وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ
( قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ: وَمَا جَعَلْنَا المُرْسَلينَ السَّابِقِينَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَخْلوقاتٍ نُورَانِيَّةً لَطِيفَةً كَالْمَلَائِكَةِ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ.
وَقِيلَ المَعْنَى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ أَجْرَامًا غَيْرَ مُنْبَثَّةٍ فِيهَا الْأَرْوَاحُ بِحَيْثُ تَنْتَفِي عَنْهُمْ صِفَاتُ الْبَشَرِ الَّتِي خَاصَّتُهَا أَكْلُ الطَّعَامِ، وَإِنَّمَا جَعْلَنَاهُمْ أَجْسَادًا مِثْلَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَا جَعَلْناهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ" يَقُولُ: لَمْ نَجْعَلْهُمْ جَسَدًا لَيْسَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.
وَقِيلَ: الْجَسَدُ هُوَ الْجِسْمُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْجُثَّةَ. كما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ طهَ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا} الآيةَ: 88. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ (ص): {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} الآية: 34. فَقِيلَ هُوَ شِقُّ غُلَامٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ، أَلقاهُ اللهُ عَلَى كُرْسِيِّ نَبيِّهِ سُليمانَ ـ علَيْهِ السَّلامُ. وَالمُشركونَ لَمَّا سَأَلُوا سيِّدَنا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، أَنْ يَأْتِيَهم بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ، كَانَ مُقْتَضَى أَقْوَالِهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا فِي صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ، إنَّما كانُوا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ. فَرَدَّ اللهُ عليهِمْ ذَلِكَ، وأَنَّ المُرْسَلِينَ الأوَّلينَ كانوا جميعًا يأْكلونَ ويشْرَبونَ، لأَنَّ أَكْلَ الطَّعَامِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَزِمَهُمْ لَمَّا قَالُوا: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ بِأَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَادًا بِلَا أَرْوَاحٍ، وَهَذَا مِنَ سَخَافَاتِ فِكْرِهِمُ العَقِيمِ.
وَفي اللُّغَةِ: "جَسَدًا" مِنَ الجَسَدِ الذي هُوَ البَدَنُ، فَتَقُولُ مِنْهُ: تَجَسَّدَ، كَمَا تَقُولُ مِنَ الجَسْمِ: تَجَسَّمَ. وَالجَسَدُ: مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ جَسِدَ بِهِ الدَّمُ يَجْسَدُ، إِذَا لَصِقَ بِهِ، مِنْ بابِ "فَرِحَ"، فَهُوَ جَاسِدٌ وَجَسِدٌ. وَالجَسَدُ أَيْضًا: الدَّمُ. قَالَ النَّابِغَةُ الذُبيانيُّ:
فَلا لَعَمْرُ الَّذي مَسَّحْتُ كَعْبَتَهُ ...... وَمَا هُرِيقُ عَلَى الأَنْصابِ مِنْ جَسَدِ
وَالجَسَدُ أَيْضًا: الزَّعْفَرَانُ وَنَحْوهُ مِنَ الصِبْغِ، والمُجْسِدُ: هوَ الأَحْمَرُ لونُهُ. وَالمُجْسَدُ: مَا أُشْبِعَ صَبْغُهُ مِنَ الثِّيابِ؛ والمِجْسَدُ: مَا يَلِي مَنْ أُجْسِدَ، أَيْ أُلْصِقَ بِالجَسَدِ، فَقِيلَ: أُطْلِقَ عَلَى الجِسْمِ جَسَدٌ لِالْتِصَاقِ أَجْزائِهِ بَعْضُها بِبَعْضٍ، وَيُطْلَقُ الجَسَدُ عَلَى الوَاحَدِ المَذَكَّرِ كما يُطلقُ على غَيْرِ المُفردِ وَلِذَلِكَ أُفْرِدَ هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ قَدْ أُفْرِدَ لِإِرَادَةِ الجِنْسِ.
قالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: "جَسَدًا" هُوَ وَاحِدٌ يُنْبِئُ عَنْ جَمَاعَةٍ، أَيْ: وَمَا جَعَلْناهُمْ ذَوِي أَجْسادٍ لا يَأْكلونَ الطَّعامَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} الآيةَ: 7، مِنْ سُورةِ (الفُرْقان)، فَأُعْلِمُوا أَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ ـ عليْهِمُ السَّلامُ، يِأْكُلونَ الطَّعَامَ. "مَعَاني القَرْآنِ وَإِعْرابُهُ" لَهُ: (3/385).
