الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم
نأليف: عبد القادر الأسود
الجزء: 18
المُجَلَّد: 36
سورةُ الفُرقانِ
(25)
المقدِّمةُ
هِيَ سَبْعٌ وسَبْعُونَ آيةً، وَثَمَانُمِئَةٌ وَاثْنَتَانِ وَتِسْعُونَ كَلِمَةً، وَثَلاثَةُ آلافٍ وَسَبْعُمِئَةٍ وَثَلاثَةٌ وَثَلاثُونَ حَرْفًا.
وَالجُهورُ عَلى أَنَّها مَكِيَّةٌ كُلُّها، وَحَكَى الْبُقاعِيُّ الْإِجْماعَ عَلَى مَكِّيَّتِها. وَجاءَ فِي صَحِيحِ الإِمامِ الْبُخَارِيِّ: عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الآيةَ: (68)، مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. فَقَالَ سَعِيدٌ: قَرَأْتَهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ؟ فَقَالَ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ، الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. يُرِيدُ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآيةً: (93). صَحِيحُ الْبُخارِيِّ: (برقم: 4762)، وَفَتْحُ البَارِي شرح صحيح الْبُخاري: (8/493). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الإِمامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (4/2318)، كِتَابُ التَّفْسيرِ: (برقم: 3023).
وَأَخْرَجَ ابْنُ الضِّريسِ، وَأَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "دَلَائِلُ النُّبوَّةِ" مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفُرْقَانِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الزَّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفُرْقَانِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ـ لاضِيَ اللهُ عنْهُ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاة رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْرَأَنيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِهِشَامٍ: ((اقْرَأْ)). فَقَرَأَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ))، ثُمَّ قَالَ: ((اقْرَأ يَا عُمَرُ)). فَقَرَأْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ ـ رحِمَهُمُ اللهُ ـ تَعَالى: مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ـ كِتَابُ القُرْآنِ، بابُ: مَا جَاءَ فِي القُرآنِ: (1/178 ـ 179)، وَأَحْمَدُ في المُسْنَدِ: (1/40، برقم: 277)، والْبُخارِيُّ في صحيحِهِ: (4/1909، برقم: 4706)، وَمُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (1/560، برقم: 818)، وَأَبُو دَاوُدَ: (2/75، بِرقم: 1475)، وَالتِّرْمِذِيُّ: (5/193، بِرقم: 2943)، وَقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والنَّسَائِيُّ: (2/150، برقم: 937)، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ فِي الجامِعِ: (11/218، بِرقم: 20369)، وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ: (3/16، بِرقم: 41)، وأَبو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (2/412، بِرقم: 1851)، والْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإِيمانِ": (2/419، بِرقم: 2267).
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي "الْمَصَاحِف" عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى الصُّبْحَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فَأَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: ((هَلْ فِي الْقَوْمِ أُبيٌّ؟))، فَقَالَ أُبَيٌّ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: ((أَلَمْ أُسْقِطْ آيَةً)). قَالَ: بَلَى. قَالَ: ((فَلِمَ لَمْ تَفْتَحْهَا عَليّ؟)). قَالَ: حَسِبْتُهَا آيَةً نُسِخَتْ. قَالَ: ((لَا. وَلَكِنِّي أَسْقَطتُّهَا)).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الْفرْقَان: (68 ـ 70).
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا نُشُورًا}. الآيةَ: (3) مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّها كُلَّها مَكِيَّةٌ بِمَا فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ، وَاللهُ أَعْلَمَ، لِأَنَّ الثابِتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يُخَالِفُ هَذَا ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا. فالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكْيَّةٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِهَذا الْحديِث شَاهِدٌ فِي "تَفْسيرِ مُقاتِلٍ"، وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسيرِ. "دَلائِلُ النُّبُوَّةِ" (7/144). وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزيِّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ البَصْريُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ فِي آخَرينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ أجمعينَ: هِيَ مَكِيَّةٌ. "زَادُ الْمَسيرِ": (6/71). وَأُسْلُوبُ السُّورَةِ وَأَغْرَاضُهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وقدْ وَرَدَ في فضْلِ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُؤْمِنُ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ)). أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسيرِهِ: "الْوَسِيطُ": (3/333)، وَالْحَديثُ فِي تَفْسيرِ الثَّعْلَبِيِّ أَيْضًا: (8/91 ب). وَقدْ حَكَمَ عَلَيْهِ الإمامُ الزَّيْلَعِيُّ بالوضع، في تَخْريجِهِ لِأَحاديثِ "الْكَشَّافِ" للإمامِ الزمخشَريِّ: (2/469)، وَالإمامُ الْمَنَاوِيُّ فِي "الْفَتْحُ السَّمَاوِيُّ فِي تَخْريجِ أَحَادِيثِ الْبَيْضَاوِيِّ": (2/885). واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورةِ الكريمةِ لِمَا قَبْلَهَا: مَا فِي خَاتِمَتِ الأُولى مِنْ تَعْظيمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا افْتُتِحَتْ بِهِ الثانيَةُ مِنْ تَعْظِيمِهِ أَيْضًا بِكَونِهِ نَذيرًا للعالَمِينَ. كما نَاسَبَ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى هنا فِى هَذِهِ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، قَوْلَهُ هناكَ: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وقد سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بهَذا الاسْمِ "الْفُرْقَانِ" فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَسْمَعٍ مِنْهُ. لما جاءَ فِي حَديثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ المُتقدَّمِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُهُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بـ "سُورَةُ الْفُرْقَانِ" وُقُوعُ لَفْظِ الْفُرْقَانِ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يس وَقَبْلَ سُورَةِ فاطر.