِ الْبَتَّةَ. فإنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ شِدَّةَ عَذَابِ النَّارِ
وَفَظَاعَتَهُ قَالَ: أَذَلِكَ الْعَذَابُ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ. وَقدْ جاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آياتٍ كثيرةٍ مِنَ هَذا الكتابِ الكَريمِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، فِي الآياتِ: (62 ـ 68)، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ}. وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ فُصِّلتْ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيةَ: (40).
وَالْمَعْرُوفُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْمُفَضَّلِ وَالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِيمَا فِيهِ التَّفْضِيلُ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَكْثَرُ فِيهِ وَأَفْضَلُ مِنَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ الَّذِي هُوَ عَذَابُ النَّارِ، لَا خَيْرَ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي الُغَةِ العربِ وَيُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الِاتِّصَافِ، لَا تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ.
وَمِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ في التَّعبيرِ إِذَا أَرَادُوا تَخْصِيصَ شَيْءٍ بِالْفَضِيلَةِ، دُونَ غَيْرِهِ جَاءُوا بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، يُرِيدُونَ بِهَا خُصُوصَ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِالْفَضْلِ.
قَوْلُهُ: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الْعَائِدُ هُنَا مَحْذُوفٌ تقديرُهُ: وُعِدَهَا الْمُتَّقُونَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ الصَّادِقَ بِالْجَنَّةِ، يَحْصُلُ بِسَبَبِ التَّقْوَى. وثمَّةَ في القرآنِ الكريمِ عددٌ مِنَ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ كقولِهِ ـ تعالى، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} الآيةَ: (31).
فَقَوْلُهُ هُنَا: "لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ" عَائِدُهُ مَحْذُوفٌ أَيْضًا، كَالَّذِي قَبْلَهُ: أَيْ
مَا يَشَاءُونَهُ، وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ أَوِ الْوَصْفِ كَثِيرٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَجِدُونَ كُلَّ مَا يَشَاءُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ.
قولُهُ: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ ـ رَحِمَهُما اللهُ تَعَالى، في تفسيرِهِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهٌ، أنَّهُ قالَ فِي تفسيرِ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "كَانَت لَهُم جَزَاء" قالَ: أَيْ مِنَ اللهِ، وَ "مَصِيرًا" قالَ: أَيْ مَنْزِلًا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ} فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ الظاهِرِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ} أَذَلِكَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْريعِيِّ التَّهَكُّمِيِّ. و "ذلك" ذا: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالِابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "خيرٌ" خًبَرُ المُبْتَدَأِ مَرفوعٌ. وهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتي} أَمْ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "جَنَّةُ" مَعْطُوفٌ عَلَى المُبْتَدَأِ مِنْ "ذَلِكَ" مَرْفُوعٌ مِثْلُهُ، وهوَ مُضافٌ. وَ "الْخُلْدِ" مَجْرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَ "الَّتِي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبِنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "جَنَّةُ الْخُلْدِ". وهذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مغطوفةٌ على الجُمْلةِ الَّتي قَبْلَهَا على كونِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قوْلُهُ: {وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وُعِدَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ. وَ "الْمُتَّقُونَ" مرفوعٌ بالنِّيابَةِ عَنْ فَاعِلِهِ، وعلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لِأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صَلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولَ لا محَلَّ لها مِنَ
الإِعْرابِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: وُعِدَهَا الْمُتَّقُونَ.
قوْلُهُ: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} كان: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ، و "ت" للتَأْنيثِ. وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهَا جَوازًا تَقْديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلَى الْجَنَّةِ. وَ "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِقٌ بِحَالٍ مِنْ "جَزَاءً"؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، وَ "هُمْ" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "جَزَاءً" خَبَرُ "كَانَ" مَنْصوبٌ بِهَا. وَ "وَمَصِيرًا" الواوُ: للعَطْفِ، و "مَصيرًا" مَعْطُوفٌ عَلَى "جَزَاءً" مَنْصوبٌ مِثْلُهُ. وَجُمْلَةُ "كَانَتْ" مَعَ اسْمِها وخَبَرِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "جَنَّةُ الْخُلْدِ".