وقالَ الفَرَّاءُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ المَصْدَرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالَ: شَيْءٌ مُجَسَّدٌ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ. "مَعَانِي القُرْآنِ" لهُ: (2/199). فَالأَنْبِيَاءُ والمُرسَلونَ ـ عَلَيْهِمْ سَلامُ اللهِ وصلواتُهُ، هُمْ جَسَدٌ كَبَاقِي البَشرِ يَحْيَوْنَ وَيَمُوتُونَ، وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَتَزَوَّجُونَ وَيَتَنَاسَلُونَ، وَيَسْعَوْنَ ويَهْجَعونَ، ويَعْتَريهِمْ كلُّ مَا يَعْتَرِي البَشَرَ مِنْ حُبٍّ وكُرهٍ، وَبَهْجَةٍ وَفَرَحٍ وَسُرورٍ، ونشاطٍ وَخُمُولٍ، وَرِضَى وَغَضَبٍ، ورَغبَةٍ وَمَقْتٍ وَحُزْنٍ، ورهبةٍ وخوفٍ، وإِقبالٍ وَإِعْرَاضٍ، وَنَوْمٍ وَيَقَظَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَري الخَلَقَ وَيشعرُ ِبِهِ البَشَرُ ويُحِسُّونَهُ.
قولُهُ: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ لِتَحْقِيقِ بَشَرِيَّةِ المُرْسَلِينَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقد أُتِيَ فِي نَفْيِ الْخُلُودِ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ "مَا كانُوا" تَحْقِيقًا لِتَمَكُّنِ عَدَمِ الخُلودِ مِنْهُم. أَيْ: أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ كَمَا يَمُوتُ سائرُ البَشَرِ، وَمَا هُمْ بِخَالِدينَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ، كَمَا قالَ تَعَالَى مُخاطِبًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الآيةَ: 30، منْ سُورَةِ الزُّمَر.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا كَانُوا خَالِدينَ" قَالَ: لَا بُدَّ لَهُم مِنَ الْمَوْتِ أَنْ يَمُوتُوا.
وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ تعالى لَهُمْ في هَذِهِ الحياةِ الدُّنيا أَعْمارًا مُحَدَّدَةً، وآجالًا مُؤَجَّلةً لا تَقْديمَ فيها ولا تَأْخِيرَ، ثُمَّ لَهُمْ حَيَاتُهُمُ البَرْزَخِيَّةُ الخَاصَّةُ عِنْدَهُ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِيمُ.
وَقَدْ جاءتْ هَذِهِ الآيةُ الكَريمَةُ تَأْكِيدًا للحَقيقَةِ الَّتي وَرَدَتْ في الآيَةِ الَّتي قَبلَها، وَهِيَ أَنَّ المُرْسَلينَ ـ صَلَواتُ ربِّي وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، هُمْ بَشَرٌ كَسَائرِ البَشَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "ما" نَافِيَةٌ. و "جَعَلْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظِيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "جَسَدًا" مفعولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أُريدَ بِهِ الجَمْعُ، وَإِنَّمَا وُحِّدَ لِيَشْمَلَ الجِنْسَ عَامَّةً؛ لِأَنَّ الجَسَدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ غِذَاءٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ؛ أَيْ: ذَوِي جَسَدٍ غَيْرِ آكِلِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "خَلَقَ" وَ "أَنْشَأَ" فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وعَلَيْهِ فـَ "جَسَدًا" نَصْبٌ على الحَالِ بِتَأْوِيلِهِ بِمُشْتَقٍ، أَيْ: مُتَغَذِّيْنَ؛ لِأَنَّ الجَسَدَ لا بُدَّ لَهُ مِنَ الغِذَاءِ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: إِنَّ "لَا يَأْكُلونَ" حَالٌ أُخْرَى بَعْدَ "جَسَدًا" إِذَا قُلْنَا إِنَّ "جَعَلَ" يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. وَفي قولِهِ هَذَا نَظَرٌ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ لِـ "جَسَدًا" بِالاعْتِبَارَيْنِ، وَلَا يَلِيقُ المَعْنَى إِلَّا بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رَسُولٍ}.
قولُهُ: {لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} لا: نافيةٌ، و "يَأْكُلونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رفعِهِ ثَباتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "الطَّعامَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةٌ لِـ "جَسَدًا".
قولُهُ: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ. و "ما" نَافِيَةٌ. وَ "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُهُ. وَ "خَالِدِينَ" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ: لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالم، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "وَمَا جَعَلْنَاهُمْ" عَلى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.